الدكتور جميل الدويهي: الاقتباس الجبرانيّ – أربعة نصوص من "المجنون" نماذج (ورقة نقديّة مقارنة)
مقدّمة
كتبتُ في العام 2008 مقالة بعنوان "مصادر جبران الفكريّة مصادفات أم اقتباسات؟" أخذت بعض الجدل، وتناقلتها مواقع، وواجهها المتحزّبون لجبران خليل جبران – وأنا من المتحزّبين له أيضاً- بمشاعر الضيق والنفور
وأجزم أنّ جبران هو أكثر المهجريّين قاطبة الذين اعتمدوا الاقتباس عن المصادر، فـ"يسوع ابن الإنسان" نسخة مطوّرة لما ورد في الإنجيل المقدّس، وفي "حديقة النبيّ" يكون جبران المصطفى مع تلاميذ له، يأكلون ويشربون (كما في علّيّة أورشليم)، فيقول لهم:"يا رفاقي وأحبّائي، في طريقكم تقابلون رجالًا ذوي حوافر؛ أعطوهم أجنحتكم، ورجالاً ذوي قرون؛ فاعطوهم أكاليل الغار، ورجالاً بمخالب؛ فقدّموا لهم بتلات أصابعكم. وآخرين ذوي ألسنة متشعّبة؛ فامنحوهم كلمات العسل
نعم، سوف تقابلون كل هذا وأكثر؛ وسوف تقابلون العرج يبيعون العكاكيز، والعميان يبيعون المرايا. وتقابلون الأغنياء وهم يستعطون عند باب الهيكل
للعرج أعطوا سرعتكم، وللعميان رؤيتكم. وانظروا أن تعطوا من أنفسكم للمتسوّلين الأغنياء. إنهم الأكثر احتياجًا على الإطلاق، لأنه بالتأكيد لا يمكن لأحد أن يمد يده للصدقة إلّا إذا كان فقيرًا بالفعل، على الرغم من امتلاكه لممتلكات كبيرة
رفاقي وأصدقائي، أعهد إليكم بحبّنا بأن تكونوا دروباً لا تعدّ ولا تحصى تتقاطع في الصحراء، حيث تمشي الأسود والأرانب، وكذلك الذئاب والأغنام
وتذكروا هذا مني: أنا لا أعلمكم العطاء، بل الأخذ... ليس النكران بل تحقيق الغاية... ليس الخضوع بل التفهم، مع ابتسامات على شفاهكم". (جبران، حديقة النبي (1950)، ص 55-56)
ليس خفيّاً التشابه هنا مع كلام السيّد المسيح في الإنجيل المقدّس (إنجيل متّى – الإصحاح 10)، كما الإشارة إلى أنّ الأسود والأرانب تمشي سويّة وكذلك الذئاب والأغنام، ترداد لِما جاء في كلام أشعيا النبيّ عن مجيء المسيح، حيث "يَسْكن الذئب مع الخروف، ويرْبض النمر مع الجدي، والعجل والشبل والمسَمَّن معًا، وصبيٌّ صغير يسوقها". (سفر إشعياء - 11: 6)
وفي عظة "المحبّة" من كتاب"النبي" معارضة لرسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الثالث عشر، التي يقول فيها
إن كنت أتكلم بلسان الناس والملائكة ولكن ليس لي محبّة فقد صرت نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ. وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكلّ علم وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبّة فلست شيئاً. وإن أطعمت كلّ أموالي، وإن سلمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً. المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقيح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تغضب ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق وتحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء، المحبة لا تسقط أبداً
وفي قول جبران: "إنما الناس سطور كتبت لكن بماء" نقلٌ شعري لما كُتب على قبر الشاعر جان كيتس: هنا يرقد إنسان كتبت حياته بماء
Here lies one whose name was writ in water…
وأورفليس جبران هي تمثيل لمدينة غولغونوزا ويليام بلايك الذي كان يلقَّب بالمجنون، ويسمّي نفسه "النبيّ
يقول تشسترتون عن جنون بلايك
الجنون ليس فوضى. والجنون عبودية، انقباض. لن أدعو بلايك بالجنون بسبب أي شيء سيقوله. لكنني سأصفه بالجنون طالما كان هناك أي شيء يجب أن يقوله. الآن، هناك ملاحظات عن هذا الطغيان في بلايك. لم يكن الأمر مثل مرض العقل الفعلي الذي يجعل الإنسان يعتقد أنه قطّة أو كلب؛ وكان أشبه بمرض الأعصاب الذي يجعل الرجل يقول "كلب" عندما يقصد "قطة". يمكن ملاحظة قفزة أو رعشة عقليّة من هذا النوع بشكل خاصّ عند بلايك. كان لديه في شعره عادة غريبة جدًا، وهي عادة لا يمكن اعتبارها عقلانية تمامًا
(G.K Chesterton, William Blake (1910), P. 84)
وكانت الفترة بين عامي 1789- 1820، توصف بأنها فترة كتب النبوءة عند بلايك، ونشر خلالها كتب “أميركا النبوءة”، و“أوروبا النبوءة”، تماماً كما وُصفت المرحلة الأخيرة من حياة جبران الإبداعيّة: “النبي”، "المجنون”، "السابق”، "التائه”، "حديقة النبي”، بأنها مرحلة كتب النبوءة. يقول طارق علّوش: “وقد رأى البعض في جبران امتداداً لبلايك، إذ كان جبران شديد الإعجاب بإبداعيّة بلايك، واقتفى أثره في شعره ورسمه المتكاملين
(علّوش، في الموسوعة العربية: arab-ency.com.sy/ency/details/2341/5)
“Golgonooza City of Imagination”وللتأكيد على مدينة ويليام بلايك الخياليّة، وضعتْ كاثلين راين كتاباً يحمل عنوان
:ويقول بلايك في إحدى قصائده النبوئيّة
في جميع الجوانب حول أربع جهات العالم
إلى الشرق من أوروبّا نحو الفرات
والهندوس إلى النيل
وعودة في غيوم الموت عبر الأطلسيّ
إلى أميركا الشمال والجنوب
هكدا تكلّم "أونولون"
مستذكراً بغبطة ودهشة
لكنّهم لم يستطيعوا رؤية غولغونوزا
من غير عبور بوليبوس
(Russel and Maclagan, William Blake (1907) P. 37)
ولن أضيف شيئاً لو قلت إنّ جبران، في كتاب النبيّ، تأثّر بفريدريك نيتشه في كتابه "هكذا تكلّم زرادشت"، وهناك إجماع لدى النقّاد والعامّة أيضاً بخصوص هذا التأثّر. يقول علي الربّاج: "في اللحظة التي قرأت أول سطر من الكتاب (النبيّ)، رأيت أمامي شبح "نيتشه" بشاربه الكثيف، وعينيه الغائرتين، فأنا أعرف جيداً أسلوب نيتشه -فقد قرأت معظم كتبه- وخاصة الذي خط به كتابه الأفضل "هكذا تكلم زرادشت"… أسلوب نيتشه حاضر بقوّة في كتاب النبيّ، بل لا أبالغ إن قلت إنّ اللبناني ما أمكنه الخروج من تحت عباءة الكتاب -ليس بالمعنى القدحي، لدرجة أنّ التل والنسر والسفينة والكثير من الصور النيتشاويّة حاضرة في كتاب النبي، يصعب على القارئ التغافل عنها… ولا عجب إذاً في أن جبران خليل جبران، رغم قامته الأدبية، قد نسخ أسلوب الألماني، وكتب على منوال "زارا" قصة مصطفى العارف بالله”. (الربّاج، نيتشه في بيروت، موقع العربيّ الجديد، ينظر
alaraby.co.uk/نيتشه في بيروت)
ولن أخوض في جميع ما استوحاه جبران من الأدب العالمي أو التراث الإنسانيّ السابق لعصره. ولكن أؤكد أن لا أحد في المغتربات كلّها كان واضحاً أكثر منه في الاقتباس، الذي يعتبره البعض عيباً، ويعتبره آخرون حقّاً، بل دلالة على الثقافة العميقة والاطلاع
المجنون أنموذجاً
في كتاب "المجنون" أربعة نصوص على الأقل، لها علاقة بما يمكن تسميته "الاقتباس الجبرانيّ"، وأهمها النص الأول في الكتاب "كيف أصبحت مجنوناً؟" وهو نصّ رمزيّ مغلق، كثيراً ما سُئلت عنه وعن تفسيره. وقبل أن أشرح معناه وأربطه بالمصدر المقتبس منه، أعرض جزءه الأهمّ، الذي يعنيني في هذه المطالعة
في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضت من نوم عميق فوجدت أن جميع براقعي قد سرقت- البراقع السبعة التي حكتُها وتقنّعت بها في حيواتي السبع على الأرض- فركضت أصرخ: "اللصوص! اللصوص! اللصوص الملاعين!" فضحك الرجال والنساء مني وهرب بعضهم إلى بيوتهم خائفين مذعورين
وعندما بلغت ساحة المدينة إذا بفتى قد انتصب على السطوح وصرخ قائلاً: إن هذا الرجل مجنون أيّها الناس! وما إن رفعت نظري لأراه حتى قبّلت الشمس وجهي العاري لأول مرة. لأول مرة قبلت الشمس وجهي العاري، فالتهبت نفسي بمحبة الشمس ولم أعد بحاجة الى براقعي". (جبران، المجنون (1985) ص، 5)
شرح النصّ: في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة، تعبير عن إيمان جبران بالتقمص. والبراقع السبعة في النص الجبراني هي الوجوه التي كانت له في ما يسميه صراحة حيواته السبع على الأرض. وفكرة الحيوات السبع هي فكرة هنديّة، ففي الهندوسية سبع حيوات متتالية هي
Atala, Vitala, Nitala, Garbhastimat, Mahatala, Sutala and Patala.
(Dawson, A Classical Dictionary of Hindu Mythology and Religion (2013) P. 233)
Charkasوهذه الحيوات تسمى
قد تتغيّر أسماؤها قليلاً في طقوس هندية مختلفة، لكن العدد 7 لا يتغير. وأغلب الظن أن جبران تعرف على الحيوات السبع من تلاميذ هنود عندما كان صغيراً في المدرسة في أميركا. وتُخالف الحيوات السبع الفكرة المسيحيّة القائلة بحياتين، واحدة على الأرض والثانية بعد الموت
واللصوص الذين سرقوا أقنعة جبران، هم ملائكة الموت :”تعلمون أنه لو عرف رب البيت أي ساعة من الليل يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب لذلك كونوا أنتم أيضا مستعدين ففي الساعة التي لا تتوقعونها يأتي ابن الإنسان”. (متّى 24 : 43 ، 44)، أمّا الخوف الجبرانيّ فمردّه إلى أن الحيوات السبع قد انتهت، ولا يحق لجبران بحياة ثامنة. وعندما رأى الشمس، رأى الله، وأصبح طاهراً، فلم يعد بحاجة إلى الأقنعة أي إلى مزيد من الحيوات
وفكرة التطهّر من خلال الحيوات السبع هي ذات أصل هندوسي، فخلال 3 حيوات الأولى يتصرّف المخلوق البشريّ تصرّفاً عاديّاً
والحياة السادسة هي مرحلة ألوهيّة، فالوعي بالله يبدأ بالتبلور، ويعتقد الهنود أنّه بعد الحياة الرابعة ينفتح قلب البشري، وبعد ذلك يبدأ التنوير في كيانه، وصولاً إلى الطهارة الكاملة
وفي الحياة السادسة تبدأ مرحلة الألوهيّة، أي إنّ وعي الإنسان بالله يبدأ بالتبلور، أمّا الحياة السابعة فهي الكمال، حيث لا فرق بين الإنسان والإله.
(.وهذا ما يُسمى بالحلولية التي ترفضها الديانات السماويّة، وكان بعض الصوفيّين يؤمنون بها إيماناً عميقاً: (الحلاّج: أنا الله، أنا الحق
إن لقاء جبران بالشمس عندما رفع نظره، يرمز إلى الانتهاء من الحيوات السبع، والدخول في التطهّر والاندماج مع عالم الإله
وفي اعتقادي أن نص "الذوات السبع" في كتاب "المجنون" (ص 24)، هو انعكاس للحيوات السبع التي آمن بها جبران، نقلاً عن الهندوس
ويواصل جبران الأخذ بتأثيرات غيريّة في نصّ بعنوان "الثعلب"، فيقول: "خرج الثعلب من مأواه عند شروق الشمس فتطلّع إلى ظلّه منذهلاً وقال: سأتغدّى اليوم جملاً! ثم مضى في سبيله يفتش عن الجِمال الصباح كلّه. وعند الظهيرة تفرّس في ظلّه ثانية وقال مندهشاً: بلى إنّ فأرة واحدة تكفيني”. (جبران، المجنون (1985) ص 32)
هذا النص محوّر عن أقصوصة لإيزوب اليوناني، وهو واضع أوّل كتاب نعرفه في التاريخ عن قصص الحيوان، والأقصوصة الأيزوبيّة بعنوان "الذئب وظلّه"، تقول
غادر الذئب مخبأه ذات مساء بروح عالية وشهيّة ممتازة. وبينما كان يركض، ألقت الشمس الغاربة ظله بعيدًا على الأرض، وبدا كما لو أن الذئب كان أكبر بمئة مرة مما كان عليه بالفعل
.صاح الذئب: "لماذا؟"، ثم أضاف بفخر: "أنظر كم أنا كبير! تخيّل أنني أهرب من أسد تافه! سأريه مَن يصلح لأن يكون ملكًا، هو أم أنا
في تلك اللحظة، انحجب ظلّه تمامًا، وقضى عليه الأسد بهجمة واحدة
(https://read.gov/aesop/049.html)
ليس النصّ الجبراني منقولاً، بل هو مستوحى، وقد حوّره بطريقة ذكية، ليؤدي وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظر إيزوب، لكن في النهاية يعود الحيوان البرّيّ إلى حجمه الطبيعيّ، ويتخلّى عن اعتقاده بأنّه أكبر حجماً
:أمّا نصّ "الملك الحكيم"، فهو بالتأكيد منقول من قصّة قديمة، لم نتمكن من معرفة أصلها، وإن كنا نميل إلى أنّها من الشرق البعيد. ويروي جبران القصة على النحو التالي
كان في إحدى المدن النائية ملك جبّار حكيم، وكان مخوفًا لجبروته محبوبًا لحكمته"
وكان في وسط تلك المدينة بئر ماء نقي عذب، يشرب منها جميع سكّان المدينة من الملك وأعوانه فما دونه، لأنّه لم يكن في المدينة بئر سواها
وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ساحرة إلى المدينة خلسة، وألقت في البئر سبع نقط من سائل غريب وقالت
" كلّ من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنونًا"
وفي الصباح التالي شرب كلّ سكان المدينة ، وجنّوا على نحو ما قالت الساحرة. ولكن الملك والوزير لم يشربا من ذلك الماء
وعندما بلغ الخبر آذان المدينة طاف سكّانها من حيّ إلى حيّ ومن زقاق إلى زقاق وهم يتسارّون قائلين
" قد جنّ ملكنا ووزيره. إن ملكنا ووزيره قد أضاعا رشدهما. إننا نأبى أن يملك علينا ملك مجنون. هيا بنا نخلعه عن عرشه"
وفي ذلك المساء سمع الملك ما جرى فأمر على الفور بأن يُملأ حقّ ذهبي (كان قد ورثه عن أجداده) من مياه البئر. فملأوه في الحال وأحضروه إليه. فأخذه الملك بيده إلى فمه. وبعد أن ارتوى من مائه دفعه إلى وزيره فأتى الوزير على ثمالته
فعرف سكّان المدينة بذلك، وفرحوا فرحًا عظيمًا جدًّا لأن ملكهم ووزيره ثابا إلى رشدهما" (جبران، المجنون (1985) ص 33)
ويبدو أنّ البئر استُبدلت بنهر في قصص أخرى، وقد كتب توفيق الحكيم القصة نفسها في مسرحية من فصل واحد بعنوان "نهر الجنون" ، وأعلن توفيق الحكيم بنفسه في مجلة "الرسالة" سنة 1935 قائلاً: "إنّي سمعت هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسنة كغيرها من الأساطير، ولم يصل إليّ خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنّما عن طريق أفواه الناس”. (متولّي، نهر الجنون مسرحيّة لم يؤلّفها توفيق الحكيم، في القدس العربي، 17 نيسان 2023)
إذن توفيق الحكيم سمع بالقصة في حدود العام 1905، وكتاب جبران "المجنون" نشر عام 1918، وربّما يكون توفيق الحكيم قد علِم بالقصّىة قبل جبران
ونُقل عن محمد لطفي جمعة، الذي كان يتّهم توفيق الحكيم بالنقل والتقليد، قوله: “انتحل قصّة نهر الجنون ونسبها لنفسه وهي بالإنجليزية في دائرة المعارف لتشامبرز قرأتها بنفسي." (صلاح الدين، تعرّف على صراعات "الوعي" لدى توفيق الحكيم، البوّابة نيوز، 26 تموز 2018)
وتشامبرز هو روبرت تشامبرز، أديب أميركي مكثر، (1865- 1933). وضع أكثر من 48 كتاباً في الروايات والقصة القصيرة، ويغلب على أعماله طابع الرعب. من كتبه "الملك باللباس الأصفر"، "القدم الحمراء الصغيرة"، "أثالي"، "طريق ضوء القمر"
كما كتبَ أقصوصة جبران نفسها باولو كويلو، بعنوان "بئر الجنون"، في روايته "فيرونيكا تقرّر أن تموت"، على النحو التالي
ساحرة قوية، أرادت تدمير مملكة بأكملها، فوضعت جرعة سحرية في البئر التي يشرب منها جميع السكان. ومن يشرب ذلك الماء يصيبه الجنون
وفي صباح اليوم التالي، شرب جميع السكان من البئر فجنوا جميعًا، باستثناء الملك وعائلته، الذين كان لديهم بئر مخصصة لهم وحدهم، ولم تتمكن الساحرة من تسميمها
شعر الملك بالقلق وحاول السيطرة على السكان من خلال إصدار سلسلة من المراسيم التي تحكم الأمن والصحة العامة
لكن رجال الشرطة والمفتشين شربوا أيضًا الماء المسموم، واعتقدوا أن قرارات الملك سخيفة وقرروا عدم الالتفات إليها
عندما سمع سكان المملكة هذه المراسيم، اقتنعوا بأن الملك قد جن جنونه، وأصبح الآن يصدر أوامر لا معنى لها. وساروا إلى القلعة وطالبوا بالتنازل عن العرش
وفي حالة يأس استعدّ الملك للتنحي عن العرش، لكن الملكة أوقفته قائلة
"دعنا نذهب ونشرب من البئر المشتركة. ثم سنكون مثلهم”
شرب الملك والملكة ماء الجنون وبدآ على الفور في التحدث بالهراء
هدأ الرعايا على الفور. قالوا: الآن وقد أظهر الملك مثل هذه الحكمة، فلماذا لا نسمح له بمواصلة حكم البلاد؟
نصّ باولو كويلو بالانكليزية
The Well of Madness
A powerful wizard, who wanted to destroy an entire kingdom, placed a magic potion in the well from which all the inhabitants drank. Whoever drank that water would go mad.
The following morning, the whole population drank from the well and they all went mad, apart from the king and his family, who had a well set aside for them alone, which the magician had not managed to poison.
The king was worried and tried to control the population by issuing a series of edicts governing security and public health.
The policemen and inspectors, however, had also drunk the poisoned water, and they thought the king’s decisions were absurd and resolved to take no notice of them.
When the inhabitants of the kingdom heard these decrees, they became convinced that the king had gone mad and was now giving nonsensical orders. They marched on the castle and called for his abdication.
In despair the king prepared to step down from the throne, but the queen stopped him, saying:
‘Let us go and drink from the communal well. Then we will be the same as them.’
The king and the queen drank the water of madness and immediately began talking nonsense.
Their subjects repented at once; now that the king was displaying such wisdom, why not allow him to continue ruling the country?
(https://paulocoelhoblog.com/2013/05/15/the-well-of-madness)
نجد أن كويلو اعتمد النص الجبراني كما هو، لكن جعل زوجة الملك تحلّ مكان الوزير فقط. أمّا السياق فهو نفسه. ومن غير المعقول أن يكون كويلو قد نسخ جبران بهذا الشكل الفاقع، لولا علمه بأنّ النص الجبراني مأخوذ أصلاً من حكاية تقع في نطاق الملكية العامة، ويحقّ لأي أحد أن يستخدمها
الخلاصة
لقد حاولنا بالتـأكيد أن نضيء على الاقتباس عند جبران في أربعة نصوص من "المجنون"، فهو المتفرّد في أدب المهاجر بهذه الناحية، فلا نعيمة ولا الريحاني ولا أيّ أديب آخر نعرفه استخدم هذا الأسلوب بجرأة، من دون ذكر المصادر. وهذه الطريقة عثرنا عليها أيضاً عند صلاح لبكي في كتابه" من أعماق الجبل"، حيث أخذ نصّاً لطاغور بعنوان "طليق وسجين"، وأثبته لنفسه من غير ذكر المصدر
وبينما نحن نحكم على جبران، هل نتبنّى ما كتبه محمد لطفي جمعة عن توفيق الحكيم عندما اتّهمه بالنقل والتقليد، فقال إنّه انتحل قصّة نهر الجنون ونسبها لنفسه؟ وهل التهمة التي وجّهها جمعة إلى الحكيم تنطبق نفسها على جبران؟
المسألة فيها نظر وتثير الانقسام. وفي التاريخ كثير من الكتب التي وُضعت بناء على تراث سابق، مثل "جحيم" دانتي، وهو من أعظم الكتب، ووضعَ شكسبير "يوليوس قيصر"، ومثله فعل الكلاسيكيّون
وكتب غوته قمّة أعماله "فاوست" مستوحياً قصّة كانت متداولة في المجتمع الألمانيّ، وبطلها عاش قبل غوته بوقت طويل أي بين 1480-1540، وكان أكاديميّاً مرموقاً اسمه جورج فاوست، وبعد موته تحول اسمه إلى يوهان فوستوس، وقيل إن الشيطان قد لازمه على هيئة كلب، وكان يمثّل سمات هوميروس أمام طلابه، ويخدع البابا والامبراطور والأمراء. وبعد أن انتهت المعاهدة بينه وبين الشيطان لمدة 24 سنة، مزقته الأبالسة ورمت به في الجحيم. وقد كتب كريستوفر مارلو قصّة بعنوان Tragical History of Doctor Faustus في العام 1604، أي قبل 204 سنوات من ظهور مسرحية "فاوست" لغوته. (Goethe, Faust Part 1 (1987), p.p xiii-xiv). وكتبَ الأخوان رحباني مسرحيّة "فخر الدين"، وكتب سعيد عقل مطوّله "المجدليّة " المستقاة من الإنجيل المقدّس، ومسرحيّة "بنت يفتاح" المستقاة من التوراة، وهي قصّة بنت يفتاح الجلعاديّ، وفحواها أنه عن نشبت الحرب بين بني إسرائيل وبني عمّون، رغب شيوخ جلعاد أن يقيموا قائدًا عليهم، فأبى يفتاح الجلعاديّ في بادئ الأمر أن يكون زعيماً لسوء معاملة قومه له سابقًا، ولكنه أذعن أخيرًا لطلبهم فصار زعيمهم. وحاول تسوية النزاع بالطرق السلميَّة لكنّه فشل، فقرّر أن يشنّ الحرب على العمونيّين، وقبل الشروع في القتال نذر أنه إذا انتصر فسيقدم من يلاقيه أولًا عند رجوعه محرقة للرب. وبعد انتصاره، وكان أول من لقيه ابنته الوحيدة تضرب على الدف ابتهاجًا بنصره. وعندما أخبرها بنذره قبلت نصيبها بخضوع، وبعد شهرين صرفتهما في الجبل تبكي عذريتها عادت إليه، فوفى نذره فيها. (سفر القضاة- 11: 4-39)
ونترك للمتلقي الحكم على هذه الطريقة، فهل هي فضيلة أم عيب؟ القضية تحتاج إلى نقاش
______
-مشروع أفكار اغترابية للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية - تعدّد الأنواع
د. جميل الدويهي
القصّة الأبورجينيّة عن الفيضان
مقارنة تاريخسطوريّة
وردت عند الشعب الأستراليّ الأصليّ قصص عن الفيضان العظيم، أو الطوفان. وعلى الرغم من اعتقادنا أنّ هذه القصص أسطوريّة، لأنّها تعتمد على شخصيّات ميثولوجيّة غير مرئيّة، فإنّها تنطوي أيضاً على حقيقة تاريخيّة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ القصص الأبورجينيّة تلك، ذات طابع تفسيريّ، لفهمنا أنّ فيضاناً حدث بالفعل، ونشأت القصّة بناء على الحدث، ومن أجل تفسيره.
وإذا كان الأبورجينيّون الذين عاشوا في أستراليا منذ حوالي 60 ألف عام، لم يخرجوا من القارّة – كما هو معروف لدى المؤرّخين- فما سرّ هذا التشابه مع القصص الأخرى، في الموضوع نفسه؟
ربما كانت أقدم قصّة عن الفيضان ما ورد في ملحمة جلجامش، وكان هذا ملكًا سومريًا يقال إنه حكم لمدة 126 عامًا. وفي الملحمة يقوم أوتنابيشتيم بصنع سفينة، نجت من "الطوفان العظيم". وجلب أوتنابيشتيم جميع أقاربه وجميع أنواع المخلوقات على متن سفينته لإنقاذ البشرية.
وصاحبت إبحار السفينة السومريّة أعاصير وعواصف عاتية. حتّى أنّ الآلهة أنفسهم ذعروا من هول الطوفان، وهربوا إلى السماء. ودام الفيضان ستّة أيام فغرق الجنس البشريّ، عدا أوتنابيشتيم ومن معه. وتحطّ السفينة الناجية على جبل "نصير"، ومن هناك يرسل المنقذ الأسطوريّ حمامة للبحث عن يابسة، لكنّها تعود إليه، ويعيد الكرّة مع سنونوّ، ولكنّه أيضاً يعود دون أن يجد يابسة. وفي المرّة الثالثة يطلق غراباً يطير في السماء دون أن يعود. فيستدلّ أوتنابيشتيم بذلك أنه وجد يابسة.
هناك ملاحظات على هذه القصّة التي وردت في اللوح الحادي عشر لملحمة جلجامش، الأولى الإشارة إلى الجنس البشريّ، وتلك مبالغة، إذ لم يكن السومريّون يعرفون بوجود القارّات والأمم الأخرى كلّها، لبعد المسافة. فأغلب الظن أنّ الجنس البشري المقصود هو البشر الذين كان يمكنهم الوصول إليهم في ذلك الزمان. أما الملاحظة الثانية، فهي إرسال الطيور، كما في التوراة لاحقاً، لاكتشاف اليابسة.
وقصّّة الفيضان تتكرّر عند قبائل الأزتيك في أميركا الوسطى. إذ يحذر الإله تيتلاشوان رجلاً يدعى نوت -أو ناتا-، وزوجته نينا، من فيضان قادم. فيقوم ناتا ونينا بتفريغ شجرة، يغلقها عليهما تيتلاشاوان وهما بداخلها، ويخبرهما بأنّ عليهما أن يأكلا فقط قرناً واحداً من الذرة لكلّ منهما. وحدث الفيضان، لكن لم يمت الناس، بل تحوّلوا إلى أسماك. أمّا نوت ونينا، فقد خالفا أمر الإله وأكلا السمك بدلاً من الذرة، فجعلهما كلبين.
وفي اليونان القديمة، قصّة أكثر عمقاً، حيث أنّ زيوس كبير الآلهة، يغضب من البشر، ويطلب من دوكاليون، ابن بروميثيوس، أن يصنع سفينة لنفسه ولزوجته بيرها، التي هي أيضًا ابنة عمّ دوكاليون. وبعد تسعة أيّام من الفيضانات التي دمّرت العالم، استقرّت السفينة على قمّة جبل بارناسوس. وبعد أن انحسرت المياه، قدّم الناجيان ذبيحة لزيوس، وسألاه عن كيفيّة إيجاد بشر من جديد على الأرض، فنصحهم زيوس بإلقاء الحجارة، فتحوّلت الحجارة التي ألقاها دوكاليون رجالاً، وتلك التي ألقتها بيرها نساء.
أمّا حكاية الطوفان في الهند القديمة، فغريبة ولا تشبه أيّ قصّة في الديانات الأخرى. فالرجل الأوّل (آدم عندنا) هو مانو. وقد زارته السمكة ذات القرن-الإله، وأخبرته بأنّ العالم سوف يغرق في طوفان عظيم. فصنع مانو قاربًا وربطه بقرن السمكة، فقادته خلال الفيضان، حتّى وصل إلى قمّة جبل. وعندما انحسر الطوفان، قدّم مانو تضحية للإله، فسكب الزبدة والحليب في البحر. وبعد عام، تحوّلت الزبدة والحليب إلى امرأة خرجت من الماء، وأعلنت عن نفسها "ابنة مانو". وهكذا فإنّ مانو و"ابنته" هما اللذان أعادا إعمار الأرض.
ولدى الصينيّين العديد من قصص الفيضان، وهذا طبيعيّ، بسبب المساحة الواسعة للبلاد وتعدّد الأقوام فيها. ومن تلك القصص المدهشة أنّ مزارعاً تمكّن من أسر إله الرعد وسجنه، وحذّر ابنه وابنته من الاقتراب من الإله في قفصه. لكنّ الولدين، في غياب والدهما، أشفقا على إله الرعد وأطلقا سراحه. فشكرهما وحذّرهما من فيضان عظيم. وأعطاهما ثمرة يقطين كبيرة جدًّا، ونصحهما أن يبقيا في داخلها إذا ارتفعت المياه. وبذلك كان الطفلان الوحيدين اللذين نجيا. ولا تخبر القصّة المزيد، باعتبار أن سفاح القربى، أي الزواج من القريب، محرّم في كثير من الحضارات القديمة... لكن في رواية أخرى، فإنّ الأخ وأخته حصلا على استثناء خاصّ من السماء. فتزوّجا وأنجبا طفلاً بلا ذراعين وقدمين، فقتل الأخ الطفل وقطّعه إرباً، ورمى بالقطع فوق التلّ. في اليوم التالي خرج من تلك القطع رجال ونساء.
ومن الطبيعيّ أن تكون قصص الفيضان شائعة في المجتمعات التي تعرف المطر الغزير، فلسنا نسمع مثلاً بقصص الفيضان في البلدان التي تضمّ الصحارى الشاسعة، أو ينحبس فيها المطر لمدد طويلة. ففي الشمال الأوروبّي (اسكندنافيا) تطالعنا قصّة الشقيقين أودين وفيلي اللذين قتلا العملاق إيمير، فتحوّل دمه إلى فيضان عظيم، ونجا فقط عملاق ثلجيّ يدعى بيرجلمير وزوجته، من خلال صنع سفينه خشبيّة، وولدا العالم بعد ذلك.
إنّ طبيعة المناخ الثلجيّ في اسكندنافيا، فرضت أن يكون العملاق الناجي ثلجيّاً أيضاً.
ولدى الهنود الحمر في أميركا الشماليّة، قصّة الروح العظيم الذي كان غير راض من الإنسان، وخلق طوفانًا عظيمًا. وكان الناجي الوحيد رجل يدعى وينابوزهو الذي جمع جذوع الأشجار والعصيّ، ليصنع سفينة لنفسه والحيوانات الأخرى، فطافوا أكثر من شهر ، لكنّ المياه لم تنخفض. فقرّر وينابوزهو إعادة بناء الأرض، لكن كان عليه الحصول على الطين من العالم القديم الذي غرق في أعماق المياه.
حاولت الحيوانات أن تغوص بحثاً عن الطين، فلم تنجح، ما عدا بطّة صغيرة تدعى أجاغادي، استطاعت أن تحمل قطعة صغيرة من الطين، أخذها وينابوزهو، ووضعها على ظهر السلحفاة العائمة ميكيناك، فأصبحت قطعة الطين الأرض كلّها.
تتعدّد القصص الأسطوريّة عند الأبورجينييّن، فهم ليسوا شعباً واحداً، بل كانوا حوالي 500 قبيلة، يتفرّقون في أنحاء أستراليا الشاسعة، حيث لا مواصلات ولا اتّصالات. ولأنّ القصص الأبورجينيّة تفسيريّة في العموم، فقد كان من البديهيّ أن تكون لكلّ ظاهرة طبيعيّة، أو حيوان، أو نبات... قصّة تفسّر وجودها. وبسبب تعدّد القبائل، تعدّدت الروايات التي لم تكن مكتوبة، بل نقلها الخلف عن السلف، فوصلت إلينا، وقام كتّاب بوضعها في كُتب. وأوّل كتاب عربيّ في هذا الموضوع كان لنا الشرف في وضعه، وهو بعنوان "حكايات جدّة أبورجينيّة". وفيه قصّة واحدة عن الفيضان، بعنوان "الأب العظيم والفيضان”، هذا نصّها:
"هذه القصّة هي الأجمل بين قصص الفيضان. ومفادها أنّ بعض الأطفال وجدوا بومة غامضة في شجرة، فنتفوا ريشها، وأدخلوا عشباً في أنفها، وعاملوها بأفظع ما يكون. طارت البومة إلى السماء، وشكت أمرها للأب العظيم "نْغوونغو"، فغضب بشدّة وقرّر إغراق الناس… وما هو إلاّ وقت قصير، حتّى رأى البشر سحابة صغيرة تتصاعد وتكبر، حتّى انتشرت في السماء، وقصف الرعد. وهبّت رياح مع المطر الغزير، فاقتلعت الأشجار. وسُمع هدير من الشمال، فقد بدأ البحر يتدفّق، فيغمر اليابسة، ويصل إلى قمم الجبال. ولم يبق ظاهراً سوى قمّتين أو ثلاث.
طار عصفور وفي فمه ورقة شجر، ليوضح للهاربين الطريق إلى جبل"بروم". وكان رجل وزوجاته وأطفاله مع كلب في زورق، فرأوا العصفور، وتبعوه إلى الجبل، حيث كان بعض الناجين الآخرين. ثمّ قام رجل أعسر وضخم، يدعى "جبالغاري"، بقطع إصبع يده الصغيرة، فتدفّق الدم إلى مياه الفيضان. وبدأت المياه تنخفض، ثمّ اختفت. وغرق جميع الناس عدا الذين وصلوا إلى قمّة الجبل."
القصّة كلّها متخيَّلة، وتغرق منذ بدايتها بعدم التصديق، فلا البومة موجودة، ولا الأطفال نتفوا ريشها، ولا هي طارت إلى الإله لتخبره بما جرى لها، ولا هو غضب من أجلها فأغرق جميع البشر، مقابل ما فعله نفر من الأطفال.
لكن ما يلفت النظر أنّ قصّة الأبورجينيّين تشبه قصّة التوراة، فالإله العظيم نغوونغو هو البطل. يتغيّر اسمه بالطبع. وهناك إله آخر عند الأبورجينيّين هو بيامي العظيم. وكما في التوراة، فهذا الإله هو الذي يصنع الفيضان. وقد طلب من نوحٍ أن يدخل هو وجميع أهل بيته في الفُلك، لأنّه بارّ في الجيل. وأن يأخذ معه من البهائم سبعة سبعة، ذكراً وأنثى. ومن البهائم التي ليست طاهرة اثنين اثنين. ومن طيور السماء سبعة سبعة، لاستبقاء نسل على الأرض. لأنّه (الربّ) بعد سبعة أيّام سيمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. ويمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عمِله. ففعل نوح كما أمره الله.
وكما نرى ليس هناك تفصيل في القصّة الأبورجينيّة عن عدد الأيّام التي يحدث فيها الفيضان، وعن الحيوانات التي نجت. فالرواية الأبورجينيّة بسيطة، منقولة على ألسنة الأقدمين، وغير موضوعة بعناية في كتاب مقدّس. والإله غاضب، في كلتا الروايتين، من البشر وتصرّفاتهم. فكما أنّ الله غضب من الناس في التوراة، فقد غضب هنا من تصرّف الأولاد تجاه بومة "غامضة"، وربّما تكون من عالَم أسطوريّ. فالبومة هي الحجّة أو الذريعة التي اتّخذها الإله لمعاقبة البشر جميعاً.
فما هي طريقة العقاب؟
في التوراة يأتي العقاب بوجوه وأشكال متعدّدة، كالنار والحريق تارة (سدوم وعمورة) ، وخراب أورشليم على أيدي الأعداء، والطوفان مرّة واحدة. والعقاب عند الأبورجينيّين هو الطوفان، لأنّه أقصى ما يمكن أن تحدثه الطبيعة، فالنار مثلاً ليست مؤذية كثيراً لهم، بحكم عيشهم في الخيام، وقدرتهم على مغادرة مساكنهم إلى أمكنة أخرى بكلّ سهولة.
وكما في التوراة، يمثّل الطائر الإشارة الوحيدة لظهور الأرض من تحت الماء، فقد أرسل نوح الغراب، ثمّ أرسل الحمامة التي عادت وفي منقادها غصن زيتون، فعلم أنّ المياه قد قلّت عن الأرض. والأسطورة الأبورجينيّة تستخدم العصفور بدلاً من الغراب أو الحمامة، كما تستخدم ورقة شجر في منقاد العصفور بدلاً من غصن الزيتون في منقاد الحمامة. وعلى الرغم من ذلك، فالتشابه قائم إلى حدّ كبير هنا، كما التشابه بين سفينة نوح التي عليها بشر مكتوب لهم الخلاص، والزورق الأبورجينيّ الذي عليه رجل وزوجته وأولاده هم المخلّصون. لكنّ الإله في التوراة ينذر نوحاً بأنّ عليه أن يخلّص نفسه من خلال السفينة، التي اعتبرها بعض المفكّرين المسيحيّين رمزاً سابقاً للسيّد المسيح المخلّص. أمّا في الحكاية الأبورجينيّة، فالناس يخلصون عن طريق الصدفة، بينما هم كانوا على متن الزورق إبّان حدوث الفيضان الذي لا يتوقّعونه.
وفي كلتا الحالين، تستقرّ السفينة على جبل، ففي الشهر السابع، وفي اليوم السابع عشر من الشهر، استقرّ فلك نوح على جبل أراراط. وكانت المياه تنقص حتّى ظهرت رؤوس الجبال. وفي الاقصوصة التي بين يدينا استقرّ الزورق على جبل "بروم"، وهو جبل يقع الآن في أستراليا الغربيّة. ويمثّل الجبل بالطبع قمّة الخلاص، لأنّ سطح المياه لا بدّ أن ينحسر، ويبقى رأس الجبل ظاهراً. وهذا ثابت في العلم، فالأشياء الأعلى تظهر أوّلاً من سطح الماء، والأشياء المنخفضة يتأخّر ظهورها.
وانحسار الماء في التوراة هو مقدّمة للعودة إلى الأرض "كانت المياه تنقص"، وفي قصّتنا بعض التصوّر الدراميّ الأكثر غرائبيّة ودراميّة أيضاً: "ثمّ قام رجل أعسر وضخم، يدعى "جبالغاري"، بقطع إصبع يده الصغيرة، فتدفّق الدم إلى مياه الفيضان. وبدأت المياه تنخفض، ثمّ اختفت". وإنّ اختفاء الماء يبشّر بنزول الناس من الآلة التي حملتهم، إلى اليابسة فينجون من الموت.
أمّا غرق جميع الناس، فهو لبّ الحادثة المأساويّة. وعندما اختار الله نوحاً لينقذه، كان السبب أنّه بارّ، ومن تبقّى وما بقي من الأرض سيُمحى. وفي الأسطورة الأبورجينيّة يحدث الأمر نفسه، فقد "غرق جميع الناس"، ما عدا الذين بلغوا قمة الجبل.
إذن، تجوز المقارنة بين النصّ التوراتيّ ومثيله الأبورجينيّ. والسؤال: هل عرف الأبورجينيّون التوراة؟ أم هل عرف الشرقيّون الحكاية الأبورجينيّة التي قد تكون سابقة بآلاف السنين؟
إذا كان طوفان نوح قد حدث قبل حوالي 5000 قبل الميلاد، بحسب أغلب المؤرّخين، فمعنى هذا أنّه حدث منذ حوالي 7 آلاف عام من الآن. أمّا حضارة السكّان الأصليّين فتعود إلى حوالي 60 ألف سنة. فالأسطورة الأبورجينيّة عن الطوفان سابقة - على الأرجح- لحكاية التوراة. وسواء سبقت أم تأخّرت، أفليس غريباً هذا التشابه بينهما، ويبعث على التفكير؟
لم يخرج الأبورجينيّون من القارّة الأستراليّة، ولا وصلت إليهم ثقافات الشعوب الأخرى – كما نعلم. ولكن من المالوف أن تتشابه الأفكار الإنسانيّة، وتتقاطع الأساطير. فقد تجد مثلاً، حكاية شبيهة بحكاية طائر الفينيق التي مصدرها الساحل الفينيقيّ، في اليابان القديمة. وهذا نسمّيه الخيال الأسطوريّ الجماعيّ الذي ينتج من تلقاء نفسه، وبغير اتّفاق بين الأمم.
وفي كلّ حال، تبقى الأسطورة كنزاً ثقافيّاً، على بدائيّته وسذاجته، يدغدغ مخيّلات الناس، ويدلّ على المستوى الفكريّ الذي كانت عليه الشعوب الأولى، وتفسيراتها لخوارق ومظاهر حدثت، ولم يكن ممكناً شرحها بالعلم، فكانت الأسطورة البديل الذي يتاح من خلاله توضيح الفكرة. وهذا التصوّر الذي لا يُصدّق، يمكن أن تكون له خلفيّة حقيقيّة. فالفيضان قد حدث في بلاد ما بين النهرين، وفي الصين، والهند، وفي اسكندنافيا، وشهده الهنود الحمر في أمريكا، ورآه أجداد الأبورجينيّين القدماء في أستراليا... في تواريخ مخلفة، ونجحت مخيّلات الشعوب الغنيّة والخلاّقة،في توثيقه بطرق متباينة، تتشابه حيناً... وتختلف حيناً آخر.
هموم كبيرة ومسؤوليّات
١٠٣ كتب في نهاية عام ٢٠٢٢
عندما يعرض مشروع واحد 103 كتب في بلاد بعيدة عن مركز الثقافة العربيّة، فهذا معناه أنّ إنجازاً عظيماً قد تحقّق. وسواء اعترف الناس أم لا بجهود جبّارة بذلناها، وتضحيات جسام تحمّلناها، فنحن لنا رأي آخر. ورأينا هو أن يكون لنا فرح بما أنجزناه، وفخر بما أصبناه، ولم لا؟ أفلا يحقّ لمن يطبع كتاباً أن يحتفل ويدعو الناس إلى أمسية، وينشر كتابه؟
بالأمس حدّثتني سيّدة أكاديميّة عبر الهاتف، فهنّأتني، وقالت لي إنّ عليّ الانتظار طويلاً قبل أن يقتنع الناس بأفكاري وأدبي المتنوّع، فما زال الناس مأخوذين بأسماء قديمة، والأدب المعاصر في أغلبه هو أدب الجنس وسلاطة اللسان. وهذا الأخير له أتباع كثيرون، للأسف، بينما أدبي الراقي فيحتاج إلى كثير من الصبر والانتظار - حسب تعبيرها
وطرحنا خلال الحديث عدّة أسماء، تعتمد على الإقذاع والتهتّك والعري، والكلام من الزنّار نزولاً، وتعجّبنا أنا وهي من مقدار المديح لهؤلاء والنهج الذي يتبعونه، وعدد الأنصار لهذه المدرسة التي خرجت بالأدبعن الرفعة، بينما نحن لا يوجد في أدبنا كلمة رخيصة واحدة... وعلينا أن ننتظر
وبينما نسهر الليالي الطوال على رواية، أو كتاب فكريّ عميق المعاني والمغزى، نسمع كلّ يوم آيات في الكلام السليط، وحلّت الغلاظة اللفظيّة في مطالع القصائد، محلّ "السلام الذي من الصَّبا أرقّ"، و"مقادير من جفنيك" عند أحمد شوقي، ومحلّ "سكن الليل" عند جبران، و"السيف أصدق إنباء من الكتب" عند أبي تمّام. وكم خجلتُ وانحنيتُ وراء الكراسي وأنا أسمع بعض الشعراء يكيلون الشتم والإقذاع... ولهم في القلوب منازل، بينما الأدب الرفيع مطارد في البراري، وملاحق بشتّى أنواع الاضطهاد والتمييز
همومي كثيرة، وفي فمي ماء كثير. لكنّ المسؤوليّة تكبر أمام هذا العدد الهائل من الأعمال. وأعتقد أنّ نسبة عالية من الناس لا يصدّقون أنّ مثل هذا المنجز قد حدث في أستراليا، على الرغم من أنّنا ننشر العناوين والصور تباعاً. وفي مهرجان الأدب الراقي الخامس رأى الحاضرون أكبر مجموعة من الكتب على الإطلاق تقدّم في أمسية واحدة... وإذا كان توما قد وضع إصبعه في الجرح وصدّق، فكثيرون يضعون أصابعهم في الحبر اليوم وغداً، ولا يريدون أن يصدّقوا
أملنا في الهيئات الأكاديميّة، والدارسين، والباحثين عن مواضيع جديدة، وعن أهمّيّة التنوّع الذي نقدّمه. فمشروع أفكار اغترابيّة ليس للنشر فقط، بل هو محكّ للنقد، ولو كانت مهمّتنا أن ننشر فقط، لكنّا كالموسيقيّ الذي يعزف لنفسه في غرفة مغلقة. ولا بدّ أنّ أنوار المهجر الأستراليّ والنهضة الاغترابيّة الثانية، ستشعّ في المقلب الآخر، وتدخل تاريخ النقد العربيّ... وهذا أملنا
^^^^
في كتاب التاريخ
ما هو شعوري عندما أضع أكثر من ٣٦ كتابأً على الطاولة في احتفاليّة واحدة
هو شعور بالغبطة، خصوصاً عندما أرى المحبين يختارون من الكتب ما يعجبهم، ويضيفون إلى مكتبانهم من مكتبة أفكار اغترابيّة. كما أفرح لأنني حققت إنجازا في أستراليا، حيث جعلت للنثر مكانة رفيعة. وهؤلاء الطيبون والأوفياء الذين يحبونني ويتوافدون إلى احتفاليات الأدب الراقي، يعطونني القوّة لأتابع طريقي، وأملأ الساحة المهجريّة بنتاجات متتالية... وليطمئن الجميع إلى أنّ مجموعة أخرى من الكتب ستصدر هذا العام، وكل عام، ما دام الله يعطينا الفكر والموهبة من فضله علينا ونعد الذين معنا وعدا يقينا، بأننا سنكون في كتاب التاريخ، عندما يتناول المؤرخون، اصحاب الضمائر الحية فقط، نهضة اغترابية ثانية من أستراليا إلى العالم
26 تموز 2022
^^^^
لقاء الأفكار مرّة أخرى على طريق طويل
مرّة أخرى، وعلى طريق طويل، تلتقي أفكارنا مع لقاء، المشروعين الثقافيّين الأصيلين، العاملين بلا هوادة من أجل نهضة فكريّة وحضاريّة تعمّ الأرض
وفيما تصل إلى لبنان بركة من أفكار اغترابيّة إلى باقة من المبدعين والأكاديميّين، لا بدّ من أن يكون الصيف مضمّخاً برائحة الورد والياسمي.
الدكتور الغالي الفغالي ومَن معه، والدكتور الدويهي ومن معه، حاضرون في الزمان والمكان، والموعد يجمع القلوب المؤمنة والصادقة
وفي اللقاء مع "لقاء" ومهندسه المبدع الدكتور العماد، ستكون وقفة مع الإبداع المهجريّ الرائد في تنوّعه ونبوغ أفكاره. وكم نفتخر بهذه التوأمة التي لا حدود لها، كما الغيم والريح، يجريان إلى ما بعد البعد، وإلى ما فوق الفوق. وعلى قمّة من قمم لبنان يلتقي المقيم مع المغترب في لحن فيروزيّ أنيق، ويرجع لبنان الحلم. يرجع إلى أهله الطيّبين بعد غياب... والمطابع في سيدني التي تبشّر بنهضة اغترابيّة ثانية، ولا تتوقّف دواليبها عن الحبر والمعجزة، هي الشاهد والشهادة على جدّيّة عملنا وسعينا، وترفّع العاملين والساعين، وانتصارهم على كلّ الصعاب... وإذا كان الإيمان ينقل الجبال، فسفينة الإيمان تنقلنا إليكم، في لحظة، في غمضة عين، لنعانق الأحبّة، وتراب لبنان
شكراً للقاء وعماده الأمين، وكلّ من نلتقي بهم على المحبّة والخير
14 تموز 2022
^^^^
أفكار اغترابية... للعام ٢٠٢٣
عام الإبداع المهجريّ
تتواصل مسيرة إبداعيّة، بوحي من المحبّة التي تنقل الجبال. ونحن نؤمن بأنّ محبّة الناس هي التي وضعت أكثر من ٣٦ كتاباً على الطاولة، اي حوالي ثلث إنتاجنا الإبداعي في أستراليا. والذين حملوا الكتب إلى بيوتهم، حملوا ما انجزوه بفعل المحبّة، فليس لنا نحن فضل سوى فضل الله والمحبّين علينا
فرحنا بالوجوه، والقلوب، والابتسامات. ووفّرنا موضوعاً للتأريخ... حشد رائع وكبير، وكمّيّة غير مسبوقة من الكتب التوعيّة الرفيعة... واحتفاليّة بمنح جوائز أفكار اغترابيّة لكبار كرّمونا
ولأنّنا ننظر إلى فوق، وإلى الأمام، ولا نسمع إلا صوت الضمير والصدق، اطلقنا على عام ٢٠٢٣ اسم "عام الإبداع المهجريّ"، وتحت هذا الاسم ستجري فعاليّات العام، تتويجاّ لإصدار حوالي ١٦ كتاباً جديداً... وهي برهان، من غير ادّعاء، على مرحلة متقدّمة من مراحل أدبنا المهاجر، المتنوّع، والغني، والمعبّر عن الرقيّ والعزّة الإنسانيّة، والرافض للغة السطحية، ونصوص الشتيمة والإقذاع
سيكون عام ٢٠٢٣ عام الشعر لمن يكتبون الشعر، وعام النثر لمن يكتبون الرواية والقصّة القصيرة، وعام الفكر لمن يكتبون الفكر لإنسانيّة خلاّقة، وعام الأكاديميا لمن وضعوا دراسات في حقل العلم والمعرفة... ففي نظرنا ليست كلمة أديب لقباُ، بل هي فعل عطاء، وتثبت بالوثائق. أمّا المؤسّسات الثقافية، فهي التي ترعى الأعمال الجليلة، ولا تنشئ أحزاباّ وجماعات، بغضّ النظر عن نسبة العطاء ونوعه. وزعيم المدرسة يجب أن يكون كوكباً للإبداع، يحمل رايته، ويكون من قلب الأدب والثقافة لا طارئاً يسعى إلى الشهرة. وشتّان بين من يسهر ويضحّي ويتعب، ويهرق دموع الليالي، وبين من يسعى إلى القطاف من غير تعب. ونسبة الدفق الإبداعيّ لغير أصحابه الحقيقيّين نسبة غير صحيحة، تدحضها الأرقام والمنجزات
وكما دعونا في العام ٢٠١٤، ندعو مجدّداً كلّ مبدع إلى الانتماء لمدرسة صادقة وأمينة، وإن كانت ظروف نأنف عن ذكرها، لم تسمح لكثيرين بأن يكونوا معنا، فالباب ما زال مفتوحاً لمن يريد أن يسجّل اسمه في كتاب التاريخ بأحرف من نور وسطوع ... وعندما سيكتب الدارسون عن أدب مهجريّ في أستراليا، سيكتبون عنّا جميعاً وعمّا أنجزناه معاً... والطريق إلى الأمام طويل، يرسمه الأوفياء، ويعبره المختارون والطيّبون
27 حزيران 2022
^^^^
الملكيّة الفكريّة حقّ
من باب النقد الأدبيّ، وليس انتقاصاً من قدر أحد، أتوجّه إلى من لا يتمتّعون بملكة الشعر أو النثر، ولا أرى في نصوصهم إلاّ السطحيّة والتكلّف، أن يتوجّهوا إلى فنون أخرى، فلعلّهم ينجحون أكثر. ففي الأدب ليس هناك حلّ وسط، فإمّا أن يكون المرء مبدعاً أو لا يكون. وسرقة الصور والأفكار وتجميعها من هنا وهناك "لحشوها" في نصّ، وإنقاذ صاحبه من الفشل، وصْفة غير ناجحة. والتاريخ سيحكم على السرقات الأدبيّة
وإنّني أجد شخصيّاً العديد من صوري الشعريّة، مستخدمة في قصائد أخرى، وأعتقد أنّ هناك من يعتمدون خطّة ممنهجة، لتجميع الصور والرموز من شعراء، ووضعها في إضبارة خاصّة لوقت الحاجة. وبالأمس القريب أخذتْ "دكتورة" نصّاً لي بعنوان "المرأة المجهولة" نشرتُه في عام 2016 في كتابي "رجل يرتدي عشب الأرض"، فقَولَبته وغيّرته بطريقة ذكيّة، وأدخلت فيه عناصر تبعده عن الروائيّة، فجاء نصّها مبتوراً وأعرج. لكنّها حصدت آلاف الإعجاب، وأكثر من ألفي مشاركة، ونصّي الأصلي لم يأخذ سوى بضعة تعليقات، فحذفته عن الفايسبوك لقلّة الإعجاب
إنّ كتابة قصّة قصيرة ليس عملاً سهلاً، ولو كان أمراً عاديّاً، لكنّا كتبنا كلّ يوم قصّة. فالأفكار النادرة لا تأتي بغمضة عين، بل بعد تفكير طويل، ومغامرة في بحر هائج، للحصول على حبكة غير مطروقة سابقاً، ومبتكرة. وكذلك الصورة الشعريّة، فما بالنا نسهر ونعاني وغيرنا نائم لا يتعب ولا يشقى، لكنّه يعيش على حسابنا، وعلى راحته يتجوّل في نصوصنا، ويجوجل ما طاب له، وكأنّ أعمالنا الأدبيّة كرم على درب لا أصحاب له ولا نواطير؟
كتبت عن هذا الموضوع سابقاً، وحذفت ما كتبته، لأنّني لا أحبّ الإساءة لأحد، ولكنّني أجد أنّ المخالفة تتكرّر، إذ يبدو أنّ المستقبل الأدبيّ لبعض الناس قائم على مقدار ما يستطيعون جمعه عن بيادر غيرهم، وقد دخلوا في لعبة الإبداع، وأوهموا الناس بأنّهم عباقرة، فكيف يتراجعون الآن، وهم في منتصف الطريق، غير قادرين على الابتكار، وحريصون في الوقت نفسه على حصد الإعجاب والمديح؟
إنّني أقرأ نصوصاً باهتة، ليس فيها لمحة فنيّة جاذبة، ما عدا فكرة واحدة، يضعها صاحبها في الوسط، ليوهم المتلقّين بأنّ نصّه يرقى إلى الأدب. ولو دقّق الناس في تلك الصورة اليتيمة، لوجدوا أنّها مسروقة من أديب آخر
في مقابلتي الأخيرة مع الإعلاميّة ندى فريد من إذاعة صوت سيدني، تحدّثت عن رجل أخذ قصيدة لي، ونشرها على فايسبوك، وغيّر فيها كلمة، فتواصلتُ معه، وشكرته لأنّه نشر قصيدتي واسمي عليها، لكن طلبت منه أن يحافظ على الأمانة، ولا يغيّر في القصيدة، فكان جوابه "بلوك" لصفحتي
وقامت سيّدة بنشر نصّ لي "على عينك يا تاجر"، فأرسلتُ إليها أحد أقربائها، وطلبت منه أن يفهمها بطريقة مهذّبة، بأنّ النصّ من أعمالي وليس من أعمالها، فكانت ردّة فعلها "بلوك" على صفحتي
رجاء، عودوا إلى ضمائركم، فالملكيّة الفكريّة حقّ مشروع، وليست استجداء من أحد، ولا منّة... وغريب أن يرتدي المرء ثياب غيره في عرس، وينتقم من الذي أعاره الثياب، ويسخر منه لأنّه أصبح عارياً
26 حزيران 2022
^^^
لعنة الشعر القديم
جميل الدويهي
2-10-2022
يتعرّض الشعر القديم لحملة من السخرية والاستهجان والتحقير، غير مسبوقة، وتؤشّر إلى مدى الهبوط الذوقيّ، والانحدار الذي وصلنا إليه، في زمن الوجبات السريعة، والخلط بين المذكّر والمؤنّث، والمساواة البلهاء، والديمقراطيّة الفارغة والغبيّة
وأصبح التباهي بالحداثة من سمات العصر، وكأنّ شعراء الوزن ليسوا حداثيّين، وكأنّهم ما زالوا يرتدون الجلباب والكوفيّة، ويلوّحون بالسيوف والرماح، ويهجمون على القبائل، ويبدأون قصائدهم بالوقوف على الأطلال
وقد رأيت كثيراً من شعراء القصيدة التقليديّة، يفرطون في أناقتهم، ويرتدون ربطات عنق فاخرة، ويرشّون عطور "لانفان" و"إيف سان لوران" و"أراميس" على قمصانهم المنتقاة بعناية، ورأيت في المقابل العديد من شعراء الحداثة لا يتمتّعون بأيّ ميزة حداثيّة، ما عدا "شِعرهم" الذي فلقونا به، وكأنّ الله خلقهم وكسر القالب
وما هو عيب فعلاً أن تأتي الإهانات والشتائم من شعراء كانوا يرسبون في صفّ العروض، فانتقموا من الوزن بأن اتّجهوا إلى المورد الأقرب، والطريق الأسهل. ويمكن لهؤلاء الذين يشتمون أن يكذبوا على جميع الناس، إلاّ النقّاد الفاهمين، والدارسين المتعمّقين... فهؤلاء لا تنفع معهم ألاعيب خفيّة، ولا عصا فرعون. وفي العلم والإحصاءات، ثبت أنّ 99 في المئة ممّن يكتبون القصيدة الحداثيّة لا يعرفون النظم على العروض، أو لا يتقنون النظم على العروض
وفي رأينا أن الذهاب في الطريق الأقصر ليس عيباً، لكنّ العيب القول إنّه الطريق الأطول، والأكثر وعورة، ولا يسلكه إلاّ المختارون الذين هم في درجة القداسة
هكذا نقولها، صدقاً، وكما خلقتَني يا ربّ. ففي العلم ليس من مواربة، ولا يمكن لطبيب خبير اكتشف أنّ دواء خطيراً على صحّة الإنسان، أن يسمح ببقائه على رفوف الصيدليّات، كما لا يجب اتّهام هذا الطبيب، لا بالغرور ولا بالفوقيّة إذا قال الصدق
هذا لا يعني أنّنا ضدّ القصيدة الحداثيّة، ولدينا برهانان على صحّة موقفنا، البرهان الأوّل، هو أنّنا نعجب بالعديد من شعراء الحداثة ونمدحهم، فالمشكلة لم تكن يوماً في المبنى، بل في المعنى، ويمكن لإنسان أن يكتب نثراً ويبدع أكثر من الشعر. والبرهان الثاني، أنّنا نكتب القصيدة الحداثيّة، وننشرها، ولا نعيبها أو نحقّرها، فكيف نكون ضدّها ونحن معها؟
القضيّة إذن، هي احترام الآخر، واحترام الذات أيضاً، والتوقّف فوراً عن التجريح بشاعر لأنّه اختار نوعاً يحبّ أن يكتبه. فالذين كتبوا القصيدة العروضيّة أو التفعيليّة، ومنهم نزار قبّاني، ومحمود درويش، والجواهري، وسميح القاسم وسعيد عقل والأخوان رحباني... ليسوا من عصر الخيمة والمهباج والغزو وخدر عنيزة. ولا مَن كتبوا قصيدة الحداثة هم من عصر الفضاء والمجّرات البعيدة ومن عالم الفانتازيا
وهناك سرّ مهمّ أستطيع أن أكشفه بصفتي أكتب النوعين معاً وأعرف الفرق بينهما، وهذا السرّ، يتعلّق بمقدار التعب والجهد المبذولين في كلتا القصيدتين، فالقصيدة التفعيليّة لها ضوابط ومعايير وقواعد، تصعب حتّى على الشعراء المتمكّنين، وقد تستغرق كتابة بيت عروضيّ ساعات من الجهد والتفكير، لإيجاد اللفظة المناسبة في الوزن المناسب، حفراً وتنزيلاً، بينما في قصيدة الحداثة، نعتمد الكتابة الآليّة، أي ما نفكّر به نكتبه، وقلّما تعترضنا صعوبات بالغة، فقصيدة العروض مثلاً قد تستغرق كتابتها ساعة أو ثلاث أو ستّ ساعات، أو عشرة أيّام وعشرة أشهر... بحسب طولها ووزنها وموضوعها، وقصيدة النثر تكتب في دقائق، وهي غالباً ما تكون قصيرة. فالفرق بين القصيدة القديمة والشعر الحرّ كالفرق بين موسيقيّ يعزف على النوتة، ويحرص على تنظيم قطعته فتخرج صحيحة من غير نشاز، وبين عازف آخر يضرب على أيّ وتر، من غير قواعد، ولا يهمّه إن جاءت موسيقاه منتظمة أم مرتبكة
وقد رأيت شعراء يكتبون قصيدة نثريّة، ويعتمدون على القافية من دون الوزن، وهذا يدلّ على رغبتهم في كتابة الشعر القديم المقفّى، ولكن بسبب عجزهم عن العروض لم يتمكّنوا من إنجاز النصف الآخر الأكثر صعوبة. وقد كتبتُ كثيراً عن هذه الطريقة التي تنقل الشعر إلى مستوى السجع، وهو غير مستحبّ عند العرب
إنّ الشعراء الحقيقيّين هم الذين بدأوا بالكتابة منذ نعومة أظفارهم، فقد ولدوا شعراء، وعاشوا مبدعين. وكم هو صعب على الشاعر أن ترافقه أينما حلّ، لعنة التمييز والعنصريّة، لا لشيء، إلاّ لأنّه يحلّق في غير سربه، ويذهب إلى حيث لا يجرؤ الكثيرون
ولقد بلغ الحقد على شعر التفعيلة إلى حدّ اعتبار كلّ شاعر يكتبه مغضوباً عليه، وفارّاً من العدالة، وخارجاً عن كلّ تصنيف عادل، فلا يحقّ له أن يكون
حداثيّاً، ولو كتب أيضاً قصيدة النثر وأجاد فيها
^^^
جميل الدويهي
قراءة جديدة في قصيدة
الثعلب والعنب
كنّا ونحن صغار نسمع من العجائز والعوامّ قصيدة على الرجز، مشغولة على طريقة قصص الحيوان، ويبدو أن شاعرها متأثّر بالفرنسي لافونتين
العديد من الدارسين العرب نسبوا القصيدة خطأ إلى أحمد شوقي، باعتبار أن شوقي كان شغوفاُ أيضاً بقصص الحيوان في شعره، والحقيقة أنها للشاعر المصري محمد عثمان جلال، وهو شاعر عاش في القرن التاسع عشر، وكان كاتباً مسرحياً أيضاً. تقول بعض أبيات القصيدة
حكايـة عن ثعلـبٍ .... قـد مرّ بين العِنب
ورأى العنقـودَ في .... لـونٍ كلونِ الذّهب
والجوع قد أودى به ... بعد آذان المغـرب
فهـمّ يبغـي أكلـةً .... منه ولـو بالتّعـب
سعى فما أمكـنَ أنْ .... يَطلَعَ فوق الخشب
فقال هذا حُصْـرُمٌ .... رأيتـُهُ فـي حلب
أصل القصيدة
هي من أساطير الشاعر اليوناني إيسوب (القرن السادس قبل الميلاد) المعروفة. حيث أن الثعلب يعجز عن بلوغ العنب وهو جائع، فيقول إن العنب لم ينضج بعد، وهو حصرم، في محاولة لإقناع نفسه والآخرين أيضاً أنّه غير عاجز عن بلوغ العنب، وقد تركه بإرادته بعدما وجد أنّه غير ناضج
وهناك نسخة من القصة كتبها اليوناني فيدروس الأثينيّ، حوالي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، من ضمن عدة قصص في الموضوع نفسه وردت عند اليونان القدماء
وتحدّرت من القصّة نفسها عبارة "العنب الحامض" وهي عبارة شائعة في المجتمعات الإنكليزيّة، دلالة على شيء يريده الإنسان، فيحصل على خيبة وفشل
وتحوّل العنب إلى نوع آخر من الفاكهة في مجتمعات أخرى، ففي القرن الثاني عشر كتب بيتر أبيلاند أنّ الثعلب يكون ساعياً إلى الكرز، وفي اسكندنافيا شاعت القصة عن الثعلب والتوت البرّي، حيث أن تلك البلاد تفتقر إلى الكروم
وقد وردت القصّة في أدب الأطفال شرقاً وغرباً، واخترنا من كتاب "حكايات الحيوانات" لكايتي ريشاس (ترجمة أشرف نادي أحمد) القصة كما يلي: راح الثعلب الجائع يبحث عن طعام يتناوله حتى وصل إلى حديقة جميلة تتدلى منها عناقيد العنب الشهية ذات الألوان الذهبية. عند ذلك سال لعابه وتمنى أن يقطف هذه العناقيد الشهية ويأكلها، ولكن سور الحديقة كان مرتفعًا، فأراد أن يقفز على السور كي يقتطف العناقيد، ولكنه رأى الكثير من الطيور تقف على الأشجار وتراقب الموقف. وراح الثعلب يتمشى جيئة وذهاباً عسى أن يجد حلاً لهذه المعضلة. فكر فى أن يقفز عالياً، لكنه لا يستطيع أن يصل إلى هذا الارتفاع، وقال لنفسه: إن فشلتُ سوف تسخر منى الطيور وتضحك علي، لذلك أتته فكرة أخرى، وهى أن يصيح قائلا:ً إن عناقيد العنب خضراء وطعمها مر وليست ناضجة. وكرر ذلك مرارًا حتى يقنع نفسه بذلك ثم ترك الحديقة بأعنابها وراح مبتعداً عنها
والنص المترجم من أيسوب إلى الانكليزية هو التالي
A Fox one day spied a beautiful bunch of ripe grapes hanging from a vine trained along the branches of a tree. The grapes seemed ready to burst with juice, and the Fox's mouth watered as he gazed longingly at them. The bunch hung from a high branch, and the Fox had to jump for it. The first time he jumped he missed it by a long way. So he walked off a short distance and took a running leap at it, only to fall short once more. Again and again he tried, but in vain. Now he sat down and looked at the grapes in disgust. "What a fool I am," he said. "Here I am wearing myself out to get a bunch of sour grapes that are not worth gaping for." And off he walked very, very scornfully.
الشاعر العربي الذي كتب القصيدة بالعربية
هو محمد عثمان يوسف جلال، شاعر ومترجم وأديب مصري من واضعي أساس القصة الحديثة والرواية المسرحية في مصر، وكان من ظرفاء عصره. ولد عام 1828 ببلدة "ونا القس" مركز الواسطي في محافظة بني سويف بمصر، وتوفي في القاهرة عام 1889. ومن خلال عمله في الترجمة نقل خرافات لافونتين إلى العربية، فتأثر بطريقة القصة على ألسنة الحيوانات، وكتب العديد منها، مثل "البخيل والدجاجة"، وطبعاً القصيدة التي بين يدينا
القصيدة
هي على بحر الرجز، من أسهل الأوزان العربية، وتعمّد الشاعر أن يكتبها على مجزوء الرجز أي أربع تفعيلات مستفعلن وليس ستّ تفعيلات، وهذا التجزيء يحمل قصيدة سهلة، يمكن تدوالها في أوساط الأطفال وقليلي الثقافة، وتكاد تلامس اللغة العامية. ولولا ذلك لما حفظها الناس حتى يومنا هذا من غير أن يعرفوا من هو شاعرها
وليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها قصة الثعلب والعنب في الشعر، ففي عام 1687، ظهرت في شعر الانكليزي أفرا بن Aphra Behn
The fox who longed for grapes, beholds with pain
The tempting clusters were too high to gain;
Grieved in his heart he forced a careless smile,
And cried, 'They’re sharp and hardly worth my while.
يظهر الاختصار الشديد في هذه الرباعية، لكنها تعبر عن المقصود، وترجمتها
كان الثعلب مشتهياً العنب، ناظراً إليه بألم
وكانت العناقيد الشهية أعلى من مناله
حزن في قلبه أجبره على ابتسامة لا مبالية
فصاح، إنها حصرم ولا تستحق محاولتي
والشعر الثاني هو للانكليزي والتر كراين Walter Crane،نشر عام1887، والمقصود منه إن عنب الخيبة هو حامض دائماً
'The grapes of disappointment are always sour'
الرموز
استخدم الشاعر رمزين فقط: الثعلب والعنب. الثعلب هو من الحيوانات الضعيفة، الماكرة، السخيفة. وكما في الناس طبقات فحول، ففي الحيوانات طبقات فحول أيضاً، فالأسد والنمر من الطبقة العليا، والثعلب والضبع من طبقة أدنى، والأرنب والزرافة من طبقة أدنى، وهكذا. واختار إيسوب الثعلب للدلالة على الإنسان الضعيف والماكر معاً، لكن مكره لا ينجيه من الضعف، لذلك يعجز، بكل الحيلة عن الوصول إلى العنب. الثعلب في موقع أدنى، والعنب أعلى رتبة، وبينهما فعل التسلق والارتفاع. وهو ممنوع على الضعفاء. بيد أن هؤلاء لا يسلّمون بالهزيمة، ويصورون للناس أن العيب ليس منهم، بل من العنب الذي هو حصرم، ضاربين بعرض الحائط الحقيقة، وهي أن العنب ليس حصرماً، فهو ناضج، لكن الماكر الذي لا يستطيع تغيير عادته وطباعه، يزوّر الحقيقة، وبدلاً من أن يلوم عجزه، يرفع المسؤولية عن نفسه، معتبراً أنه هو الذي ترفّع عن أكل العنب وليس العنب هو من امتنع عليه
وهناك عدة عوامل نفسية وراء لوم الإنسان لغيره من جراء تقصيره وهي
الرغبة في تحييد الأنظار عنه، وشرح الخيبة بطريقة ملتوية أو نسبتها إلى آخرين
غريزة الدفاع عن النفس، ودحض فكرة الضعف، فنسبة العجز إلى الآخرين هي ميكانيكية جاهزة لمنع الناس من التركيز على علامات الضعف عند الشخص المقصود، والتركيز بدلاً عن ذلك على عامل آخر لا علاقة له بالمسألة كلّها
احتراف التزوير: فأصحاب هذا السلوك مبدعون في تزوير الواقع، والأبشع أنهم يقنعون أنفسهم بأن التزوير هو الصحيح، وقلّما يعترفون بأن التزوير هو عمل شائن وغير صحيح
التصرف بعدائية تجاه الطرف الآخر، وهو براء. فلوم الآخرين يمكن أن يقدم ذريعة للانقضاض على البريء وتهشيمه باعتباره مسؤولاً عن ذنب لم يرتكبه
القصيدة الضاربة في القدم، هي لكل زمان ومكان، وعلى الرغم من أنها بسيطة جداً، فهي ذات مضمون إنسانيّ عام، ولا تنحصر في مجتمع دون سواه. فكم من الناس الذين يشبهون الثعلب. عاجزون عن بلوغ المراتب العليا، رافضون للمنطق والقياس الصحيح، يسعون دائماً إلى تحويل الأنظار عن الشمس المشرقة، وغناء الطيور، والنسيم العليل، ويجذبونهم إلى العتمة الحالكة، ونقيق الضفادع، والهواء الأصفر الموبوء. ولو وضعت أمام هؤلاء كل الأدلة والبراهين والإثباتات الدامغة وشهود العيان، لما اقتنعوا إلا بما يرونه هم، فعجزهم عن بلوغ العنب الذي بلون الذهب لا يعود إليهم، بل إلى العنب نفسه الذي لا يمكن إلاّ أن يكون حصرماً، رأوه في حلب
الألقاب
بقلم جميل الدويهي
كتبت عدّة مرّات عن الألقاب، واعتبرتها فعل محبّة، أو هديّة تُعطى. وقد مُنحت لي عشرات الألقاب في حياتي، ولا حصر لها أو عدد، ولم أستخدم أيّ واحد منها. لكنّ اللقب الذي تفضّلت به الإعلامية والأديبة كلود ناصيف حرب، وهو "عميد أدباء المهجر - العبقريّ اللبق - رائد النهضة الاغترابيّة الثانية"، يتضمّن ثلاثة ألقاب معاً، وقد جاء بناء على مقارنة، كما هو مذكور على الصورة المرفقة. والمقارنة هي أساس التقييم في كلّ مجالات الحياة، لذلك تُعطى علامات في المدارس والجامعات، بناء على قيمة الاعمال
ولولا هذه المقارنة التي أعتبر نفسي من أنصارها، رفضاً لمنطق المساواة الأعمى، لَما كنت أهتمّ بأيّ لقب أو صفة تُمنح لي. وإنّني أضع أعمالي الروائيّة، وقصصي القصيرة، وكتبي الفكريّة العشرة، وكتب التأريخ، وثمانية أنواع من الشعر، وأبحاثي الجامعية، وكتبي الاكاديميّة التي يُدرّس بعضها في الجامعة... وكتبي الانكليزيّة الستّة... وافتتاحيّاتي ومقالاتي التي تُعدُّ بالآلاف، أمام الملأ كلّ يوم... وبناء عليها جميعاً، أستطيع أن أعبّر عن اعتزازي وشكري الجزيل لسيّدة الحنين، وهذه الشهادة المقارنة مصدر غبطة لأنّها تقوم على الصدق والميزان الصحيح
وتأكيدًا للمؤكّد، تعدّ الأديبة حرب كتاباً عن أعمالي الروائية الأربعة، وهذه الروايات وحدها تجاوُز بعيد جدّاً عن الشعر الذي اعتبره رافداً، وليس أساساً
لأدبي المتنوّع... وليس لي فضل في كلّ ما أنجزه، فهو من فضل الله عليّ
^^^
جميل الدويهي: كبار من بلادي أكبر معهم
14 أيار 2022
كل عام اكبر أعواما، مع كبار من بلادي، يشعرونني بعظمة الوجود. هؤلاء المضحون، المؤمنون بمسيرة العطاء من أجل الحضارة. وأسأل نفسي أحيانا: ماذا فعلت من أجلهم؟ ليس مشروعي دولة. هو مشروع متواضع وعادي، يشبهني ولا أشبه إلا نفسي وطفولتي. هذه الجائزة قيمتها معنوية وروحية. نكافئ انفسنا بها، وأنتم ايها الفعلة في حقل الكلمة تكرموننا، فما اجمل محبتكم وما أعظم حضوركم في قلوبنا
بالأمس أعلنا عن أسماء كبار، ومنعتنا الجائحة أن نلتقي بهم في احتفالية الأدب الراقي ٥: د. جوزاف ياغي الجميل، د. أحمد يوسف، د. أحمد العلمي، د. يسرى بيطار، الياس طنوس، روبير فرنجيه، إيلي السرغاني، نبيل عودة، ميشال الدمعة، ميشال حنا، مريم رعيدي الدويهي... نعتذر منكم للتأخير الذي حدث رغما عنا، فاصفحوا عن اقدارنا
لم نشأ أن يكون تسليم الجائزة عاديا، فانتظرنا حتى تنقشع الغيمة، ويكون تكريمكم حدثا مهما في قلب سيدني، النابض بالأدب والفكر
وفي العام ٢٠٢٢، نكرم كوكبة من المبدعين: د. رياض عثمان، د. جودت ابراهيم، د. سمر جورج الديوب، د. سحر نبيه حيدر، الأديب سهيل مطر ، الأستاذة إلهام سلطان، الشاعرة رانية مرعي، الشاعرة كلوديت عقيقي، المركز العربي الأميركي للثقافة والفنون، المؤلف والمخرج غسان الحريري
فإلى اللقاء قريبا إن شاء الله، في احتفالية تجمعنا، ونفرح فيها بحضور الكبار الكبار
^^^
شكرًا لشهود الصدق
اليوم بالذات أرسلنا كتابين إلى المطبعة
وإرادتنا أقوى من الصخر لا يفتتها الا الله
مساء ١٧ حزيران ٢٠٢٢، أثبت الأدب المهجري نفسه، وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ووضعنا نصب عيون النقاد والمهتمين موضوعا لا يمكن الهروب منه الا بشق النفس: تقديم ٣٦ كتابا للمرة الاولى في تاريخ الامم في امسية واحدة هدايا للحاضرين. وإذا كان هذا موضوعا يمكن تحييده وغض النظر عنه، فذاك يبعث على الشك والريبة ببعض الأصدقاء ورفاق طريق نفتفدهم في الليلة الظلماء
نحن نكبر بمن يعرفون قيمة الأدب، ومن كانوا معنا، وشهدوا على قيمة المناسبة، أحزابا ومؤسسات وأدباء وإعلاميين وأصدقاء أوفياء. وهم يخبرون الآن عما شهدوه بعيونهم، ولا نحتاج الى شهود لم يروا، او لا يحبون الشهادة الحقة. فشكرا جزيلا لمن شاهدوا وآمنوا بأن الايمان ينقل الجبال
الاحتفالية الخامسة كانت من عالم الخيال، وانتصرت حقيقة الادب المتعدد، وامام الناس عرضنا كتبا رفيعة من ادب جليل ياتي من خارج الوطن الام، من قارة بعيدة. ولذلك يستحق مشروعنا كلمة محبة على الاقل تخفف عنا التعب وسهر الليالي والتضحيات الجسام... وتلك الكلمة نطق بها أبناء الجالية، وبادلناهم التحية بأجمل منها. وكان تكريم المبدعين تتويجا لمرحلة، هي عودة الربيع الى الارض بعد طول انتظار
ونحن نعرف كيف يشعر البعض امام كل انجاز، ولعلنا اكثر الناس فراسة ودراية، وعلمتنا الايام والصداقات والعمل في الاعلام والمدارس والجامعات كيف نلاحظ "على الطائر"، ونميز، ونحلل.. ونحزن أيضا على الواقع. ولكن نفرح ايضا بأهل الخير الذين اظهروا صفاء قلوبهم وسارعوا الى التبشير بما رأوه ، ونشروا الحقيقة في الاعلام والمجتمع ناصعة كعين الشمس
ولمن يهمهم الأمر، نؤكد على مواصلة المسيرة، وقد أرسلنا اليوم بالذات، كتابين الى المطبعة، احدهما للاديبة مريم رعيدي الدويهي، والثاني للدكتورة ميرنا ريمون شويري، وهي المرة الاولى في تاريخنا التي نرسل فيها كتابين في يوم واحد، فقط لنقول كما قلنا في المقابلة مع الاديبة والاعلامية كلود ناصيف حرب: نحن نثبت القول بالفعل عندما نتحدث عن نهضة اغترابية ثانية، ولا نترك مجالا لحديث آخر، ونضع كتبنا على الطاولة تصديقا... وقريبا حدث آخر، من ضمن فعاليات وفعاليات... يعبّر عن عمق العلاقة مع الوطن الام، وفي قلب لبنان، والتفاصيل سنعلنها لاحقا
إرادتنا اقوى من الصخر بكثير، ولا احد يفتتها الا الله
19 حزيران 2022
من د. جميل الدويهي إلى د. جوزاف ياغي الجميل
سنحفر على الأرزة اسم كبير من بلادي، هو فخامة الكلمة، وصورة الوطن المشرقة
كنتَ السباق أيّها الدكتور الغالي إلى شاطئنا البعيد، فأرسيت مركب المحبة قريباً منا، وحدّثتنا عن القيَم بأطيب الكلام. حاورتنا في "الحوارات"، وقبلها في كتابين نقديين باهرين، وكنتَ من الرواد الذين كتبوا عنا، ودعوت الباحثين إلى الاهتمام بأدبنا، حتى بلغ عدد الكتب التي درست هذا الأدب أكثر من عشرين كتاباً: مريم رعيدي الدويهي، كلود ناصيف حرب، سليمان يوسف ابراهيم، د. عماد يونس فغالي، نبيل عودة، وأساتذة شاركوا في ندوات وجلسات حوارية عن كتب صدرت هنا، في أبعد أصقاع الأرض عن لبنان. هؤلاء جميعاً نحتوا الجبل بإبرة، وما زالوا يحفرون عميقاً، لنصل إلى الهدف: دراسات أكاديمية موثقة لتجاربنا. وها هي الدكتورة الروائية ميرنا شويري تضع يدها معنا في ورشة من أجل الفكر والحضارة، فما أجملكم، وما أحيلى اللقاء بكم كل يوم
د. شويري تركز على الروائيّة كما قلت، لأنها ذات تجربة في الرواية، ولها خبرة في المجال، "خبازة" تعرف عملها، وتكتشف أعماق النصّ وأبعاده التي قد لا تظهر لناقد لا يعرف الرواية
أقول معك يا سيّدي، إنكم البداية والنهاية. وأنتم تسيرون أمامنا لنستهدي ونهدي. ونضالنا معاً هو حالة جماعية لا فردية، وأنتم الأساس لا نحن
شكراً لك دكتورنا الغالي، للدكتورة ميرنا شويري، لكل من ذكرتهم أو لم أذكرهم لضيق المجال. لقد أغنيتم حياتي، ونورتم العالم بأنوار فضلكم. ألف شكر
8 أيار 2022
^^^
جميل الدويهي: تحرير فلسطين يبدأ باغتيال الشعر العموديّ
ما كاد الرئيس الاميركي دونالد ترامب يعلن عن صفقة القرن، حتى انبرى أحد الأكاديميين ليعلن ثورة وكفاحاً مسلحاً ضد الشعر العمودي، فطالب بنبش قبور امرئ القيس وعنترة والنابغة والفرزدق وجرير والمتنبي وابن الرومي وبشار وأحمد شوقي ومطران وإيليا أبي ماضي ونزار قباني وسعيد عقل... والآلاف غيرهم من شعراء العرب للتمثيل بجثثهم علناً، بسبب الانتهاك الخطير الذي اقترفوه، وتسليم فلسطين العربية والمقدسات، والجولان، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا إلى العدوو الصهيوني
إننا نشك في أن هذا الأكاديمي هو أكاديمي فعلاً، بل نشك بشهادته، ونعتقد أنه ينتحل صفة من غير إثبات حقيقي. أما العودة إلى الدراسة الثانوية فتثبت، ومع شهادات من طلاب زاملوه في تلك الفترة، أنه كان يرسب في صف العروض، ولا يعرف الآن، على الرغم من أنه في العقد السابع من عمره، كيف ينظم بيتاً واحداً على أي بحر، ولو كان هذا البحر "حمار الشعر"، وهو الأسهل عليه... ولأنه يكره أستاذ العروض فقد صبّ جام غضبه على الخليل بن أحمد الفراهيدي، وكل مَن يكتب شعراً عمودياً... بينما رأيناه ذات مرة يصيح ويخرج من ثيابه وهو يشيد بشاعر حداثي
قد يعتقد من يقرأ هذه السطور أنّنا متحيّزون للشعر العمودي، والفرق بيننا وبين هذا الناقد الخطير أننا نكتب كلّ الأنواع، وهو يكتب نوعاً واحداً لا يحيد عنه ولا يطور نفسه أو يتعلم، فهو كالأعمى وراء الحصان. وهذا النوع الذي يكتبه ضعيف أساساً، ولا يرقى إلى الشعر الحداثي الذي يعوّض عن الوزن بكثير من الصور والرموز والتقنيات اللفظية، والموسيقى الداخلية، وموتيفات مطوّرة من الفكر والفلسفة... ولعله يريد من خلال التهجم على الشعر العمودي أن يستعطف طائفة من شعراء الحداثة الذين ينضوون في بوتقة واحدة يميزها الحقد على كلّ موزون، والتبخير لكل غير موزون، ولو كان هزيلاً ولا قيمة له. فلم يسبق لي في حياتي، وأنا أكاديمي متابع، أن قرأت نقداً كتبه شاعر حداثي وتناول فيه شاعراً حداثياً آخر، فكلّه مديح وتقريظ، ولو سألت بعضهم: ما هو المعنى من بعض النصوص التي يكتبون عنها؟ فهم لا يعرفون
نحن نحب الشعر الحديث، ونكتبه، ونتمتع بما يكتب الكثيرون منه، وبعضهم أصدقاء لنا على فايسبوك أو في الحياة الواقعية، نثني على أعمالهم، وهم يعرفون ذلك. فكما في الشعر العمودي قصائد رائعة كذلك في الشعر الحديث. فليس المهم النوع، بل المهم أن يأتي المرء بجديد ومفيد ويضيف على الثقافة، وما جاء به في الشعر الموزون شعراء كبار لا يمكن إغفاله إلا من وجهة نظر غير الأكاديمي، الذي يفشل في تقويم النصوص، والفصل بين الغث والثمين... وما زال الناس منذ مئات السنين يرددون أبياتاً من الشعر الجميل، وتحولت قصائد موزونة إلى أغنيات خالدة. فجميع الغناء العربي يقوم على شعر موزون، سواء الذي كُتب باللغة الفصحى أو بالعامية. أما صاحبنا الذي يحارب طواحين الهواء، فلم يحفظ له أحد سطراً، حتّى الذين يسارعون إلى مدح الشعر الحديث، وهم مغمضو العيون، بعد أن تم تحويل هذا النوع إلى طائفة، فالأخ للأخ، سواءٌ أخطا أم أصاب. وصاحبنا من الإخوة، ويريد أن يكون له مكان في الصفوف الأمامية، وكم كنا نتمنى لو يتعلم قليلاً من العروض، لعل تلميذاً جاءه في ليلة ليلاء، وطلب منه أن يساعده في أحد الفروض
وآخر نصيحة: إن الطريق إلى الأراضي المحتلة لا تمرّ باغتيال الخليل بن أحمد الفراهيدي
جميل الدويهي: أنصار شرواله القديم
ما يزال بعض الناس ينظرون إلى الأدب من خلال نظرتهم إلى ما في الضيعة من مشاهد ومطارح. بل هم لا يصدّقون، بعد أن أمضوا في الغربة ردحاً أنّ الدنيا تطوّرت، والكرّوسة تزفّتت، والعين شحّت، وحلّت محلّها شبكة لمياه الشفة... وأنّ شروال أبو حنا طار عن الازدرختة من زمان
نحن المثقفين والشعراء والأدباء الذين خرجوا عن النهج القديم مضطهدون، والحاكم بأمر الله ذوق غير متطور، لا يماشي الحياة وتقدّم البشرية، ولو أعطيت لأصحاب هذا الذوق البدائي كل كتب موليير وراسين وشكسبير وغوته وإبسن وتولستوي وجبران ونعيمة... لما رأوا فيها شيئاً، بينما يعني لهم كثيراً شاعر من الضيعة يكرر المعاني ويزجل طوال الليل والنهار عن الجرن والتنور والشير... شاعر لم يطور ولم يتطور
كنت في الرابعة والعشرين من عمري، عندما كان علي أن أختار موضوعاً لرسالة الماجستير، فاقترح علي أستاذي المشرف أن أكتب عن شاعر محلي معروف بضعف ثقافته. وعلى الرغم من أنني كنت ما أزال على مقاعد الدراسة، فإنني رفضت رفضاً قاطعاً ما اقترحه أستاذي، وسألته: ما الذي سأناقشه في رسالتي غير مظاهر القرية وأشيائها؟ هل هناك فكر؟ أو فلسفة؟ أو عمق في التحليل؟ أو رؤية إنسانية أو حضارية؟
وكان أن اخترت موضوعاً آخر ربّما لم يعجب أستاذي، لكنه أعجبني ونجحت فيه نجاحاً كبيراً
ولا يزال رأيي كما هو: على المبدع أن يطور نفسه ولغته وطريقته، ولا يهمني النوع الذي يكتبه... ولا أوافق مَن يحدثونني في مجالسهم عن شاعر قديم وعقيم وكأنه فتح الأندلس، ويظلون يلوكون اسمه صعوداً وهبوطاً، وكأنهم لا يعرفون سواه، وكيف يعرفون وهم لم يقرأوا كتاباً في حياتهم؟ فذوقهم سماعيّ من خلال الراديو أو شريط مسجل. والأبشع من هذا أن شاعرهم أيضاً لم يقرأ لأنه صاحب كارمعروف ومحدد... ومعيب أن يعمل في غير عمله أو يزيد على شرايين دماغه بعضاً من العلم والنور
يزعجني حديث هؤلاء وأنا أسمعه، وخصوصاً عندما يعطون آراء نقدية أمامي، وأنا أستاذ متخصص في النقد، ولأنني لبق ومحترم لا أشاء أن أوجه إليهم لومة أمام أناس آخرين، وأتظاهر بأنّني أغوص في عملي لأن ما أسمعه من كلام عن فلاسفة عصور الحجر يهز البدن ويدفعني إلى الغثيان
وفوق كل هذا يعبّر هؤلاء عن احترامهم لك بحكم الهوية، وبقدر ما يكونون راضين أو غير راضين عن آبائك وأجدادك وسليلتك منذ العهد الفينيقي، فأنت حامل الخطيئة الأصلية التي لا تغتفر ولو ارتكبها جدّك الأول بعد نوح عليه السلام. ولديهم أسلوب في النكاية لا يخفى على عين بصير، فهم أنصار الفشل وأعداء النجاح... يحملون المقصّر على أكتافهم ويبيعون بيوتهم إكراماً لعينية، أمّا الناجح فيقصفون روحه بالمنجنيق
قيل قديماً: ما ناقشت جاهلاً إلا وغلبني، فإلى متى ينبغي على المرء أن يتحمل الهزيمة وأن يرضى بالسذاجة والهذر المجاّني، والآراء النقدية الشحيحة، وأطنان من كلام يغير طائل؟
جميل الدويهي: أين هم علماؤنا؟
لماذا يغيب علماؤنا عن السباق من أجل صنع دواء أو لقاح لكورونا؟ وهل سنظل إلى الأبد نعيش في ظلال الدين والرقية والكتيبة والعجيبة، من غير أن يكون لنا دور في الحياة؟
لست أول من يسأل ويتعجب، فقد سبقني كثيرون، وأعتقد أن أمين الريحاني كان في مطلع القرن الماضي من رواد الدعوة إلى النهضة العربية، ووضع العلم في موقع أعلى من الاعتقادات، فالدين جزء من الحياة وليس كل الحياة، والله ضرورة، والمعابد أساسيّة في حياة الناس، لكنْ أيضاً هناك واجب إنسانيّ وهناك صوت ينادينا من السماء: لقد أعطيتكم الفكر لتفكّروا
دعوت في العديد من كتبي إلى العلم، وطالبت بفضل الدين عن المسيرة الحضارية للأمم، فجاءني من يتهمني بعكس ما كتبت وما ناديت به، وأنا أبعد الناس عن الإيمان الذي صنعه البشر، ومن أقربهم إلى الإيمان بالله. لديّ منهج خاص، فالله في نظري ليس ظالماً ولا عتياً لأخاف منه. هو والد حنون، فكما يحنو الوالد على ابنه في الحياة كذلك يحنو الله علينا برفقه ويضمنا إلى صدره لأن الله محبّة، هو غفور رحيم ونحن ضعفاء
باختصار هذا اعتقادي، القرب من الله والبعد عن الشكليّات. وحياتنا في الشرق تقوم على الشكلياّت، وترفض الأساسياّت، كالعلم والفلسفة واكتشاف الفضاء، والسعي إلى حياة جديدة منفتحة وبعيدة عن القوالب الجامدة. قلت في كتابي "في معبد الروح" - العظة السابعة: إنّ الله الذي ابتدع الكون من فكره لا يريدكم أن تتجرّدوا من الإبداع، فافتحوا كتاب العلم واقرأوه لأبنائكم قبل أن يناموا بدلاً من أن تخبروهم قصص الجنِّ والساحرات. قولوا لهم: إنَّ الإنسان مزيج من العقل والروح، والعقل والروح معاً يرتفعان إلى فوق، ولا يتوقَّفان عند حدود مرسومة... لقد أخطأ المفكِّرون والفلاسفة الذين أرادوا أن يجعلوا من الإنسان روحاً صافية، فأعادوه إلى عصور الظلام وأزمنة الكهوف... وليس من دين صحيح يمنعكم من غزو الفضاء واكتشاف المجهول لتعرفوا كثيراً من الحقائق التي لا تعرفونها
ولن أعطي أمثلة أكثر من كتاباتي عن هذا الموضوع، فقد يأتي يوم ويشير إليها أحد النقاد. والهدف مما أذكره هو الدلالة على إيماني بأن الإنسان ليس روحاً، ولا هو جسد، بل هو كلاهما معاً، ولذلك يستقيم الدين مع العلم، لو انفصل أحدهما عن الآخر
العلماء في الصين وروسيا وأميركا، وأستراليا وإسرائيل يتسابقون لإنتاج دواء لفيروس كورونا. ويجري اختصار العمل، بحيث تكون التجارب على الإنسان مباشرة، وليس على الحيوانات، لتوفير الوقت قبل أن يحصد الفيروس مزيداً من الأرواح. فشركة "مودرنا" الأميركية قدمت عطاءات مالية لمن يرغب من المتطوعين لتجربة الدواء، وإذا نجحت التجارب، فالدواء سيكون متوافراً بحلول حزيران المقبل. والعلماء الصينيون يعملون ليل نهار لإنتاج لقاح، والعلماء الإسرائيليون تمنكنوا من فك شيفرة الفيروس ومعرفة نقاط ضعفه، والخبراء في ولاية كوينزلاند الأسترالية يدلون بدلوهم في التجارب... أما نحن فغائبون عن السمع، وأنظارنا تتجه إلى السماء طالبين الرحمة، والملايين من الأموال تصرف على لا شيء، وهناك بيننا من يسخرون من الشعوب التي تبدع، ومن الأمم التي تغزو الفضاء ونحن لا نرتفع عن الأرض، وهناك من يعتبرون أن الطائرة والمركبة الفضائية والدواء التي تاتي من الغرب هي من عمل الشيطان
هذا الكلام أقوله من ألمي على أمم تملك مقدرات، لكنها تتلهى بأمور لا طائل منها، وأغلب علمائنا هم علماء دين، هدفهم غسل الأدمغة وتحريض الناس بعضهم على بعض، بينما الدعوة الحقيقية يجب أن تكون دعوة إلى التصالح والمحبة والاعتراف بالأخطاء التاريخية التي ارتكبناها وما نزال، وكأننا نرفض التعلم من الماضي، والانطلاق إلى مستقبل مجيد
ردّ على سيدة بدأت بكتابة "الشعر" في السبعين من عمرها
زعمت أمام الناس أنني أعتبر نفسي جبران الثاني
لم يسبق لي في حياتي أن تمثّلت بجبران خليل جبران، ولا يذكر في أيّ نصّ كتبته أنّني أدعي التشبّه به، فمن العيب أن أكون غير أنا. مكتوب على هويّتي: جميل الدويهي... فلماذا أكون غيري؟
قرأت لكثيرين من المفكّرين والأدباء، واحتفظت بشخصيّتي الأدبيّة الخاصّة. ولست مثل مَن بدأوا بالكتابة في سنّ متأخّرة، فجاءت كتاباتهم هزيلة، كما لست ممّن هربوا من صفّ العروض إلى الشعر. فقد بدأت الكتابة في سنّ مبكرة، ووقفت خطيباً على المسرح في التاسعة من عمري، وتعلّمت، وتدرّجت من الشعر، إلى القصّة والرواية، والتأريخ، والفكر، ودرست الإنكليزيّة على نفسي وكتبت بها، وبين هذا وذاك الدراسة الأكاديميّة والنقد. وقد هجرت هذا الأخير تقريباً لأنّني صادق، والأدباء لا يحبّون أن يكون الناقد صادقاً
كلّ الذين يتابعون أعمالي، يعرفون مقدار التنوّع الذي يطبع كتاباتي. وهذه أهمّ نقطة محوريّة أرتكز عليها في رسالتي الإبداعيّة، وفي مدرستي أفكار اغترابيّة. ويؤسفني أنّ هناك مَن يعرجون ويريدون غزو الكواكب. ويحاولون أن يقلّدوا طريقتي، وفي الوقت ذاته ينتقدونني لأنّني أبتعد عن مكامن الضعف، وأرفض الإملاءات التي تأتيني من كلّ صوب وأوب بأن أخفي شمعتي تحت مكيال، أو أن أضعها في مقام الفحمة المنطفئة... وأرفض أن أسيء إلى أحد، لكن لا أعترف إلاّ بما هو صحيح، وما ينسجم مع رؤيتي النقديّة، فالأدب ليس صفّ كلام، ولا هو شغف تلاميذ الصفّ الخامس الإبتدائيّ. هو مشروع حياة، وبناء مدينة تتكامل في رفعتها وفي قامتها الإنسانيّة. وليس عاراً عليّ أن أكون كثير التنوّع، ولا عيباً أن أعلن عن أعمالي. فكلّ إنسان ينشر كتاباً، يحتفل به، ويعلن عنه... وإذا كنت أنشر كثيراً وأعلن عن منجزاتي، فتلك ليست مشكلتي، بل مشكلة مَن لا ينشر
وإذا كنت في أستراليا، أحاول أن أبني مدينة حضاريّة، فهذا من حقّي، وليس لأي نظام قمعي، همجيّ، أن يحرمني من أحلامي التي قطعت آلاف الكيلومترات لأحقّقها، ولو حبراً على ورق. والذين يشاركون في الثورة من أجل الحرّيّة والتغيير، ثمّ ينقلبون عليها بأمر من المرجع الطائفيّ، هم آخر من أفكّر بهم وبإبداعهم التعيس... فمرجعي الإنسانيّة التي تتخطّى الصراعات والمذاهب والأديان
وعندي مشروع وصفتْه الأديبة مريم رعيدي الدويهي بمدينة القيَم السامية، والشعر الذي يتحدّث عن اللقاءات والعري والجنس والتفاهة آخر ما أهتمّ به. كما الشعر كلّه من أقصاه إلى أقصاه لا أعتبره إلا جزءاً من أعمالي
حاولت أن أنشئ مدينة فيها الله النور الأوّل، وأنوار أخرى هي شيء من خيالي، كما خيال طفل يريد أن يعيش في سلام، حيث يركض من غير هدى ولا حدود، ويلعب في الشمس والعواصف، ويترك طيّارته لتعبر السموات السبع ولا يوقفها أحد
هو طفل عيناه إلى فوق، يوازن بين الدِّين والعِلم، وهو يتلعثم في كليهما، فلا هو رجل دِين ولا هو عالِم أو فيلسوف... بل هو إنسان صغير في كون كبير، يريد أن يعيش من دون خوف ورهبة
دعوت إلى السلام والمحبّة، واعتبرت أنّ الحروب هي نتيجة الميل إلى الوحشيّة، وروحيّة القبائل التي عاشت قبلنا بآلاف السنين، فنحن في تركيبتنا العضويّة، وفي حمضنا النووي، ما نزال نحتفظ بآثار لا تُمحى من همجيّة الإنسان القديم الذي كان يسعى إلى العنف حفاظاً على حياته، ويجد في قتل الآخر، من أبناء القبيلة الأخرى، مصدراً لطمأنينته وسعادته، فالآخر، وإن يكن بريئاً، يمثّل خطراً ينبغي التخلّص منه بأيّ طريقة
إنّ الله الحقيقيّ يدعو إلى العدل، والرحمة، والسلام، والمحبّة، والحكمة، والتسامح، والتواضع، والعطاء، والإبداع… وهو يحوي مجموع القيَم السامية التي يجب أن نعتنقها، وإلاّ فقدنا صلتنا بالخالق، وأصبحنا شعوباً متناحرة، تفتقر إلى الأخلاق، وتسود فيها شريعة الغاب
وفي مدينتي توازن دقيق بين الروح والجسد، والخير والشرّ، والدِّين والعِلم. كما لا يُدان المرء فيها على انتمائه، ولا يُكفَّر، ولا يُضطَهد… فإنسانيّته أهمّ من دِينه، وقد وُلد إنساناً قبل أن يتّخِذ له أهله دِيناً، وقيمتُه الأولى تغلب على أيّ قيمة أخرى، مهما كانت عظيمة
هذه مدينة جميل الدويهي وليست مدينة أحد آخر، بنيتُها من معرفتي وثقافتي وإيماني وانفتاحي على الحضارات، وخروجي من دائرة الشعر إلى فضاء أوسع... وهي ليست أورفليس، وأفكار جبران أنتقدُ كثيراً منها، كالخير والشرّ، والتقمّص، والحلوليّة، وجمال الموت، وتعاون الشيطان مع الخوري... وكلّ هذا ثابت في أعمالي... وإذا كان أحدهم قد لقّبني بجبران الجديد، أو جبران الثاني، فهذا شأنه، وليس شأني... أمّا أنا فجميل الدويهي القديم الذي يطوّر نفسه إلى كلّ جديد
لست أعرف مبرّر السخرية لدى طبقة من البشر من إبداعي، وهم لا يعرفون كتابة القصّة القصيرة... فكيفما اتّجهت لا أعجبهم. وكأنّ الله خلقني مجرّداً من أيّ نجاح، وقد أعطى غيري مفتاح الرؤية، ولو بكتاب واحد قد لا يقرأه أحد. أمّا كتبي التي قاربت على الخمسين كتاباً من كلّ شكل ولون، فهي من سوق الأحد
جبران كان النبيّ، وأنا الأمّيّ. لا أشبهه ولا يشبهني. ومِن الكذب والنميمة والخبث أن يقول أحد إنّني تمنّيت مرّة أن أكون مثله... أو أنّ جملة واحدة مرّت في أعمالي تدلّ على أنّه مثلي الأعلى... والمدينة التي أطمحُ إليها كانت طُموحاً لدى كثيرين قبل جبران وبعدَه أيضاً
د. رياض عثمان في روايته "خمسة صبيان وصبي"
واقعيّة تضيء على معالم حضارية وتقاليد الضنية
نترافق مع الروائي د. رياض عثمان في قصّة واقعيّة، مسرحها منطقة الضنيّة، والضنيّة المدينة في شمال لبنان، حيث مجتمع ريفيّ كثير التقاليد والعادات الموروثة. القصّة تُقرأ من عنوانها "خمسة صبيان وصبيّ". ويدل العنوان نفسه على ميل عند المجتمع المحلّي نحو الإنجاب، والإكثار من الأولاد، رغم أحوال المعيشة الصعبة في الريف، وقلة المداخيل من الزراعة، وهي العمود الفقري للحركة الاقتصادية في تلك المناطق. "الأبناء أعمدة البيوت" (رياض عثمان، خمسة صبيان وصبي، ص 15)... ثلاث كلمات كافية للتعبير عن الرغبة في الإنجاب، وقد دعت الديانات إليه. ففي حديث شريف: "تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة". وفي سفر التكوين: "أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ"... وينجح الدكتور عثمان في الإضاءة على مختلف الجوانب في حياة الصبي، فيقدم تفاصيل "من البابوج إلى الطربوش"، وكأننا في رحلة مع الصبي ذاته، نراه، ونتحدث إليه، ونعاين ما فعله في حياته، ومع ذلك العديد من الأمور الصغيرة، التي لو حدّقنا النظر فيها، لعرفنا أهميتها، وخصوصاً في تحديد ملامح المعيشة في ذلك الجزء العزيز من شمال لبنان
تبدأ القصة بنعيق البومة، وتقول المرأة: "نجنا يا الله"(رياض عثمان، م. ن، ص 14). فالبومة رمز للشؤم وسوء المصير في القرى اللبنانية. "ما تنقّ مثل البومة، عبارة شهيرة كثيراً ما نسمعها تدل على التشاؤم ومقرونة بكلمة "بومة". هذا الطائر الذي يحلّق ليلًا بصمت، يشكّل مسألة تناقضية لجهة رمزيته لدى مختلف الثقافات والشعوب... عند العرب، كان طائر البوم في الموروث الشعبي نذير شؤم وخوف قبل ظهور الإسلام، بدا ذلك جليّاً حتى في الأدب والشعر. (يارا العريضي، البومة ورمزيتها بين الشعوب... فأل خير أم شؤم؟، 4-3-2020، جريدة النهار اللبنانية) واستخدام رمز البومة لم يأت من فراغ، فقد انعكس حضورها على كثير من التطورات الدرامية في القصة، فيما بعد
ونبقى مع الصبيّ المولود في بداية رحلته في الحياة، إذ يواجه الفقر في الضيعة الجبلية، ويكون طعامه حليب الأم، في غياب الحليب المجفف آنذاك (حوالي العام 1960)،فلا حليب النيدو ولا السيريلاك، ولا الحليب المعلّب في القناني (رياض عثمان، خمسة صبيان وصبي، ص 44). وعندما يمتنع صدر الأم عن إدرار الحليب تتبرع بعض نساء الحي في الرضاعة، وهذا ليس بغريب كما يقول الكاتب "لأنّ الحياة أخذ ورد، والدنيا دور، وحياة الضيعة عونه" (رياض عثمان، م. ن، ص 46)، والرضاعة من غير الأم تجوز في الشرع الإسلامي: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة" (سورة النساء - 23). ولا يمنع الرضاع من غير الأم في المجتمع المسيحي أيضاً، فكثيراً ما نسمع في القرى عن الإرضاع بغير حليب الأم لطفل حُرم من الرضاعة. وقد تكون رضاعة الطفل من أكثر من امرأة واحدة، كما يخبرنا الدكتور عثمان: "بعد أن كانت تجول على نسوة الضيعة الخمس اللواتي وضعن في فترة متقاربة وولدن صبياناً، شاعت الصدفة أن الموسم كان موسم صبيان. كل يوم بالتداول والمداورة ترضعه كل واحدة مرة في اليوم" (رياض عثمان، م. ن، ص 56)، وهذه الظاهرة يسميها الروائي العونة على الإرضاع (رياض عثمان، م. ن، ص 58). والعونة هي ظاهرة شائعة في القرى، يتعاون فيها المجتمع على مساعدة أحدهم، خصوصاً في الحصاد أو بناء منزل. هو التكافل الاجتماعي الذي يبدو أيضاً حين يلتمّ الناس حول مصاب أو مبتلى، فيندفع الكبير والصغير بدافع الواجب والنجدة (رياض عثمان، م. ن، ص 123). ويعرّف أنيس فريحة العونة بأنها "المساعدة الجماعية التي يسديها الجيران للجار في الأعمال التي تحتاج إلى أيد كثيرة... في مثل هذه العونات تتجلى روح القرية التعاونية التي تفرضها عليهم الحياة الجبلية الزراعية (أنيس فريحة، القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال ، ص 14-15). وقد يُطعَم الطفل بدائل عن الحليب أحياناً، مثل قطعة من راحة الحلقوم... بعد أن تلفه المرأة بشاشة بيضاء، ليمصّها ذاك الصبي فيقتات السكر المطبوخ بالنشاء المنكّه. ( رياض عثمان، م. س، ص59). وكذلك يأكل الطفل عندما يكبر قليلاً الكرميل، والمعلّل، ودبكة الغندور، والبسكويت (رياض عثمان، م. ن.ص 65)
وعندما يكبر الولد أيضاً يصبح عرضة للضرب والـتأديب الجسدي من قبل الوالد. وهذه من الظواهر السلبية في المجتمع الشرقي، وفي القرى اللبنانية البعيدة: "أمسك بشعر الصبي لجهة ناصيته. وضع يده على رأسه، وأمسك بشعره، وانتزع شملة شرواله التقليدي فربطه بها، سحبه، كما يُساق تائه، من بيت حاويك إلى طاران ينهال ضرباً، وصراخاً وعذاباً مهيناً أشد إيلاماً من الضرب. حتى غصن تلك الشجرة لم يسلم من قبضة يده، إذ كسر قضيباً طرياً يعينه على تنفيس غضبه. استقبله البيت بقسوة الغريب تأنيب المذنب، ابن السبعة يقترف ذنباً لا يغتفر، مصيره ذاك الأب، وام انتظرته بشوق لتنهال - هي الأخرى- عليه ضرباً. هي انتظرته لتقتص منه دون شفقة" (رياض عثمان، م. ن، ص84-85)
إنه ولد في السابعة من عمره.ولقد شب عن الطوق، فلم يعد يتناول الحليب، وراحة الحلقوم والبسكويت، بل استعاض عنها بالضرب والإهانة، وهي حال كثير من الأولاد في مجتمع يعتبر أن الضرب وسيلة للتربية
تسجيل الولد في النفوس وفي المدرسة
تشيع في القرى اللبنانية أخطاء في تسجيل المولودين في دائرة النفوس التابعة للدولة، وقد يسجَّل الولد في سن متأخّرة، فيحدث خطأ في ذكر تاريخ الولادة، أو يُفرض على الأهل تكبير المولود، أي زيادة أشهر أو سنوات على عمره الحقيقي. وهذا ما حدث بالضبط في رواية "خمسة صبيان وصبي"، حيث أنّ مصطفى غير مسجل في النفوس وليس لديه تذكرة هوية، ويستلزم ذلك رفع شكوى ضد الأب من قبل الولد نفسه، لتبرير حصول الخطأ الفظيع. ويشرح الدكتور عثمان هذه المسألة القانوية، فيعتبر أن الدعوى غير جنائية، بل مجرد شكوى ورتينية عادية، تؤهّل المحامين للالتفاف على الأنظمة وإيجاد مخرج لإشكالية عدم تسجيل الولد الذي لم يُسمح له بالدخول إلى مدرسة القرية بسبب عدم حيازته على هوية. ويتبين أن زواج أبي مصطفى من أم مصطفى "برّاني" أي عند الشيخ فقط، ويكون الحل باقتراح المحامي أن يُكبَّر عمر الصبيّ ست سنوات لتحل المشكلة. (رياض عثمان، م. ن، ص 97-100)
ويوضح الدكتور عثمان بطريقة كوميدية لافتة، أن عمر مصطفى هو أكبر من أخيه البكر بسنة، وأكبر من أخيه الذي ولد قبله بخمس سنوات، يعني أنّ تاريخ ولادة الصبي قبل زواج والده بسنة واحدة (رياض عثمان، م. ن، ص 100)
قمة سخرية القدر Irony، يرسمها الأديب عثمان بفرادة، فنحتار بين الأسى والضحك، ونقف أمام مشهد تراجيكوميدي، يمزج بين الجدّية والسخرية... أليس شر البلية ما يضحك؟
هذه الناحية التي يطرحها الدكتور عثمان تدخل في صميم الواقع الاجتماعي للقرى اللبنانية النائية، حيث يبتعد الناس عن مركز القرار في العاصمة والمدن الكبرى، ويفوتهم كثير من الممارسات الواجبة عليهم، فكأنهم في واد والسلطة في واد آخر
واللافت أنّ المدرسة في القرية افتتحت عام 1960، أي بعد الاستقلال بحوالي 17 سنة، وهذا يدل على مدى الإهمال الذي يعاني منه قطاع التربية والتعليم في القرى البعيدة. وتمثّل المدرسة التخلص من الإقطاع، ولعلّ الإقطاع نفسه لم يكن راغباً في افتتاحها، لأن الجهل وسيلة للهيمنة على النفوس وعلى قرارات الناس
وتتفاوت أعمار التلاميذ في المدرسة: "تجد في الصف الواحد ابن الخمس سنوات وابن الخمس عشرة. وقد تجد معظم أبناء العائلة الواحدة الخمسة في الصف الواحد والمستوى الواحد، وقد يكونون في مراحل مختلفة في الغرفة نفسها، قلة الأساتذة، قلة الغرف، وبعض مراعاة اجتماعية". (رياض عثمان، م. ن، ص 102-103)
يبدو مما سبق من كلام الدكتور عثمان أن المدرسة في عام 1960 كانت منظمة بقانون الفوضى، فكيف يمكن حشر تلاميذ في أعمار مختلفة ومتفاوتة في غرفة واحدة؟ وكيف يدرس المتفوق مع قليل الدراية؟ وكيف يكون الإخوة جميعاً وقد ولدوا في سنوات متتالية في صف واحد؟
وقد يقضي الولد سنوات بدون تعليم: "ذهب الصبي إلى تلك المدرسة ليتسجل فيها، فلم يقبلوا طلبه والأسباب مجهولة. فلا مهرب من الانتظار سنة كاملة" (رياض عثمان، م. ن، ص 106)، ويكون السبب في عدم قبوله أنه تأسس في اللغة الانكليزية والمدرسة ذات نظام فرنسي... وعندما مرضت والدة مصطفى وتغيّب عن الدرسة لمدة، قامت الإداراة بطرده، فاضطر أن يتوجه إلى طرابلس ليعمل هناك
هذه التداعيات كلها، ليس لمصطفى يد فيها، إذا تسوقه الأقدار في اتجاهات مختلفة، وهو ينفّذ ما تفرضه الحياة عليه، لكن بهمّة عالية، وقوّة في روحه، وإصرار على البقاء في ظروف صعبة، مثل طبيعة الأرض
ويمثل مصطفى نموذجاً للشباب الذي تضيق به السبل في قريته، فيختار النزول إلى طرابلس، وهي أقرب إلى الضنية من بيروت، لكي يعمل عتّالاً هناك. والهجرة من الريف إلى المدينة مشكلة كبرى في لبنان. والهجرة الداخلية من الريف الى المدن وخصوصاً بيروت بدأت في أواخر الربع الأول من القرن العشرين مع إنشاء دولة لبنان الكبير بحدودها الحالية و"عاصمتها الإقتصادية بيروت"، وبداية تراجع المهن التقليدية ذات الطابع الزراعي لمصلحة المهن ذات الطابع الصناعي والخدماتي والتي تمركزت بالمدن، كون البنى التحتية فيها قابلة لاستيعاب نسبياً تضخم هذا القطاع (الصناعي والخدماتي)، في حين إزداد النزوح من الأرياف الى المدن بشكل تصاعدي ومتسارع من حينها الى الأمس القريب، بسبب تركيز الدولة لخدماتها في المدن هاملةً المناطق الريفية البعيدة وتركيز القطاع الخاص لمشاريعه في المدن بهدف الربح السريع نتيجة التوفير في كلفة النقل… فوصلت نسبة سكان المدن بشكل دائم أو شبه دائم في لبنان الى 87% من مجموع السكان في العام 2008" (جو حمورة، الهجرة اللبنانية المعاكسة، موقع نقد بنّاء، 14-11-2012)
الزواج
يقدّم الدكتور عثمان تقريراً مفصلاً عن طرق الزواج، وطبيعته، وطقوسه في القرية، وهي لا تختلف كثيراً عما نراه في العديد من مناطق الريف. بدءاً من تزويج الأبناء باكراً: "من بعض طباع الريفيين تزويج أبنائهم باكراً، ساعة يشعرون ببلوغهم سن الرشد أو القدرة على ذلك والاستطاعة" (رياض عثمان، م. س، ص120-121). وعادة تزوّج الفتاة بابن عمها أو ابن خالها: "البنت من نصيب ابن العم ولو كان أكتع" (رياض عثمان، م. ن، ص 19). والزواج من الأقرباء هو عادة شائعة في القرى والمدن اللبنانية على حد سواء، كما أنها لافتة لدى الكثير من المغتربين اللبنانيين في أصقاع الأرض، ويعمد بعضهم إلى الزواج من قريبة له في لبنان، ويلتئم الشمل في البلاد الثانية
وأغلب زيجات الفتيات في القرى تتم بدون سؤال العروس عن رأيها (رياض عثمان، م. ن، ص 18). فكأنّ الأمر لا يخصها، بل يخص فقط أهلها. وكذلك بالنسبة للصبي مصطفى، فقد أراد الوالد أن يفرض عليه الزواج من بنت اختارها له، غير أنّ الولد رفض ذلك، وتشبث برأيه، وحصل خلاف عائلي جراء ذلك (رياض عثمان، م. ن، ص 145-146)... فلا كلام يعلو كلام الأهل، وكلمة الأبناء رهن الآباء، فهم الذي يرون مصلحة ولدهم، وهم الذين يختارون له الزوجة الصالحة(رياض عثمان، م. ن، ص 122). ولا يحقّ بأي حال من الأحوال زواج الولد من ابنة إحدى مرضعاته: "غير أن الشرع والدين يحرمه من الزواج بواحدة من أخواته بالرضاعة" (رياض عثمان، م. ن، ص 126)، وهذا ينسجم مع الشرع: "حرمتْ علَيكُم أمّهاتكم وبناتكم وَأَخَوَاتكم وعمّاتكم وخالاتكم وَبَنَات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللَّاتِي أَرضَعْنَكُم وأخواتكم من الرضاعة"...إلى آخر الآية 23 من سوره النساء. فالأديب عثمان يذكر هذه الناحية من باب الإشارة إلى النظام الديني الذي يحكم ممارسات الناس في القرية
وكما في كثير من المجتمعات الريفية، لا تظهر العروس أمام عريسها، فهو لا يراها أو تراه إلاّ خلسة أو من وراء حجاب، ولا تصطحبه في جلسة أو مشوار، حتى وإن عُقد قرانهما بوجود الشهود والأهل والأحباب وإذا رآها خطيبها اتهمت بأنها بلا حياء (رياض عثمان، م. ن، ص 20)
ونمضي مع العريس والعروس في الأيام القليلة التي تسبق العرس، وقد تأنّى الروائيّ عثمان في الإضاءة عليها، كالمهر، وتبضّع العروس، والتحضير للعرس، وانتقال العروس إلى المنزل. فبالنسبة إلى المهر، وتحت عنوان "مهر بعرق الجبين"، يتحدث عن "فصل النقد" أو ليلة "الحكي" حيث يتفق الحاضرون على مهر ألفين وخمسمئة ليرة، ويعترض البعض لأنّ المهر غال، فقد دفع بعضهم خمس ليرات كمهر لزواجه. وفي النهاية يتم الاتفاق على المبلغ الكبير، فتُتلى الفاتحة وتعلو الزغاريد. ويكون على العريس أن يوفر مبلغ ألف ليرة كمقدم، وتبرعت أم العريس وأم خالد مربية العريس." (رياض عثمان، م. ن، ص 166-169)
ولا يختلف ما يحدث هنا عن التحضيرات للعرس في أي قرية أخرى، تتبع التقاليد والأعراف الإسلامية
أما تبضّع العروس، فيكون من طرابلس القريبة، "وتجهيز العروس بسيط يحمل بعض رموز وسترات وصندوق خشبي كبير مزخرف، وطست وطنجرة وبعض أشياء" (رياض عثمان، م. ن، ص 121)… ويظهر أن كل أدوات التجميل من ألبسة وحرائر، وعطور وأصباغ، لا وجود لها في معجم تجهيز العروس، فالبساطة مطلوبة، على قدر أهل العزم، والرضى بالقليل من شيم الفتاة القروية… حيث أنّها ليست متطلّبة، خصوصاً إذا كانت أوضاع زوجها المادية غير ميسورة
ولعل من الجديد علينا ما ذكره الروائي من اختبار العروس أو استجوابها من قبل إحدى النساء، لمعرفة مهاراتها في العمل والطبخ والعجن والخَبز. فهذ المهارات هي مواصفات مطلوبة من المرأة التي يفترض بها أن تكون مكافحة، لا قاعدة وكسولة. ويبدأ الاستجواب حول اقتناء البقرة وتأمين الحشيش لها، والخَبز على التنّور والصاج، بما في ذلك من تحضير العجين والرقّ وهلّ الرغيف. وبالفعل تقوم العروس بعملية الخَبز من أولها إلى آخرها، وتنجح في الامتحان. (رياض عثمان، م. ن، ص 135-136)
وعندما يتم العرس، ينقل العريس عروسه إلى بيته على ظهر فرس للمحظية، طبعاً فلا سيارة مكشوفة ولا من يحزنون (رياض عثمان، م. ن، ص 19). ونقل العروس على الحصان هو عادة مألوفة في المجتمعات القديمة، فالحصان أعلى رتبة من الحمار، وكانت القرى في الستينات تكاد تخلو من السيارات الفخمة، اللهم إلاّ سيارات قليلة تظهر على الطرق الضيقة والمتعرجة بين الفينة والأخرى
وفي العرس، يقوم الحاضرون بتقديم الهدايا "النقوط" إلى العريسين، وفي هذا يقول أنيس فريحة : "ومن عاداتهم المستحبة تنقيط العريس، وذلك لعونه على تحمل نفقات العرس" (أنيس فريحة، م. س،ص167).والنقوط في أعراس الضنية، كما يروي أديبنا، تسجَّل في دفتر الهدايا، لأن الحياة أخذ وعطاء، ففي المستقبل يقوم العروسان برد الهدية، ومحو الاسم من الدفتر (رياض عثمان، م. س. ص 196-197)، وسجل الهدايا عادة من عادات الضيعة (رياض عثمان، م. ن، ص 174)
والعرس في الضيعة يختلف بين بيت وآخر، بحسب الثروة والحالة الاجتماعية. وهذه الناحية يتناولها د. عثمان بتفاصيلها، فكأنه مؤرخ وباحث اجتماعي إلى جانب روائيّته الخلاقة، فبين الرواية والواقع التحام قوي، وقلما نجد في الرواية كلها أي رموز أو أبعاد شعرية غائمة، فهو التزم بمذهب الواقعية، لاعتقاده أنه المذهب الوحيد الذي يستطيع محاكاة الواقع الاجتماعي. وفي هذا المعنى يقول الناقد الانكليزي أيان وات: "لا أستطيع القبول بالتأكيد القائل أنْ ليس هناك علاقة بين العمل والعالم، أو بين العمل والكلمات التي نستعملها لوصفه (تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ص111). يقول أديبنا إن الأغنياء يذبحون الخواريف أو العجول أو السواعير في أعراسهم، وتُطبخ الهريسة، ويعلو الغناء والزغاريد، أما الفقراء، فأعراسهم ترتبط بالانتاج الزراعي، فإذا كان هذا الانتاج كبيراً كان العرس غنياً، والعكس صحيح. وعادة يتجنب الفقراء تزويج أولادهم في الربيع حيث تقل المؤونة وينفد المال (رياض عثمان، م. س، ص 193-194)
ولعل أكثر النصوص في القصة كوميدية، ومن غير تراجيديا هذه المرّة، فهو النص الذي يعرض فيه الأديب الماهر ليلة "ردّ الرجل"، أو ليلة السرقة. ويشرح د. عثمان معنى هذا الاصطلاح: "العروسان يردان الرجل (رجل البنت إلى البيت الذي ربيت فيه واعتادته فذهبت إلى غيره) وفي محكية أبناء المنطقة (رد الإجر) الذي هو كناية عن عودة ورجوع البنت إلى دار ذويها بعد غياب قسري سيدوم سبعة أيام (رياض عثمان، م. ن، ص 176)
في هذه الليلة يحاول أهل العروس تجنّب أن يقوم أحد بسرقة شيء من المنزل، فيكونون حريصين على إخفاء ما هو غال، وقد تسرق البنت من منزل أهلها قطرميز زيتون، أو تنكة زيت، أو جرة غاز، أو مزهرية أو نبتة حبق أو شتلة مردكوش… (رياض عثمان، م. ن، ص 177)
وحدث في ليلة رد الإجر أن كان هناك اثنا عشر شخصاً، وطلب والد العروس تقديم القهوة بسرعة، لكي يختصر الوقت ويستعجل مغادرة المدعوين فلا تقع السرقة، لكن هؤلاء سرقوا 12 فنجاناً للقهوة، فوضعت العروس الفناجين في نمليتها كتكملة لجهاز العرس (رياض عثمان، م. ن، ص 178-179)
بيت العروسين
المجتمع زراعي غالباً في الضنية والقرى المحيطة بها. ويرسم الأديب صورة عن الضيعة وأشجارها وحقولها، وطبيعة العمل فيها. فيقدم مادة توثيقية لما كانت عليه الحال في الأربعين سنة الماضية، ففي الصيف تكون الحركة ناشطة في البساتين والحقول وفي الخريف تجمد: "الضيعة تجمد شتاء… والسكن فيها غير مجد… والريفي وقتها في فراغ شبه تام إلا من تقطيع الحطب بعد احتطابه صيفاً أو خريفاً، ومن اهتمام بالوجاق لتعديل النار ومراقبة إبريق الشاي وسكبه مع الجوز وبعض مؤونة مجففة بخبرة عالية وتفنن في السكب "(رياض عثمان، م. ن، ص 197).العمل إذن في الضنية ثلاثة أشهر فقط، وساعة يفرغ الناس من جني محصولهم، يتوجون أيامهم بالأفراح والغناء، وتبادل المواويل والعتابا والقرادي والمعنى (رياض عثمان، م. ن، ص 192)...وتكثر في القصة أسماء الانتاج الزراعي في الضنية، كالسفرجل، والتفاح، والرمان والزيتون، والجوز… فقد تحولت الضنية من مزارع إنتاج القمح والحبوب والتوت الأبيض والحرير بسواعد أبنائها، إلى غابات مثمرة من الدراق والمشمش والإجاص والتفاح وبعض نتاج العسل وتربية النحل… وتحولت معظم حقول الضنية إلى بساتين خضراء بفضل ينابيعها وطيبة تربتها (رياض عثمان، م. ن، ص 219). وليس غريباً في بيئة زراعية كهذه، لا تدر المال الوفير، أن يغادر الكثيرون مكان ولادتهم في الريف ويتوجهوا إلى المدينة، ومَن أراد البقاء فعليه أن يبني بيتاً، ولو متواضعاً يضمّه وأسرته، وهكذا فعل مصطفى: بيت صغير ليس أكثر من غرفتين وحّمام… تفصيلة على ذوق بو محرز معمار البلدة ومهندسها… لا ينتظر رخصة من تنظيم مدني ولا حظراً من مخفر درك… ويبني بو محرز البيت من مقلع حجارة، أما السقف فمن خشب فوقه طين، وهذا هو البيت الثاني في الضيعة الذي يكون سقفه من طين بعد بيت الآغا. (رياض عثمان، م. ن، ص 200-201)
وبعض البيوت في القرية من الحجارة الدبش فلا تعرف الطين أو الاسمنت، وسقوفها كذلك، إنما خشبات غلاظ علّقت في السقف من شجرات قطعت أغصانها، وبقيت جذورها شاهداً صامداً في وجه الحر والبرد في ذلك الجرد. والحورة هذه هي الجسر المتين الذي يحمل السقف ويضبط جدرانه بقواعده، وفوق الحورة يضع الباني البرباص، أو بعض أغصان الأرز والشوح والبِرى، وأغصان شجر اللزاب، تحت التراب المرصوص بمدحلة من الصخر(رياض عثمان، م. ن، ص 39-40)
قضايا اجتماعية أخرى
يبرز الكاتب العديد من القضايا الاجتماعية والصور المعبرة عن الحياة في الريف، مثل صورة المرأة الخاضعة لتقاليد المجتمع، والتي يتم فرض العريس عليها، وتحرم أحياناً من الميراث (رياض عثمان، م. ن، ص 72). كما توصف بالعانس... ويدرج الأديب حقلاً معجمياً غنياً لألفاظ يفهم منها الاستهانة بمكانة المرأة، مثل: انلكعت، مطلقة، أرملة، خاطبة وتاركه، وعانس (أي كبرت في السن ولم تتزوج)، فاقتصر دورها على خدمة العائلة والمجتمع والجلي والطبخ في الأعراس والمآتم، ولا مكانة اجتماعية لها إلا في وقت الحزّة (رياض عثمان، م. ن، ص 142-143)، وفوق ذلك فإن الصبي ابن خمس أو سبع وابن عشر سنوات في الريف قوّام على المرأة (رياض عثمان، م، ن، ص 118-119). ويصوّر أديبنا العين في الضنّية، وما أدراك ما العيون هناك وأعدادها بالمئات (360 عيناً أو نبع ماء) يسمي الأديب بعضها بالأسماء. والعين في الضيعة، نبع الزحلان تحديداً ملتقى بنات الحي ونسائه وملتقى الأحاديث وسانحة الود وتفقد أحوال الناس بعضهم بعضاً، وغرفة عمليات الكثير من الزيجات والمناسبات والتأليب (رياض عثمان، م. ن، ص 23). وهذه صورة للعين المعروفة في التقليد الشعبي حيث "تزدحم النساء والصبايا صباحاً وظهراً ومساء للاستقاء وللقال والقيل وللعتاب والعراك أحياناً" (أنيس فريحة، م. س، ص 69)
ويلفت الأديب إلى التزام الأولاد بالأسرة، وإلى شملة الشروال، وتنّورة الأم، ودور الآغا الاقطاعي، والمشكلات التي يعانيها أبناء الريف، والفرق بينهم وبين أبناء المدينة في مواجهة تلك المشكلات. كما يشير إلى ناحية مهمّة جداً، وهي كيف حافظت الضنيّة في الحرب المشؤومة عام 1975، على التضامن والمحبة والوئام، فاسمع تلك المرأة الضنّاوية وهي تقول: "مَن يريد أن يطلق رصاصة الفتنة، فليصوّبها إلى هنا (وأشارت إلى صدرها)… مَن يريد أن يجلب الدماء إلى الضنية فليطلق رصاصة حقده إلى صدري. الضنية لا تركع، الضنية لن تتأثر، وأبناء الضنية أخوة، أهل وجيران: من هذا الثدي رضع جورج وأحمد وحنا وحمدان وبطرس ومصطفى (رياض عثمان، م. س، ص 268-269)
ألا عاش قلمك أيها الأديب الضناوي اللبناني العربي الجميل، وعاشت الضنية الحبيبة، وكل بقعة سلط عليها هذا الكتاب الأنيق الضوء، وأبرز ما فيها من فضائل وقيم وتقاليد عريقة
ردّاً على كلام ميرنا الشعّار، بعد أن اتهمتني - بالجهل في المجتمع-
5 أيار 2019 (قبل زيارة الوفد الاغترابي إلى لبنان بوقت قصير)
وقالت إنّها كانت تنصحني لكي أصحح، وهو لم يحدث إطلاقاً، ولم أسمع منها مرة أنها وجهت إليّ أي نصيحة
كتبت ميرنا الشعار تعليقاً على انتقاد هاني الترك لدراستي الأكاديمية المنشورة على صفحتي وفي موقع أفكار اغترابية عن دور القوات الاسترالية في لبنان وسوريا في الحربين العالميتين ما يلي
مقال مهم جداً أستاذ هاني خاصة فيما (الصحيح في ما) يتعلق بتقديم المواد على انها نابعة من 'دراسة اكاديمية' مع العلم ان اي بحث علمي يجب ان يقوم على حقائق وثوابت ودلائل يكون معروف من اين مصدرها. ويتم التصريح بالمصادر في فصل كامل في نهاية البحث. لقد لفتتُ نظر الدويهي لهذه النقطة في مرات سابقة وكان بدلاً من ان يصحح (وهي صفة الأكاديميين) بل كان (خطا نحوي) يتمسك بالأخطاء بل ويحارب من يحاول تصويب ما يقوله خاصة في نطاق هو خارج تخصصه. الجهل في مجتمعنا هو السبب. وقلائل من يفهم (الصحيح يفهمون) بالتاريخ وتحديداً التاريخ الاسترالي. اما عن الترجمة الخاطئة فحدث بلا حرج". (انتهى كلام الشعار)
وللتوضيح وإثباتاً للحقيقة الدامغة
إن هاني الترك اعتمد على ورقة صغيرة مطبوعة وموضوعة على الكراسي في احتفال الأنزاك الذي أقامه المجلس الأسترالي اللبناني، والورقة مليئة بالأخطاء الطباعية، وكنتُ أرسلت نصاً إلى المجلس الأسترالي اللبناني وتم اختيار نقاط منه، ولم أطلع على المنشور إلا عند وصولي إلى الصالة، وانتبهتُ إلى الأخطاء بعد فوات الأوان. ولم أكن أنا من وزع الاوراق على الكراسي كما يزعم الترك، على الرغم من أنني أتحمل المسؤولية الكاملة عن الأوراق التي احتوت على أخطاء، وكان علي أن أشرف على تصحيحها قبل نشرها، ولم يسعفني الوقت لذلك. ونحن اعتمدنا على نباهة الحاضرين لاكتشاف الأخطاء المطبعية، فإذا بالترك يأخذ هذه الورقة حجة للانتقاد... أما كلمتي وراء المايكروفون فكانت مختصرة ومجتزأة أيضاً، وقد حذفتُ منها الكثير من المعلومات الموجودة في المقالة الاًصلية المنشورة على صفحتي (فايسبوك) وعلى موقع أفكار اغترابية. ولو التزمَ الترك بالأصول التي يعرفها الجميع، لكان سألني عن المقالة الأصلية وناقشها... (وستكون لي عودة إلى الترك في وقت لاحق)
تقول الشعار: "إن البحث العلمي يجب أن يقوم على حقائق وثوابت ودلائل يكون معروف من أين مصدرها". (وطبعاً هذه الأسس التي تعتمدها الشعار في (مقالاتها التي يبدو أنها ملأت العالم ودُرّست في الجامعات - كما أفهم)، وأرجو أن تعرض هذه المقالات علينا لكي نتعلم منها (الشعّار لم تكتب مقالة أكاديمية واحدة في حياتها ) والسؤال للشعار: هل قرأتِ مقالتي العلمية لتعرفي إذا كنت اعتمدت على المعلومات الصحيحة أم لا؟ وهل اطلعتِ على الهوامش وطريقة أثباتي للمصادر والمراجع؟... للأسف أنت تعلقين على معلومات لم تقرئيها
تقول الشعار: "لقد لفتتُ نظر الدويهي لهذه النقطة في مرات سابقة وكان بدلاً من ان يصحح (وهي صفة الأكاديميين) بل كان يتمسك بالأخطاء بل ويحارب من يحاول تصويب ما يقوله خاصة في نطاق هو خارج تخصصه
غريب هذا الكلام، فبأي صفة تنصحني الشعار؟ وبأي رتبة تفوق رتبتي؟ ومتى حدث أن نصحتني أو لفتت نظري وكنت أعاند؟
*ولكي أصحح كلام الشعار، ألفتها إلى ما يلي
لقد كتبتُ رسالة ماجستير في الجامعة اللبنانية 1988، وأثبتت فيها 103 مصادر ومراجع، ولم أكن أعرف الشعار
كتبت أطروحة دكتوراه في جامعة سيدني 1998، أثبتت فيها 127 مصدراً ومرجعاً، ولم أكن بحاجة إلى نصح أحد، حتّى أستاذي المشرف، لان أي طالب مبتدئ في الجامعة يعرف أن من متطلبات الدكتوراه أن يثبت المصادر والمراجع
جميع مقالاتي الأكاديمية على الإطلاق كتبتها في جامعة سيدة اللويزة، وتحديداً داخل مكتبي في الجامعة، بين عامي 2006-2013، وكنت خارج أستراليا، ولم أتواصل مع الشعار مرة واحدة في تلك الفترة، ولم أكتب مقالة أكاديمية واحدة في أستراليا. وكل تلك المقالات التي أنجزتها في لبنان فقط تحتوي على ملحقات بالمصادر والمراجع، فتثبيت المصادر والمراجع هو أهم متطلبات المقالة الأكاديمية، والجميع يعرفون ذلك
كتبت مقالتي عن تدرس اللغة العربية في أستراليا عام 2011 وكنتُ في لبنان - مجلة بالما المحكمة (اثبتت فيها 30 مصدراً ومرجعاً)
كتبتُ مقالتي عن الأسطورة في أدب سعيد عقل عام 2012، وكنت في لبنان وهي منشورة في كتاب أكاديمي بعنوان "سعيد عقل الإرث والمبتكر" وأثبتت فيها 40 مصدراً ومرجعاً
كتبتُ مقالتي الأكاديمية عن زيارات البطريرك صفير الخارجية عام 2012 وكنت أيضاً في لبنان (منشورة في كتاب أكاديمي بعنوان البطريرك صفير ما له وما عليه) أثبتتُ فيها 28 مصدراً ومرجعاً
كتبت مقالتي الأكاديمية بالانكليزية عن المرأة في أدب أمين الريحاني عام 2012، وهي منشورة في كتاب باللغة الانكليزية بعنوان أمين الريحاني - التراث الأميركي العربي، وأثبتت ُفيها 16 مصدراً ومرجعاً
نشرتُ مقالتي الأكاديمية بالانكليزية في المجلة العالمية للفنون والتجارة، عن تسرب اللغة الانكليزية إلى اللغة العامية في لبنان في كانون الثاني 2013، أي قبل مجيئي إلى أستراليا بستة أشهر، وأثبتت فيها 20 مصدراً ومرجعاً
كتبت مقالتي الأكاديمية عن شخصية الشيطان عند غوته وأمين الريحاني في لبنان عام 2011، ونُشرت في مجلة أكاديمية محكمة "منارات ثقافية" وأثبتتُ فيها 34 مصدراً ومرجعاً
هذه تقريباً كل أعمالي ومقالاتي الأكاديمية، فإذا كنت أثبتتُ فيها من تلقاء نفسي المصادر والمراجع، فكيف تكون الشعار قد نصحتني وأنا لم أكن في أستراليا؟
وسأفترض أن الشعار نصحتني، فكيف تخبر الناس علنا أنني قد عاندت ولم أسمع النصيحة منها، بينما أثبتتُ المراجع في جميع مقالاتي على الإطلاق؟
أما الأغرب فأن تلومني الشعار على عدم إثباتي للمصادر والمراجع في مقالتي عن دور القوات الأسترالية في لبنان وسوريا، مع العلم أنني في هذه المقالة بالذات أثبت 41 مصدراً ومرجعاً. وهذا دليل على أنها تحكم على شيء لم تقرأه، كما فعل الترك تماماً
إن الادعاء بأن الشعار كانت تنصحني أكاديمياً، يفترض أن تكون هي أكاديمية، وأنا نشرت على صفحتي شهادة الدكتوراه التي حصلت عليها بتعبي وعرق جبيني، ونشرت 40 كتاباً مختلفة الأنواع الأدبية، وأثبتت أعلاه جميع مقالاتي وأعمالي الأكاديمية، وخبرتي في التدريس الجامعي، فلماذا لا تثبت الشعار ما عندها من أعمال لكي أصدق أنها مؤهلة لكي تنصحني؟
تقول الشعار إن الجهل في مجتمعنا هو السبب. طبعاً هذا صحيح، ولكن في أستراليا فقط جحا أكبر من والده، فالذي عنده 40 كتاباً، وحاضر في جامعات مع كبار الأساتذة من أنحاء العالم، وشارك في مؤتمرات دولية، وكتُبت عنه عشرات المقالات، ونشرت عنه قصائد، والذي كتب ألف افتتاحية سياسية، وكان مديرا للبرامج في مؤسسات إعلامية كبرى، وأنجز 90 حلقة إذاعية لإذاعة قطر، وكتب عشرات البرامج الإذاعية في أستراليا، ونشَر دراسات أكاديمية، وله كتابان يدرسان في الجامعة، و8 كتب تدرس في مدارس لبنان، والذي يشهد له أساتذة جامعات بطول باعه وعلو شأنه في العلم والبحث والمعرفة والتأليف... والذي يصرف من ماله وجهده على مشروع وصل إلى أنحاء العالم، والذي لقب بأمير الأدب، والعبقري اللبق، وعميد الأدب الراقي، وجبران الجديد، ومؤسس النهضة الاغترابية الثانية... والذي أسس مدرسة للأدب تأثر بها العديد من الكتاب والشعراء في أنحاء العالم... هو الجاهل... أما الذي ليس عنده شيء فهو العالم والفهيم، ويستحق أن تقيم له الجالية تمثالاً، وتقدم إليه في كل مناسبة الدروع
تختم الشعار كلامها بالقول: "عن الأخطاء في الترجمة فحدث ولا حرج". وكان أجدر بها أن تعرض في سطر واحد أي خطأ لي في الترجمة، وأنا أترجم منذ 25 سنة، وكنت أستاذاً في الجامعة للترجمة الأدبية لصف الماجستير. ويبدو أن الشعار اعتمدت على كلام الترك حول تسميته للمجلس الأسترالي اللبناني، وهو يريده أن يكون المجلس اللبناني الأسترالي، وطبعاً يريدنا أن نلغي الاسم الرسمي للمجلس، إكراماً له ولعين ترجمته، وهو لا يعلم أن الترجمة هي آخر ما نفكر به كرافد لإبداعنا وعطاءاتنا
نحن نأسف أن نرد بالحجة الدامغة... ونترك للناس أن يحكموا بأنفسهم على ما كتبناه بكل احترام، ولسنا نقصد بردنا أي إساءة، لكن لإظهار الصواب، وخوفاً من أن يقتنع الناس بما ذهبت إليه الشعار، مع أن الأسطر القليلة التي كتبتْها هي فيها كثير من محاولة الإساءة إلينا... وأرجو أن يوضع كلامي في إطار الصدق والتصحيح، ولا يؤخذ إلى ما ألفناه من نعوت لنا بالغرور والتكبر، وهي نعوت نسمعها كلما أجبنا بالحق والعدل والصواب
اخيراً وليس آخراً، كنت أتمنى على السيدة الشعار، بدلاً من أن تقول كلاماً غير صحيح عني، ومن باب لم يحدث، وهو من نسج خيالها، أن تذكر للناس أنني توقفت عن النشر لها على موقعي "أفكار اغترابية"، فالذي يتحدث عن الجهل، عليه أن ينتبه لأن للناس عيوناً ترى وعقولاً تفهم. أما الذي كتبتْه الشعار اختلاقاً، فهو من باب "رد الجميل" لمن نشر لها، سواء في موقعه الإلكتروني أم في جريدة المستقبل، ثم اضطررتُ أن أمتنع عن النشر لسبب أحتفظ به لنفسي.
جميل الدويهي: كتاب الأديبة كلود ناصيف حرب
"عبقريّ لبق من بلادي عميد الأدب الراقي"
ماذا يعني لي كتاب "جميل الدويهي عبقري لبق من بلادي عميد الأدب الراقي" بقلم الأديبة كلود ناصيف حرب؟ إنه يعني الكثير، والجميع يعرفون أن كلود لا تترك فرصة إلا وتبدي فيها قمة الوفاء ورد الجميل، ودائماً أقول لها: "أفكار اغترابية" لم يفعل لك شيئاً. أنت زرعت في الأرض والحصاد كان جميلاً. وكل عطاء هو من فضل الله علينا... ولكنها تملأ صفحتها بأعمالي، حتى أصبحت أعتقد أن صفحتها لي ولكتاباتي. ثانياً: هي أول من يكتب عني كتاباً في أستراليا، بل في العالم أجمع، وستتبعها الغالية مريم الدويهي بكتاب ثان. وعندما وقف مثقفون ونقاد أمام أعمالي وسلاحهم الصمت المطبق، وعندما تجاهلني العديد من الناس قالت كلمتها، وأنا أعرف أن هؤلاء الصامتين سينطقون الآن الآن فجأة وكأن برج بابل سقط على مرأى من أبصارهم. هذه هي الشجاعة بذاتها، ولولا الشجاعة لكسرنا أقلامنا من زمن طويل، وتوقفنا عن الكتابة، ولكانت مطبعة جميل الدويهي تعطلت وتوقفت عن إصدار الكتب التي يجب أن ترفع كآيات من مفاخر الجالية، وكمآثر حضارية قدمناها من غير مقابل، ما عدا محبة الناس التي تغمرنا، وأحبابنا يزيدون يوماً بعد يوم، ويسألوننا: متى مهرجانكم المقبل ومتى عرس أعراسكم؟
وثالثاً: كتاب كلود هو دين عليّ، وسأرده لها مضاعفاً، لأنها تستحق... فهي المرأة المؤمنة، المترفعة، المتجردة عن كل غاية، وأشهد أمام والله والناس أنها لم تحقد يوماً على أحد، ولا حسدت أحداً، ولا رفضت نصيحة أو رأيا مني... وأنا أعتز بصداقتها وزوجها الغالي سايمون الذي أعتبره أخاً... ولهما الوفاء مني إلى الأبد
الكتاب توثيقي، وكناية عن معلومات موثقة عن مرحلة عودتي الأخيرة إلى أستراليا (2014-2019) وسيقدم هدية مجانية في حفل تكريمي الذي سيقام في 4 نيسان المقبل. وقد أحاط المنظمون المناسبة بكثير من الخصوصية لظروف لا نسمح بذكرها... كما سأقدم مجموعة من كتبي التي صدرت في عامي 2018 - 2019 هدايا مجانية للحاضرين الذين سيكون عددهم محدوداً بعدد البطاقات التي ستوزع... وسنقول في كل مرة: نحن هنا... وأعمالنا تدل علينا
لا تكفي كلمات الشكر لكلود، فبعدد الحروف أهديها شموعاً مضيئة وجنائن امتنان
بيان: أفكار اغترابية للأدب الراقي - انحياز إلى ثورة الشعب اللبنانيّ
17 تشرين الأول 2019
منذ انطلقت ثورة الشعب اللبناني المباركة، اعلن مشروع افكار اغترابية ومؤسسه الدكتور جميل الدويهي تاييده للشعب اللبناني الكريم الذي غصت به الساحات ومطالبه العادلة بالحرية والحق في الحياة الكريمة. ويعلن مشروع افكار اغترابية ما يلي
١ ان تاييد الشعب ينطلق من ضمير واحساس بالمسؤولية ولا بنطلق من اي انتماء سياسي
٢ ان الثورة يجب ان تكون موجهة ضد نظام وليس ضد اشخاص او رموز، فالطبقة الحاكمة مسؤولة عما وصلت اليه الاوضاع منذ ٣٠ سنة، ومن الضروري والملح اصلاح هذه الاوضاع، وانقاذ الشعب والوطن من التردي المتفاقم يوما بعد يوم
٣ يشكك افكار اغترابية في الاعتداءات التي حدثت في مناطق ولم تحدث في مناطق اخرى، ما يدل على ان اطرافا معينة مضادة لارادة الشعب في التغيير افتعلت احداثا لاتهام المتظاهرين بانهم فوضويون ولاحراج الثورة وحرفها عن مسارها، كما حدث في بلدان اخرى
٤ يؤيد افكار اغترابية الشعب في تحركه العفوي غير المسيس، ويحذر من ركوب احزاب موجة التحركات، لحرفها عن مسارها وادخالها في صراع سياسي هي بغنى عنه
٥ يدعو افكار اغترابية المتظاهرين الى الالتزام بالامن والنظام العام وعدم الاعتداء على العناصر الامنية والجيش والمواطنين، والتاكيد على سلمية التحركات
٦ يتمنى مشروع افكار اغترابية على من يعارضون الثورة عدم تناولها بالفاظ مهينة والتشهير او الاستخفاف بها، احتراما للديمقراطية وحرية الاختيار والتعبير. كما يرفض اتهام الثورة بانها مؤامرة خارجية وان الثوار اذناب لدول معينة. كما يتمنى على المؤيدين والمعارضين في وقت واحد ان يكفوا عن نشر افكارهم غير المستقرة التي تسيء الى الراي العام، وتظهر انهم مع الثورة لكنهم ضدها انسجاما مع انتماءهم السياسي
مشروع افكار اغترابية للادب الراقي سيدني
د. جميل الدويهي
جميل الدويهي يحاضر عن تجربته في الأدب
دعا لقاء الأربعاء الأديب المهجري د. جميل ميلاد الدويهي إلى محاضرة في مقر اللقاء، قاعة الدكتور خليل مصطفى - أرنكليف، وكانت المحاضرة بعنوان: تجربتي في الأدب
قدم الشاعر شوقي مسلماني الدويهي، وبعد دقيقة صمت عن روح الدكتور مصطفى، رحب مسلماني بالضيف، وشكر الحضور على تشريفهم. ثم ألقى الدويهي محاضرته التي أضاء فيها على طفولته، وتعليمه، وأنواع الأدب التي يكتبها، وألقى خلال المحاضرة قصائد من نتاجه باللغتين العامية والفصحى، قوبلت بالتصفيق مراراً
وفي ما يأتي نص المحاضرة
أيها السيداتُ والسادة، الأصدقاءُ في لقاء الأربعاء ، تحية لكم من قلب يحبُّكم، ويفتخر بكم. وكلمةُ شكر لا تعبّر عن مدى امتناني لكم لاستضافتي في هذه الجلسة العائليّة التي تُشعرني بدفء الصداقة وسحرٍ عميق. هذا اللقاء أصبح لنا محطّة من محطّات الفكر والثقافة، ونحن جميعاً نتكامل ونتواصل من أجل تحقيق هدفٍ راقٍ هو الأدب المهجري الرفيع والفاعل، وأنتم تعرفون كم أضحّي من أجل هذه الحقيقة، أضحّي معنوياً ومادياً، وهذا لا يخفى على عين بصير. وقد كنتُ في لبنان ودرّست في جامعة سيدة اللويزة لمدة تسع سنوات كأستاذ متفرّغ، وكنت أرى وأسمع مدى التجاهل المتعمَّد لأب المهجر الأسترالي، فكأنّنا نحن هنا أموات، والمقيمون في الوطن، خصوصاً من الطبقة المثقّفة، يُعيبون علينا العودة من الموت، أو أن يُشرقَ لنا نور حتى من وراء القبور
الأدب مسؤوليتُنا جميعاً، وعندما أطلقتُ مشروع أفكار اغترابية في عام 2015 للأدب المهجري الراقي، كنت أعني ما أقول، بل كنت أشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقي، كأديب وشاعر، وناقد، وأكاديمي، لتوضيح الصورة ونشر أدبنا في العالم، علّ وعسى أن تكون هناك آذان صاغية وأن تتغير الفكرة المتحجرة التي تخمّرت في عقول الكثيرين. ولا أعتقد أنّ واحداً منكم أيّها الأحبّةُ يجهلُ ما حقّقتُه من توصيل الأدب إلى خارج أستراليا، سواء من خلال موقعي على الانترنت "أفكار اغترابية" أو من خلال الفايسبوك. أعرف أن الصراع طويل والعمل صعب، والفعلةُ قليلون، لكن لا مجال للعودة إلى الوراء، وبالأمس القريب مررت بتجربة في لبنان، لا أحب الكشف عن تفاصيلها، أشعرتني بالظلم والإجحاف، وقد يكون من مارسوا الظلم في حقي قد مارسوه وهم يعلمون أنه ظلم. ولكن لا تراجع ولا استسلام، فنحن نحاول مُلكاً أو نموتَ فنُعذرا، كما يقول جدّنا امرؤ القيس
عصفور بالغصن العَبي
بتْضلّ يا عَصفور بالغُصن العَبي
ما بتنْزل نْدَرْدِش سَوا عالمصْطَبِه
صِبّيتْ بالفنجان قهوه طيِبِه
سكّر قليل، بْيشْتهي يْدُوقا نَبي
معْقول هيك تْضلّ عنّي مخْتبي
لا قْبلت نحْكي، ولا شْربتْ من مَشْربي
جاوَبْ: ما بَدّي شُوف وجّك يا صَبي
لا تلوم طْير زْغير عالتلّه رِبي
لا ْبمدرسِه مِتْعلّم، ولا بْمَكتَبِه
لكنْ معي شهادات فكر ومَوهبِه
تحدّيت بالموّال أكبر مُطْرِبِه
و"موزارت" ما وصّلْ عا ذات المرتبِه
حُرّيتي بَيتي، وجَناحي مَرْكبي
وأوسع من قْصور الممالِك مَلعَبي
لابس عبايِه شغْل الله مْقصّبي
لا مْخزّقه من العاصْفِه، ولا مْقطّبِه
وأدْيان ما حلّلتْ كيف مركّبي
وحْروب خَوتا، والنتايج مُرْعبه
هيدا غَني، وعندو كنوز مْرتّبِه
وسيّارتو "جَكْوَر" طَويله... مْدَهّبي
وهيدا فقير العاش عيشِه مْعذّبِه
من الجُوع ماشي عا طَريقو دبْدَبي
وما بين صِيني، وبين هنْدي ويَعْرُبي
وتُركي ومَغولي، وفارسي أو مَغْربي
احترْنا يا قرعَه، وصار عنّا سَرْسَبي
عا قدّ ما شِفْنا البيوت مْخرّبِه
العصفور ما عندو حَضاره مْعلّبِه
من هيك بدّي قُول يا خَيّي العَزيز
مَنّي غَبي، ولا بْحبّ يخْدَعْني غَبي
بدأت تجرِبتي مع الأدب في سنّ مبكّرة، وكنت في الثامنة من عمري عندما كنت أتفوّق على أقراني في القراءة والكتابة والإنشاء وقواعد اللغة، وذات مرة طلب مني المعلم في مدسة شكا الرسمية عادل رزق الله (أطال الله في عمره) أن أقرأ نصاً في كتاب الاخلاق، وبينما كنت أقرأ وجدت أن العديد من المعلمين الذين كانوا في غرفة مجاورة يتحلقون على الشبابيك ليستمعوا إلى إلقائي، فخجلتُ... لكنهم كانوا يشجعونني بنظراتهم وابتساماتهم، وألقى الأستاذ عادل كلمة يُشيد فيها بهذا الطفل الذي يقرأ كالكبار ولا يُخطئ في اللغة. وبعد ذلك بدأ الأساتذة يختارونني لإلقاء الخُطب المدرسية في أعياد ومناسبات، وعندي صورة وأنا في التاسعة من عمري ألقي خطاباً في ملعب المدرسة. وكنت من الطلاب القلائل جداً الذين حصلوا على علامة 17 من عشرين في مادة الإنشاء، وكانت النصوص التي أكتبها تُعلّق في خزانة زجاجية ليقرأها الطلاب والزائرون إلى المدرسة
كنتُ كثير المطالعة والاطلاع، وكنت أستمع إلى الشعراء والقوالين في الأعراس وأصغي إليهم، وعلى شاشة التلفزيون كنت أتابع برامج الزجل وأُعجَب بقدرة هؤلاء الزجالين على التباري فيما بينهم من غير أن يقرأوا من ورقة، وكان ذلك يسمّى بالارتجالي، ثم اكتشفت أن أغلب الارتجالي هو قصائدُ مُعدّة سلفاً، يتّفق عليها الشعراء ويحفظونها عن ظهر قلب ثم يلقونها، فيظُن السامعُ أو المُشاهد أنّها تأتي من بنات الخيال ونتاجِ اللحظة الحاضرة
ومن خلال تلك الطالعات والمتابعات أحببت الشعر، على أنني كنتُ أميلُ إلى قراءة القصصى كثر في سنواتي الأولى، وكانت تقع في يدي وأنا أبحث في مكتبة المدرسة دواوينُ قديمة وحديثة، وكان يجذِبُني الشعر الحديث أكث من الشعر القديمر، ربّما لأننا في المدرسة اعتدنا على الشعر القديم وأصابتنا تُخمة منه، فكان الشعرُ الحديث والتفعيلة بنوع خاصأكثرَر قبولاً عندي، وأتذكر ن محمود درويش كان من أوائل الذين قرأت لهم والديوان كان اسمُه "آخرُ الليل"، ثم أعجبت بنزار قباني وشعرِه الغزلي، وإيليا أبي ماضي الذي رأيت عنده سهولة ربما لم تكن موجودة عند كثيرين من شعراء عصر النهضة
بنت الخُضرْجي
بنْت الخضَرْجي القَدّها ممْشُوق
تَركتْ إلي بالرّاس جِنّيّه
سِتّات متْلا ما شفْت بالسوق
مِشْيو وَراها رْمُوش عِينيّي
ومتل الكأنّي بالسِّحْر معْجوق
:بلّشتْ إحْكي من صَفا نيّه
قلتلّها: "هَيدا كرَز لَقلوق
مْحَوّش من الودْيان صبحيّه
وهيْدا عنَب تحت الشمس مَحْروق
غنّت إلو فيروز غنّيِّه
واللوز قلبو مْفقّع، ومشقوق
"والعصر هُوّي عصر حرّيّه
ضحكتْ إلي، وقالت: "ما فيك تْدُوق
وهيدا الحَكي ما بيمْرُق عليّي
فكّرتْ إنّك عاشق ومَعْشوق
"...يا دونجوان، تْصَبّر شْويّي
شدّيتها... وبِسْتا ورا الصّندوق
والأرض بَرْمتْ من حَواليّي
وهلّق عا هاك السُّوق لّما بْسوق
بتْقول: حَوّلْ... فاضْيه الدكّان
.وآخِد إجازِه من الشِّغل بَيّي
أما كيف بدأت الكتابة، فقد كنت أجلس منفرداً، وأكتب بضعَ كلمات وأحاول أن أؤكدَ قدرتي على إنشاء نص شعري، فأفشل حيناً، وأفشل حيناً آخر، ولا أحتفظ بأي كلمة كتبتُها في تلك الأنثاء، ولكن أذكر أنني كنت أتبادل النظرات مع فتاة، ولم أتجاوزْ في علاقتي معها الحدّ المسموح به لطفل في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، وكنت أعتبر ذلك نوعاً من الحبّ. وذات يوم رأيتها تُطيل الحيث مع ولد آخر، فغضبت وكتبت لها قصيدة هجاء، لا أذكر منها شيئاً سوى أنها كانت على البحر الكامل، ورويُّها حرفُ الحاء المكسور. وقد يسألُني سائل: لماذا بدأت على البحر الكامل؟ اكتشفت لاحقاً أن الشاعر المبتدئ يختار دائماً البحر الأسهل، والكامل بإجماع الدارسين هو الأسهل على الإطلاق، وقد سُمي بحمار الشعر لانقياده وطواعيته للشعراء المبتدئين
وكبرت، وانتقلت من المدرسة الابتدائية إلى الثانوية، وكانت سمعتي كخطيبٍ صغير تسِبقني أينما حللت، وقلما كانت تُقام مناسبة في الثانوية إلا وكنت متحدثاً فيها، حتى عام 1975 عندما بدأت الحرب، وانقسم الناس بين طوائف، ووُضعت حدود بين المناطق، فوجدت نفسي من غير إراتي في خندق عميق، وكان عليّ أن أتماشى مع تلك الفترة من خلال كتابات وخُطب، لم أعد أملِك منها شيئاً
في عام 1979، كنت في التاسعة عشرة من عمري، عندما دخلت إلى الجامعة اللبنانية – الفرع الثالث في طرابلس، وتابعت دراستي الجامعية للحصول على شهادة الليسانس، ثم الماجستير، وأذكر من تلك الفترة تفوُّقي في اللغة العربية وآدابها، وكنت أساعد طلاباً آخرين أثناء الامتحانات، وأحقق علامات عالية، منها 95 على مئة في مادة النقد الأبي، و95 على مئة في مادة الأدب الحديث... لكنني لم أقترب من الشعر بشكل رسمي في تلك الفترة لسببين: أولاً: انشغالي في الدراسة، وثانياً خوفي من الحُكم على أعمالي بعد أن رأيت أحد الأساتذة يحكم على قصائدَ يقدمها إليه طلاب لينظر فيها، قائلاً: "ما كل واحد بيقول يا جمال البوبَعة شو محمّلين بيكون شاعر”. فأخافني هذا الحكم، وانكفأت إلى داخلي،أ كتب لنفسي ولا أشارك في أي مناسبة شعرية في الجامعة على الإطلاق، على الرغم من معرفة زملائي في الجامعة بأن عندي محاولات شعرية تستحق الاهتمام
حبِّي لكِ
نحن ابتدأنا الحبَّ، مــــــا مــــــــــــــــــن قبلنا شعــــــــرٌ يُـــــــــــــقــــــال، ولا ربيعٌ يزهِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرُ
وأنا بعينيكِ اكتشفتُ حـــــــــــــــــضـــــــــــــــــارةً، وكواكباً طُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــولَ الزمــــــــــــــــــانِ تنوِّرُ
وسرقتُ من فمكِ الجميلِ قصــــيدةً مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا زلت أكتبُها، ومنها أسكرُ
وقطفتُ مـــــــــــــــــــــــــــــن تفّاحِ صــــدركِ غلَّةً، فأنــــــــــــــــــــا بــــــــــــــمـــــــــا ملكتْ يميني قيْــصـرُ
يــــــــــــــــــــــــــا سرّ إبداعـــــي، وسرّ بدايتي... يــــــــــــــــــــــــــــــــا مَــــــــــــــــــــــــــــــــــن تغيّرُني، ولا تتغيَّرُ
يـــــــــــــــــــــــــــــا فكرتي الأولى التي وُلِدت معي، فأنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أعيشُ لأجلها، وأفكِّرُ
متصــــــــــــــــــــــــــــــوِّفٌ حَـــــتّى أذوبَ وأختفـي، متداخلٌ فيكِ، ولا أتـــــــــــــــــحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَّرُ
تتكسّرُ الأيَّامُ لــــــــــــــــــــــــــولا غبتِ عـــــــــــــنْ عينِي... وقـــــلـــــــــــبـــــــــــــــــــــــي مثلـهـا يتكسّرُ
نمشي معاً والأرض تعشقُ خطْوَنــــــــــا، ويدِي على الشَّعــــــــــــــــــــــر الجميل تثرثرُ
لولا الهوى مــــــــــــــــــــــا كنتُ أُبصرُ عالمي، فالريح تأخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذُ مركبي، والأبحُــرُ
كنتُ الجمودَ، وأنتِ قـــــــــدْ أحييتِني... كنتُ المعانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاةَ الـــــــــــتــــــــــــي تتكرَّرُ
علّمْتِني أن الحـــــــــــــــــــــيــــــــــــــــــــاة جميلةٌ، فبدأتُ أحــــــــــــــــــــــــــترف الغناءَ، وأشعُــرُ
ورقصتُ مــــــــــن طــــــــــــرَبٍ كطيرٍ عاشقٍ، فــــإذا الفضاءُ يضــــــيقُ فيَّ، ويَصغــــــــــرُ
لولاكِ أنتِ، فــــــمــــــــــــا حـــيـــــــــــــــاتي كـــلُّها؟ مــــــــــــــــــــــــــاذا أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــا إلاّ خيالاً يعْـــبرُ؟
كم يَكْذِبُ العشّاقُ في وصْـف الهوى فــــــــجميعُ مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا قالوه ليس يُعبِّرُ
ما البحرُ؟ ما طولُ السماء وعرضها؟ حبّي لكِ مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن كلِّ شيءٍ أكـــــــبَرُ
تخرجتُ من الجامعة في عام 1983 بشهادة الليسانس، بدأت مهنة التعليم في مدرسة السان تيريز – أميون، وفي معهد الآباء الكبوشيين البترون، وهناك بدأت رحلتي مع الشعر المُعلن، وكنت أكتب فقط الشعر الموزون، وجميع القصائد التي ألقيتها في أمسيات كانت تقيمها المدرستان ورابطة البترون الثقافية التي كنت عضو شرف فيها باعتبار أن هويتي من زغرتا وليبس من البترون... تلك القصائد لا أعرف عنها شيئاً، فقد ذهبت ولم تعد، وفي ظني أنها مسجلة على أشرطة فيديو ومحفوظة في المدرستين، ولا أعتقد أن تلك القصائد كانت ذات مستوى عال، بل كانت قصائد عادية. وكانت لي امسيتان أو ثلاث مع شعراء آخرين في إهدن تضمنت قصائد عادية أيضاً. وانتهت فترة التعليم في لبنان بحصولي على شهادة الماجستير، فبعد يومين فقط من مناقشتي للماجستير طِرت إلى أستراليا البلاد الموعودة. كان ذلك في تشرين الثاني عام 1988. وكان أول ما فكرتُ أن أفعله هو أن أتابع دراستي جامعة سيدني للحصول على شهادة الدكتوراه في الأدب، فأنهيت دراستي عام 1995، وحصلت على الشهادة عام 1998، يعني بين إنهاء الدراسة والحصول على الشهادة ثلاث سنوات، بسبب صعوبات واجهتها الجامعة في تعاطيها مع أحد الأساتذة العرب في اليمن الذي كان يعِد بقراءة الدكتوراه ولا يفي، وبعد انتظار طويل، حسَمت الجامعة أمرها وأرسلت الدكتوراه إلى قارئين في بريطانيا، فتمّت الولادة. ولم أتمكن من التدريس في الجاامعة منذ ذلك التاريخ ولو ساعة واحدة، لظروف خارجة عن إرادتي. غير أنني درّست في معهد مار شربل بين عامي 1999- و2004
نشرتُ في أستراليا العديد من االدواوين: عودة الطائر الأزرق، تقاسيم شرقية لرقصة الفجر، وجهان لمدينة واحدة، وأصدرت مجموعتين من شعر الغزل على شريطيْ كاسيت (محوتُها فيما بعد)، كما اكتشفتُ أن الكثير من القصائد التي نشرتها في دواويني الثلاثة لم تكن تستحق النشر. حتى جاء عام 2002 عندما نشرتُ مجموعتي "وقلت أحبك" التي اعتبرتها بالنسبة لي تحوُّلاً جديداً، ومحطة مهمة للحصول على هُوية شعرية خاصة. وتضمنَ الديوان قصائد مدوّرة، وكانت تلك المرة الأولى في أستراليا التي يُنشر فيها هذا النوع، وهو شعر موزون يجري على السطر، وأهمية هذا النوع هو انه يشبه النثر في كتابته ويمكن تحميلُه الصور الكثيفة والحدَثَ القَصصي (قصيدة جدي القديم)
لمَّا بكيتُ عليهِ، كان البردُ في شفتيهِ، كان يحبُّ أن يُلقى عليه الثلجُ، مثل حمامة بيضاءَ. كانت حولَهُ امرأةٌ تحرِّضه ليخرجَ من فضيحةِ موته. ركضتْ إليهِ من المدينةِ، شعْرُها نهرٌ طويلٌ، ثغرُها كرزٌ، وفوق ثيابِها عِقدٌ من الأمطارِ. لم ينظر إليها... كان مهجوراً، ومحتاجاً إلى كأسٍ من العرقِ المثلّثِ، كي يُشاغبَ في الصباحِ، ويشتهي امرأةً، يقبِّلَها، يغازلَها، ويسخرَ من حقيقتِه... ويضحكَ مثل طفلٍ، وهو يغرق في جنون غنائه
حاجِه سعاد تقول: قَصْـــــدي جـاهِله مــــا في مصاري بجيبتـي، وْلا جـــاهِ لي
وتا يعيِّروني الناس: نـَـــــــوْري، جاهِلي خَزْقِتْ قميص النَّــــوم، تـَهْمِتْنـي أنا
وفي الديوان نفسِه، كنت أول شاعر يكتب قصيدة مستوحاة من الهجوم الإرهابي على مركز التجارة الدولي في نيويورك "قصيدة ما حملتُ مِظلّتي" وهي قصيدة أدعو فيها إلى السلام ونبذ العنف واحترام الحضارات
بعد هذا الديوان كتبت في سيدني مجموعتين قصصيتين هما "أهل الظلام" و"من أجل الوردة" وقد نشرتْ الطبعة الثانية منمها دار أبعاد – بيروت، ونفدت الطبعة الثانية
وبين الشعر والقصة، كنت أقدم حفلات وأكتب عن القرى، والمناطق، والعريس والعروس، والطفل المولود، والميت وغير الميت... وعلى رغم أن تلك القصائد لا أنشرها ولا أحتفظ بها، لكنها ساهمت في تجرِبتي الشعرية مساهمة لا أستطيع إنكارَها، وأوجدت لي قاعدة شعبية عريضة في الجالية، امتدت إلى ملبورن وأدلايد حيث دُعيت عدة مرات لإلقاء قصائد وتقديم مناسبات
وكانت أعمالي الشرية والقصصية تنشر في الصحف والمجلات وعبر الإذاعات، وكُتب عني الكثير وكتبتُ عن الكثير، قبل أتركّ ساحةَ النقد في أستراليا لنقاد آخرين أكثر معرفةً واختصاصاً
على صعيد الرواية، كتب اثنتين: "الذئب والبحيرة"، و"طائر الهامة"، ولم تنشر الأولى على نطاق واسع، لكن الثانية التي أصدرتها دار أبعاد الجديد-بيروت كانت خطوة مهمة في حياتي الأدبية وقيل فيها الكثير، وقد صدر كتاب في عام 2015 بعنوان كتبوا في طائر الهامة. ثم كانت عودتي إلى لبنان عام 2004، فاشتغلت مدرّساً في معهد الليسه عمشيت، وكانت لي فيه إطلالات شعرية، استمرت حتى بعد تركي المعهد وتفرغي في جامعة سيّدة اللويزة. في الجامعة نشرت كتابين كاديميين يدرّسان حتى الآن في الصفوف الجامعية، وكتبتُ مقالات أكاديمية شاركت في مؤتمرات ومناقشات علمية، وأول كتاب أنجزته في الجامعة هو حياة البطريرك اسطفان الدويهي بالانكليزية الذي نُشر في أستراليا، ثم طُلب مني أن أُمسرح قصيدتي "وقلت أحبك" من ديوان و"قلت أحبك" لتمثَّل في عيد تأسيس الجامعة، وحصل الطلاب الممثّلون على جائزة سعيد عقل، ويومَ جاء العملاق سعيد عقل إلى الجامعة ولقائي به من أجمل أيام حياتي . وكانت لي أمسيات كثيرة في الجامعة شهدت حضوراً واسعاً كأمسياتي في سيدني، لكنّ حدثين آخرين مهمّين يجب أن أتوقّفَ عندهما: قصيدتي في مئوية سعيد عقل التي يقول مطلُها: سعيدُ مهلاً إلى أين السير بنا وأنت بعد فتيٌّ مثلما الزهَرُ؟ وقد اعتُبرت من أهم القصائد التي قيلت عن سعيد عقل، ووصفها شاعر لبناني كبير بأنها قصيدة النور. ولك أكتف بتلك القصيدة المؤلفة من 74 بيتاً بل أردفتها بقصيدة أخرى يوم وفاة سعيد عقل، واختيرت من أدب المهاجر لتُنشَر في كتاب أجراس الرحيل
واليا سمين في بيروت. وللتوضيح فقط سأنشر تعليقين لأستاذين كبيرين في بيروت على القصيدتين عن سعيد عقل، هما الدكتور يوسف عاد والدكتور عصام الحوراني. يقول الدكتور يوسف عاد في جريدة الأنوار- الثلاثاء 20 تشرين الثاني 2012 عن قصيدتي في مئوية سعيد عقل:
إنّه الإبداع والابتداع في عالم الشعر، بعد أن نفذ الشعر من مستشعريه... جميل الدويهي وسعيد عقل توأم القصيدة العربيّة
ويقول د. عصام الحوراني عن قصيدتي يوم وفاة سعيد عقل: "رائعة جدًّا، فلأنتَ خليفةُ الشّاعر الرّاحِل بامتياز، وكم يطيب لسعيد عقل سماعُ قصيدتك في عليائه! أدام الله قلمك سيّالاً ومحلِّقًا أبدًا في آفاقٍ نورانيّة أخّاذة مشعشعة
هذا قليل من كثير المديح الذي يقال لي كل يوم، من سيّد الكلام، إلى أمير الشعراء، إلى شاعر المهجر الأول، إلى جبران الجديد، وكل هذا الكلام موجود على صفحتي على الفايسبوك في تعليقات على قصائدي وأعمالي النثريّة. وأنا أحترم أصحابه، وأعرف أنّ ما يقولونه نابعٌ من محبتهم وتقديرهم لأعمالي وتعبي في سبيل الفكر والثقافة، لكنني لست ممن يحمّلون الكلمة والألقاب أكثر مما تحتمل، الأهم عندي أن أعمالي هي التي تكرّمني، وإذا كانت أعمالي لا تكرمني فلا أستحقّ أي تكريم. لكنني صادق وأمين في رسالتي، لا أدّعي شيئاً ليس لي، ويؤسفني أن أرى أناساً يقولون لك إنهم لا يعرفون اللغة العربية، وفي اليوم التالي تقرأ لهم مقالة تظن أن الجاحظ كتبها، أنا أقول: أعرف عندما أعرف وأقول لا أعرف عندما لا أعرف، وهذا جزء مهم من شخصيّتي، شهادتي صحيحة، كتبي صحيحة، ألقابي صحيحة، وما هو غير صحيح لا أريده ولا ألتفت إليه. وأسأل نفسي: أيُّهما أهمّ : ثيابي البراقة التي أرتديها أم في معبد الروح؟ لقد ماات جبارن والريحاني وميخائيل نعيمة وقلّما ذُكر عنهم أنّهم تكرّموا في غير أدبهم... سأعطيكم مثلاً بسيطاً: أنا قلما أسمّى بالإعلامي مع أن الكثيرين يحملون هذه الصفة، وقد عملت في إذاعات وتلفزيون وصحف معروفة، وأنا مدير تحرير لجريدة المستقبل الغراء وعملت محرراً في جريدة الديار اللبنانية لفترة، وكتبت تسعين حلقة تمثيلية إذعية لإذاعة قطر أخرجها الأستاذ توفيق نمور وعُرضت جميعها لثلاث سنوات متتالية في شهر رمضان المبارك... هذا كلّه لا يعنيني كثيراً إلا من حيث التأريخ. ولا يغيظني أن غيري إعلامي، ولو رأيت غيري يُعطى عرشًا وتاجاً وصولجاناً ، لمضيت في طريقي لأكتبَ كتاباً آخر هو عندي صلاةٌ عبادة وعِشقٌ لا ينتهي
الحدث الثاني في جامعة سيدة اللويزة الذي تعنيني الإشارة إليه، هو التـاسيس لكتابي الفكري "في معبد الروح" الذي حملتُه معي إلى سيدني عام 2013، وكان من أهمّ الكتب التي كتبتها في حياتي، بل أعتبره قمة أعمالي على الإطلاق، وقد انتقلت به من الأدب إلى الفكر، وترجمته إلى الانكليزية، ثم كتبت بعدَه تأملات من صفاء الروح وهو كتاب يُكمل الكتاب الأول، ومن ضمن مشروعي "أفكار اغترابية للأدب المهجري الراقي”. هذا المشروع تمخض في عاميْي 2015 2916 عن ثمانية كتب هي: لا تفكري صار الهوى ذكرى، طائر الهامة الذي قلت إنني طبعتُه في بيروت وشحنتُه مع أغراضي إلى سيدني، أشهر المعارك الإهدنية في التاريخ باللغة الإنكليزية، في معبد الروح، تاملات من صفاء الروح، أعمدة الشعر السبعة، حاولتُ أن أتبع النهر، النهر لا يذهب إلى مكان، وفي معبد الروح بالانكليزية، إضافة إلى كتابين هما كتبوا في طائر الهامة، وكتبوا في معبد الروح. جميع هذه الكتب توزّع مجاناً في أمسياتي الحاشدة، تأكيداً على اهتمامي بنشر الأدب الرفيع، وتأكيداً أيضاً على ما أسمّيه الكرَم الدويهي، تحبّباً لا افتخاراً . وهذا العام سيصدر في 30 آذار ديوان باللغة العامية يحمل عنوان "مِن قلب جرجي بقول حبّيتك"، وثلاثة كتب أخرى سيُعلن عنها في حينها من بينها تأملات من صفاء الروح باللغة الإنكليزية، ليكون عدد كتبي باللغة الإنكليزية حتى الآن أربعة، مع أنني تعلمت الانكليزية على يدي، ولم أدخل إلى مدرسة سوى لفترة بسيطة لا تتعدى أسبوعين
الأسامي
سْألنا الأسامي: مِـــين نحْــنا؟ كَذّبو
ومن كتْر مــا عِدْنا السؤال تْهرّبو
قلنا: اتْركونا... واسْعَه كْتير الطريق
ويمكن حَــدا من غير عَيلِه تِقْرِبو
معقول إنتو بتِشْبَهونا عن حقيق؟
معقول نحنا منتْعب، وما بتتْعبو؟ا
كلما عْشيقه تْروح تا تْلاقي عشيق
بتْراقْبُو اللي صَـــــــار، وبتتْعَجّبو
وبتْرافْقو البحّار بالبحْـــــــر الغَميق
وما بتفْزعو لا يْضِيع هُوّي، ومَرْكبَو؟
شِفْنا أسامي عْتاق بالسُّوق العَتيق
عا دَين خِيّاطين عـَـــــــم يِتْقطّبو
في ناس حَبّو ياخدو الإسم الرَّقيق
وفي ناس تا يْلاقو أسامي، تْعذّبو
وهَودي الطيور الفَوق بالجَوّ الطليق
مـــــــا في لهُن أسْماء، وتْذاكر سَفَر
مـــــن هَيك بيغَنّو شِعْر، وبْيلْعَبو
المهمُّ في أدبي هو التنوّع الفريد، ففي ديواني "أعمدة الشعر السبعة" نشرت سبعة أنواع شعر هي: العمودي، التفعيلة، المدوّر، والنثري، والزجل، والتفعيلة العامية والمدور العامي، وهذه المرة الأولى في التاريخ العربي على الإطلاق التي يَنشر فيها شاعر واحد في مجموعة واحدة هذه الأنواع السبعة. كما أنني لا أحصُر نفسي في الشعر، بل أكتب القصة، والفكر، والتاريخ، والمقالة الأكاديمية، وباللغتين العربية والانكليزية، وبالأمس نُشرتْ لي مقالة عن فكرة الشيطان عند غوته الألماني وأمين الريحاني من 3حوالي 47 صفحة من القطع الكبير، في كتاب "منارات ثقافية" الصادر في طرابلس لبنان. ولم يتحدث أحد قبلي عن هذا الموضوع إطلاقاً بشهادة أسرة الريحاني... وهذا شرف لي يضاهي أكبر الأوسمة وأعلاها شأناً. كما أكتب الافتتاحية السياسية، وقد كتبتُ حتى الآن أكثر من 600 افتتاحية من بينها حوالي 300 افتتاحية في جريدة المستقبل وحدها
وما أعتز به في أعمالي هو أنها على رغم كثافتِها، متنوّعة ونوعيّة، وليست للتجارة ولا للإهمال، وسأتابع مشروعي أفكار اغترابية رغم جميع العوائق والصعوبات، وأنا أعرف أن الإبحار ما دونَه خطورةُ الغرَق، وأعرف أنّ في الحياة مَن لا يرويدنك أن تعمل، وإذا أشرقتَ كما تُشرق الشمس، نذروا نفسهم لكي يجعلوا الظلامَ في كفّة مساوية للضياء... والله هواالموفّق دائماً، ومَن كان الله معه فمَن عليه
كبريت
كان يجب أن أنتهي من كتابي منذ زمن. فقد ضجرتُ من الكتابة. الركض على السطور مرهق. الحبر مبيد للحشرات. الكلمات مفخَّخة
أنتم لا تعرفون عنِّي شيئاً. ليست لديّ نظَّارتان مستديرتان، وشعري لا يلامس الغابة... لا أتبع الخطوط، والقرى المسكونة بالأشباح تضجرني. الفلاَّحون متَّهمون بقتل سقراط. رفعوا تمثالاً لشاعر البيدر. حنَّطوه لكي يكون أقوى من غدر الزمان... أعطوني شيئاً لأنتهي من عذابي. لأرتاح من فداحة المشهد. مَن منكم إذا طلب أخوه سمكة أعطاه حجراً؟ مَن منكم أسأله عن نار فيعطيني رماداً؟ يبدو أنَّكم لم تقرأوا الأسرار. لم تسمعوا بمعجزة. الحقيقة أنَّني تعبت. أريد أن أنتهي من كتابي قبل أن يغضب منِّي جميع القدِّيسين والأنبياء. فرجاء هاتوا علبة كبريت لأنتهي من كتابي
_______
وأثناء المحاضرة تطرق الدويهي أيضاً إلى موضوع مهم وهو أن أحداً لم يترجم له حتى الآن على الرغم من تنوع أعماله، وربما هذا يعود إلى نقص منه، أو ربما هناك شيء غير مفهوم - حسب تعبيره، كما تطرق إلى مسألة النقد معتبراً أنه ناقد متخصص وأعماله النقدية تناولت جبران والريحاني وسعيد عقل وفؤاد سليمان وغوته، وهي منشورة في كبريات الكتب والمجلات، معلناً أنه اعتزل النقد في أستراليا لأسباب لا تخفى على أحد. وألقيت أسئلة ومداخلات أغنت الجلسة التي خرج منه الجميع متأثرين بما سمعوا، وتمنى العديد من الحاضرين على الدويهي أن يقدم لهم محاضرة أخرى في موضوع آخر
هذا وقد وزع الدويهي نسخاً مجانية من ديوانيه: "أعمدة الشعر السبعة"، و"حاولت أن أتبع النهر... النهر لا يذهب إلى مكان" على الحاضرين
انتقال السيّدة العذراء - أين يقع قبرها؟
من الأمور المحيّرة التي تحيط بحياة القديسة مريم، والدة السيّد المسيح، تعدّد الروايات حول السنوات الأخيرة من وجودها على الأرض. وليس مفهوماً أن تكون العذراء مريم، وهي أمّ الإله في نظر المسيحيّين، موضوعاً لروايات كثيرة… فالمؤرّخون، وكذلك الرويات الشعبية، لم يقدّموا نصّاً واحداً فقط يؤكّد المكان الذي عاشت فيه، بعد صلب المسيح وقيامته
ويعتمد الذين يقولون إنّ مريم العذراء عاشت في أفسس (تركيا) على قول المسيح على الصليب للقدّيس يوحنّا الحبيب: “هذه أمّك”. كما قال لمريم: “هذا ابنك”، فإذا كان يوحنّا الحبيب قد ذهب إلى أفسس، فبالنسبة لهؤلاء، ستكون مريم العذراء هناك معه
والقصّة عن حياة العذراء في أفسس، ترتبط بتقليد شعبي، وأيضاً بما ذكره إريناوس وإيسوبيوس القيصري، عن أن القديس يوحنا ذهب إلى أفسس حيث عاش ومات هناك. وجاء في رسالة مؤرخة عام 431، إلى مجلس أفسس: “مدينة أفسس، حيث عاش يوحنا الإنجيلي والعذراء مريم ودُفنا”. كما ذكر بار هبرايوس، وهو قس يعقوبي عاش في القرن الثالث عشر، أن القديس يوحنا أخذ مريم العذراء إلى باتموس، ثم اسّسا كنيسة أفسس القريبة، كما ذكر البابا بنديكتوس السادس عشر أن مريم لحقت بيوحنا إلى أفسس. وكان البابا يريد أن يلغي النص الذي يقول إن مريم العذراء دفنت في أورشليم، لكنه مات قبل أن يفعل ذلك. وذكر أبيفاميوس السلامي في القرن الرابع الميلادي أن العذراء قد تكون أمضت سنواتها الاخيرة في أفسس
ويعتقد السكان في أفسس أن كنيسة السيدة العذراء التي تأسست هناك هي أول كنيسة على اسم العذراء
ولا يزال هناك منزل قديم في أفسس يعتقد أنه المنزل الذي عاشت فيه السيدة العذراء، ويدعى “مريمانا”، ولاكتشاف هذا البيت قصة غريبة، فقد رأت إحدى الراهبات الألمانيات، وتدعى كاترين إيمريش (1774-1824)، في المنام منزل السيدة العذراء في أفسس، وإيمريش لم تزر أفسس في حياتها، ويقال إن هذه الراهبة تقية جداً، وقد ظهرت على جسدها جروح المسيح منذ عام 1813
وقد استرعى هذا الحدث انتباه شاعر يدعى كليمنس برينتانو، فأجرى مقابلات مطوّلة مع الراهبة حتى ماتت عام 1824. ونشر هذا الشاعر ما سمعه من الراهبة في كتاب من جزءين صدرا عام 1833 و1852 على التوالي
وقد اتُّهم برينتانو بأنّ كتابيه يحتويان على أكاذيب. وهذا أدّى إلى إلغاء طلب قداسة الراهبة إيمريش، التي عاد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وأعلنها طوباوية عام 2004
وبناء على رؤى الراهبة، قام كاهن فرنسيّ يدعى أبي جوليان غوييت، في تشرين الأول 1881، بالبحث عن المنزل، فوجده على سفح تلة “كوريسوس” المطلّة على بحر إيجه. واعتبر الكاهن أنّ المنزل يطابق الرؤية التي تحدّثت عنها الراهبة إيمريش
ومنذ عام 1891، تحوّل المنزل الحجريّ إلى مزار لآلاف الزائرين من أنحاء العالم. وقام بزيارته أيضاً ثلاثة بابوات هم: البابا بولس السادس عام 1961، والبابا يوحنا بولس الثاني عام 1979، والبابا بنديكتوس السادس عشر عام 2006
تركمانستان
في التقليد الشعبي الديني في شرق تركمانستان، أن العذراء مريم عاشت هناك بعد صلب السيد المسيح وقيامته. ويعتقد أنّ مريم العذراء ماتت ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث صعدت جسداً وروحاً إلى السماء. في تشبيه مباشر بموت المسيح وقيامته، ولا يختلف إيمان المسيحيّين التركمان، وهم أقلية ضئيلة بين السكّان المسلمين، بالنسبة إلى”رقاد” وليس “موت” مريم العذراء عن اعتقاد أغلب المسيحيّين، حيث أن عيد انتقال العذراء هو في الخامس عشر من شهر آب. والانتقال يختلف عن الموت بكلّ تأكيد
وفي تركمانستان مدينة تدعى Merv، أو ماري، ويعتقد أنّ مريم العذراء عاشت وانتقلت إلى السماء من هناك. ولكن ليس معروفاً كيف وصلت العذراء إلى ماري، وهي بلاد بعيدة عن أورشليم، ما يلقي ظلالاً من الشكّ على الرواية الشعبيّة التركمانية، التي يقال إنّ النساطرة يؤيدونها
رواية إسلاميّة
في إحدى الروايات الإسلامية عن السنوات الأخيرة لحياة مريم العذراء، أنّها عاشت مع ولدها النبي عيسى عليهما السلام في الجبل بعيدَين عن أعين الناس، يَتَعبدان ويَقومانِ في الليل ويَصومان في النهار، يعتمِدان في غذائهما على نباتات الأرض ومياه المطر، وفي أحد الأيام نَزَل عيسى من الجبل لجمعِ بعض النباتات ليأكلَ مع والدته، في هذه الأثناء نَزَل مَلاك على السيدة مريم وهي تُصلّي في مِحرابها، فخافت ووقعت مغشيّاً عليها، وبعد أنْ أفاقت قالت للمَلاك: من أنت يرحمك الله؟ قال لها: أنا مَلَك الموت. فقالت له: جِئت زائراً أم قابضاً؟ قال: بل قابضاً. فقالت: يا ملَك الموت لا تَتَعجّل حتى يعود قُرَّةُ عيني، وريحانة قلبي، وفلذة كبدي عيسى. فقال لها: ما أَمرني الله تعالى بذلك، وأنا عبد مأمور من الله. فقالت: يا ملَك الموت قد سلَّمتُ أمري لله تعالى ورضيتُ بقضائه
فَنَزل سيدنا عيسى إلى إحدى قرى بني إسرائيل ينادي: يا بني إسرائيل أنا روح الله عيسى ابن مريم، إنّ أمي قد ماتت فأعينوني على غسلها ودفنها، فردّ عليه أهل القرية بأن هذا الجبل مليء بالأفاعي ولم يسلكه أحد منذ سنين، فعاد سيّدنا عيسى وفي طريق عودته لَقي رجلين فقال لهما: إنَّ أمي ماتت غريبة بهذا الجبل، فأعينوني على دفنها، فرد الرجلان بأنَّ جبريل قد أرسلهما لذلك، فحفرا القبر، ونزلت الحُور العِين فغسَّلْنَها، ودفنها عليها رضوان الله ورحمته
نرى في هذه الرواية أنّ مريم العذراء قد ماتت قبل ولدها، وهذا ينفي حقيقة مسيحية يقوم عليها الإيمان المسيحي، وهي الصلب والقيامة، والإنجيل ومؤرخون كثيرون جداً يذكرون أن المسيح صلب في الثالثة والثلاثين من عمره، ومريم ماتت في الثالثة والخمسين على الأرجح أي بعده وليس قبله. كما أن الرواية الآنفة تسمّي المسيح بالنبي، أسوة بغيره من الأنبياء، وهو عند المسيحيين الإله المتجسد، وهو الوحيد الذي أقام الموتي وتكلم في المهد صبياً. ولو كان نبياً حقاً لكان وُلد من امرأة عادية كما ولد جميع الأنبياء، ولم يولد من امرأة عذراء في حكمة إلهية عجيبة تدل على تفرده واختلافه عن الأنبياء
ولم تحدد الرواية الإسلامية مكان الجبل الذي دفنت فيه مريم، ولكنها تتوافق مع ما ذكره المحدث النوري في كتاب “مستدرك الوسائل” “أن عيسى ناداها بعدما دفنت فقال: يا أماه ، هل تريدين أن ترجعي إلى الدنيا؟ قالت: نعم، لأصلي لله في ليلة شديدة البرد، وأصوم يوما شديد الحر ، يا بنّي ، فإن الطريق مخوف” (ج 7، ص 505)، أي إن المسيح كان حياً عندما انتقلت مريم، بحسب الرواية
وذكر المؤرخ ابن الجوزي في كتابه “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” ج 2، ص41 عن وفاة مريم عليها السلام، فإنّها بقيت بعد رفعه (المسيح) ست سنين ، وكان جميع عمرها نيفاً وخمسين سنة
وذكر النويري صاحب كتاب نهاية الإرب في فنون الأدب (ج 14، ص 248): قال الكسائىّ قال كعب: ماتت مريم ابنة عمران أمّ عيسى عليهما السلام قبل رفعه، فدفنها في مشاريق بيت المقدس
وتؤكد رواية النويري أن قبر العذراء هو في مشاريق القدس. وهذا يتوافق مع حقيقة وجود قبر يُعتقد أن العذراء قد دفنت فيه على سفوح جبل الزيتون في القدس. لكن الرواية لا تتوافق مع الحقائق المسيحية بأن يسوع صلب وصعد إلى السماء وكانت مريم أمه لا تزال حية
في الهند وكشمير
إذا كان صحيحاً أن السيد المسيح قد زار الهند والتيبيت في فترة من حياته لا نعلم عنها الشيء الكثير (بين سن 12 و29 عاماً)، فقد تكون مريم العذراء ذهبت معه إلى هناك، وهي المعروف عنها بأنها كانت ترافقه في حله وترحاله
وهناك عدد كبير من الكتاب والمؤرخين الذين حاولوا إثبات أن المسيح كان في الهند لفترة طويلة، ومنهم لويس جاكوليوت الذي ألف كتاباً عام 1869، بعنوان الإنجيل في الهند، ونيكولاس نيتوفيتش الذي وضع وثيقةعام 1887 بعنوان “حياة القديس عيسى- أفضل ابناء الإنسان”، وليفي دولينغ الذي كتب في عام 1908 أن المسيح ذهب إلى الهند والتيبت وفارس، وأشور، واليونان ومصر… ونيكولاس رودريتش الذي زعم في عام 1925 أن المسيح ذهب إلى الهند برفقة تجّار… إلى ما هنالك من روايات تخالف الإيمان المسيحي ولم يأت على ذكرها. ومن الساذج أنّ بعض الروايات تحدثت عن زيارة المسيح إلى إنكلترا، وهذا أقرب إلى أساطير تم تداولها في القرن الثاني عشر، وظهرت في أعمال أدباء وشعراء، منهم روبرت دو بورون، ثم ويليام بلايك في قصيدته: وهكذا فعلت تلك القدمان في الزمان القديم
ومثل ذلك القول الغريب أن المسيح قد سافر إلى أميركا أيضاً في عام 600 (كتاب المورمون، الفصل 11-18)
هذا “السفر” إلى أميركا حدث كما هو واضح بعد 600 سنة من صلب المسيح، أي بعد القيامة. وتلك الرواية لا تختلف عنها قصص أخرى عن سفره بعد القيامة أيضاً إلى الهند وكشمير وروما والتيبت وبورما
يعتقد ميرزا غلام أحمد، مؤسس مذهب الأحمدية أن المسيح مات في كشمير بعمر 120 سنة… كما يرى مفكر يدعى ماهر بابا (1894-1969) أن المسيح عندما صلب، لم يمت جسدياً، لكنه دخل في حالة تدعى “أنا الله بدون وعي جسدي”، وفي اليوم الثالث عادت إليه حياة الجسد، وتجوّل متخفياً في العديد من الأماكن مع تلاميذ له، وتحديداً مع برتلماوس وتدايوس، ووصلوا إلى الهند. وسمي هناك مسيح القيامة، كما سافر إلى رانغون في بورما، ثم عاد إلى كشمير ودفن في بلدة هارفان، بإقليم كان يار
من أين جاء ماهر بابا بهذه الرواية؟
أجابت التقاليد الشعبية عن السؤال كما يلي: بعد نجاة المسيح من الصلب، سافر إلى الهند بصحبة مريم العذراء، حيث بقيا هناك حتى نهاية حياتهما، وتعتقد الطائفة الأحمدية أن مريم العذراء دفنت في بلدة تدعى موري Murree في باكستان، وإن قبرها موجود في مزار Mai Mari da Ashtan
ونحن لا نؤيد هذه الروايات الشعبية، إنما نعرضها من باب العلم ونقل المعرفة
في العراق
وهناك رواية اخرى عن مرقد مريم العذراء من العراق، فقد جاء في تقرير المؤسسة العامة للآثار والتراث العراقي: يقع مرقد مريم العذراء في جانب الكرخ ببغداد وقد باشرت هيئة تمثل المؤسسة العامة للآثار و التراث في 2/5 / 1984 في التنقيب و التأكد من حقيقته… وإنه عند الحفر وجدت الهيئة رخامة و عند قلبها ظهر عليها صورة أسد منحوت بنحت بارز في رقبته سلسلة وفي ظهره طائر بهيئة نسر او صقر وإن مقدمة لوح الرخام كانت بهيئة نصف عقد مدبب. و تبين ان القبر مشيد بشكل صندوق من الآجر، وتم النزول بالحفر الى عمق مترين ونصف المتر عن مستوى صبة الأسمنت، فظهرت طبقة من التراب النظيف ثم ظهرت الجمجمة وتحتها آجرة وباقي عظام الصدر والمنكبين، وبعدئذ تم تصوير الهيكل العظمي. وقد عمل صندوق من الخشب للمحافظة على بقايا الرفاة [هكذا]، و عند الحفر لإنزال الصندوق عثر على قطعة من الرخام الأسود مطعمة بالرخام الأبيض عليها زخارف هندسية، و هي قطعة فنية يعود تاريخها الى القرن الثالث الميلادي
ولم تؤكد وثيقة المؤسة العامة للآثار والتراث في العراق وجود مريم العذراء في القبر. كما لم نسمع شيئاً عن أن التحاليل أوصلت إلى أي نتيجة بهذا الخصوص
وحسب المرويات الشعبية في الموصل بشمال العراق، فإن مئذنة الجامع النوري الكبير المائلة، تنحني باتجاه قبر مريم العذراء الذي يعتقد البعض أنه يقع قرب أربيل، وهي مدينة كبيرة في إقليم كردستان
في دمشق
في بعض المرويات أيضًا أن السيدة العذراء توفت بعد رفع المسيح بخمس سنوات، وكان عمرها حينئذ ثلاثًا وخمسين سنة، ويقال: إن قبرها في أرض مدينة دمشق. ولم نعثر من جانبنا على نصوص موثقة لهذا الزعم، ما عدا نصاً واحداً يفيد بأن العذراء توفت في دمشق، وهو على “ويكيبيديا.” لكن ابن عساكر يذكر في كتابه “تاريخ دمشق” أن والدة مريم العذراء، القديسة حنة أقامت أو دفنت في دمشق. وربما خلط البعض بين والدة مريم ومريم نفسها
جبل الزيتون
يقع جبل الزيتون على مشارف مدينة القدس، ويعتقد على نطاق واسع أن منزل السيدة العذراء كان هناك، وكذلك قبرها، فمن الممكن أن تكون مريم قد رافقت القديس يوحنا إلى أفسس، ثم عادت إلى القدس
والقبر في القدس يزوره الآلاف كل عام، وهو مؤلف من 3 غرف صغيرة. ويعتقد أن مريم باتت في القبر 3 أيام، وفي اليوم الثالث صعدت إلى السماء، ولذلك لا وجود لرفاتها في القبر
وفي التراث المسيحي أن الرسل المفجوعين لانتقال مريم، قد أخذوا جسدها ووضعوه في قبر قرب القبر الذي كان جسد يسوع ابنها قد وضع فيه، وقاموا بلف الجسد بكفن أبيض ووضعوه في القبر. ولكن جسد مريم لم يبق هناك فقد جاء إليها ابنها يسوع وأخذ جسدها ونفسها إلى السماء
ويذكر الإنجيل أيضا أن مريم بقيت في أورشليم (سفر أعمال الرسل (1: 12 ــ 14): حينئذ رجعوا إلى أورشليم من الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، بالقرب من أورشليم : بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلبس وتوما وبرثولماوس ومتّى ويعقوب بن حلفى وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب ومريم أم يسوع ومع إخوته
ولكن هذا النص لا يمنع أن تكون مريم قد عاشت عدة سنوات (ربما 10 سنوات) في أورشليم، قبل أن تذهب مع يوحنا إلى مكان آخر، ثم تعود (أو لا تعود) إلى القدس
وتصر الكنيسة الكاثوليكية على ان مريم العذراء عادت إلى أورشليم في سنيها الأخيرة. ومن غير المعروف كيف توفت مريم، ولكن في التراتيل الكنسية (الميامر) هناك قول بأنها مرضت وتوفت
وتعتقد الكنيسة أن مريم العذراء انتقلت إلى جبل الزيتون مع من ظلوا أحياء من التلاميذ الإثني عشر وأنها من هناك انتقلت مع التلاميذ إلى السماء، وذلك بعد 13 إلى 15 عامًا من رحيل يسوع وبالتالي يكون ذلك قد تمّ بحوالي عام 43، وبناء على ذلك فإن عمرها كان بحدود الستين سنة
ويعتقد مؤرخون آخرون ان مريم انتقلت في عام 48. والله أعلم
مريم العذراء في التقليد والتراث الشعبي اللبناني
مقدِّمة: العلاقة بين لبنان ومريم في التقاليد والرواية الدينيّة
تعود علاقة الإنسان اللبنانيِّ عامَّة، والمسيحيِّ خاصَّة ، بمريم العذراء، إلى عهود المسيحيَّة الأولى، وامتزجت شخصيَّة مريم بحياة اللبنانيِّ في بيته، وعمله، وحقله، وفي حلِّه وترحاله، فهي الأمُّ القدِّيسة، والشفيعة الحارسة، والمعينة على الشدائد، والحامية من الأخطار
وتروي التقاليد اللبنانيَّة أنَّ مريم العذراء كانت تزور جنوب لبنان، فقد كانت مع ابنها يسوع في قانا الجليل، عندما حدثت معجزته الأولى بتحويل الماء إلى خمر، وهي التي طلبت منه أن يجترح تلك الأعجوبة، وكانت ساعته لم تأتِ بعد: "وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْس. وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: "لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: "مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ". قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: "مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ."(1)
وليست تلك المرَّة الوحيدة التي وطئت فيها قدما العذراء أرض لبنان، فقد كانت تتردَّد إلى تلك المنطقة، وترافق السيِّد المسيح في بشارته. وقد ورد في إنجيل لوقا أنَّ يسوع كان يأتي إلى جنوب لبنان، ويشفي أناساً كثيرين من ساحل صور وصيدا: "ثم نزل بهم فوقف في مكان منبسط، وهناك جماعة كبيرة من تلاميذه، وحشد كبير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، فقد جاءوا ليسمعوه ويبرأوا من أمراضهم."(2). ويذكر الباحث رونكاليا أنَّ يسوع زار قانا الجليل مرَّتين على الأقلِّ، ومن هناك لجأ مرّات إلى منطقة صور وصيدون في فينيقيا(3)
ويؤكد رونكاليا على أنَّ المسيح زار أماكن أخرى في لبنان، كجبل حرمون، والصرفند أو ساريبتا(4)
وما يعنينا من هذا الكلام، هو أنَّ مريم العذراء التي اشتهر عنها بأنَّها كانت ترافق ابنها في تنقُّلاته بين المدن والقرى، قد تكون جاءت معه عدَّة مرّات إلى لبنان. ويَعتقد أهالي الجنوب، وبلدة مغدوشة خصوصاً، أنَّ مغارة المنطرة القريبة من بلدتهم، هي المكان الذي كانت تنتظر فيه العذراء مع يوحنَّا الحبيب ابنها يسوع فيما كان يبشِّر في الجنوب اللبنانيِّ. يقول رياض حنين: "إنَّ مقام سيِّدة المنطرة يقع داخل مغارة على ربوة في بلدة مغدوشه (قضاء صيدا). واسم سيِّدة المنطرة جاء من تقليد يقول إنَّ السيِّدة العذراء مريم أوت إلى هذه المغارة تنتظر، أي "تنطُر" بالعامِّيَّة، عودة المسيح من زيارة مدينة صيدا."(5)
وقد اكتشف الأهالي مغارة المنطرة بالصدفة، فبينما كان أحد الرعاة يرعى قطيعه في المنطقة، سقط له جدي في فوهة سقف المغارة، ولمَّا حاول إنقاذه، شاهد بصيص نور، فاقترب ليرى ما في الكهف، فإذا هو أمام صورة لمريم العذراء مرصَّعة بالذهب، موضوعة على مذبح داخل المغارة، فأذاع الراعي الخبر بين الناس، وتحوَّل المكان إلى كنيسة متجدِّدة(6)
ويُرجَّح أنَّ المغارة كانت كنيسة في القرن السابع أو الثامن الميلاديّين، وقد يكون الناس في المنطقة تعبَّدوا لمريم العذراء في ذلك الزمان، وجعلوا كنيستهم في مكان لا يعرفه أحد سواهم
وتذهب بعض التقاليد اللبنانيَّة، وبعض الباحثين أيضاً إلى القول إنَّ مريم العذراء ولدت في لبنان، وانتقلت بعد ذلك إلى الناصرة، حيث نزلت عليها البشارة. ويؤكِّد الشيوخ في قانا والمنطقة المحيطة بها أنَّ مريم العذراء ولدت في منطقتهم، ونشأت في ربوعها، ثمَّ انتقلت فيما بعد إلى بلاد الجليل(7)
وقد اكتشفت في منطقة القلـَيـْلـَة القريبة، أضرحة تعود إلى آل عمران، أهل مريم العذراء، فـ"مقام عمران" (يواكيم) موجود في مكان قريب من قانا. وكانت هناك مزرعة تحيط بالمقام تدعى مزرعة عمران. وهذه المزرعة اندثرت في أوائل القرن الماضي، ولم يبق منها سوى معالم قليلة. جاء في الموسوعة اللبنانيّة: "تقع القليلة في قضاء صور...تُضمُّ إليها مزرعة عمران."(8)
ويؤكِّد الأب يوسف يمِّين أنَّه "لو كانت مريم من الناصرة أو من فلسطين، لكان بقي ولو أثر بسيط من أضرحة والديها، أو أهلها، أو أحد أقربائها، وأنسبائها. كلُّ هذه الأضرحة موجودة في جوار قانا الجليل اللبنانيَّة."(9)
ويتماشى ما يذهب إليه الأب يمِّين مع معتقدات شعبيَّة سائدة في المنطقة، بأنَّ العذراء من لبنان. كما يتماشى مع ما جاء في التوراة من أنَّ العروس (التي ستحبل من الروح القدس) هي من لبنان: "هلمِّي معي يا عروس من لبنان."(10)
وسواء كانت العذراء من لبنان أم من فلسطين، فلا شكَّ في أنَّها كانت تتردَّد إلى الجنوب اللبنانيِّ، وقد نشأت بينها وبين اللبنانيِّين علاقة وطيدة، هي علاقة الوالدة بالأبناء، فلا تكاد تخلو قرية أو بلدة أو مدينة لبنانيَّة، خصوصاً المسيحيَّة منها، من كنيسة على اسم السيِّدة العذراء، فهي حارسة للبنانيِّين وأرضهم ومزروعاتهم وقطعانهم، من كلِّ أذى. وهم أيضاً يلجأون إليها في الحروب، ويدعونها في صلواتهم الليتورجيَّة بـ"أرزة لبنان"، وبـ"سيِّدة لبنان"، وقد بلغ عدد الكنائس والمذابح المكرَّسة على اسم السيّدة العذراء في لبنان 1500 كنيسة و3500 مذبح(11)
وعبرت "سيِّدة لبنان" البحار، لترتفع على اسمها الكنائس الفخمة في المغتربات، كما في أستراليا والأميركيَّتين. يقول الأب أميل إدِّه: "اسم "سيِّدة لبنان" اجتاز بلدان الشرق إلى ما وراء البحار، فحيث يحلُّ اللبنانيُّ، يذكر دائماً لبنان و"سيِّدة لبنان". يذكرها في بيته وعمله، كما يناجيها في فرحه وحزنه. يناديها في عسره ويسره، كما يدعوها في حلِّه وترحاله، فأضحت العبادة المريميّة عنصراً من حياتنا اليوميّة وفصلاً من تاريخ شعبنا."(12)
وفي ظلال هذه العلاقة الحميمة بين الشعب اللبنانيِّ ومريمه الحنون، يمكننا أن نسأل أنفسنا: كيف استطاعت مريم- بما لها من قوَّة ونفوذ في وجدان اللبنانيّ- أن تتغلغل في تراثه اليوميِّ، وعاداته المكرَّرة، لتصبح جزءاً لا يتجزّاً من شخصيَّته الاجتماعيّة؟ وكيف يتعامل اللبنانيُّ مع مريم العذراء خارج الإطار الليتورجيِّ، أي في حياته العامَّة، وبيته، وبيئته الأوسع؟ وما هي المعتقدات التي يعتقدها اللبنانيّون أو يروونها في إطار حبِّهم لمريم العذراء؟
العذراء في الحياة اليوميّة للبنانيّين
يكرِّم اللبنانيُّون عموماً مريم العذراء، ويضع اللبنانيُّ صورتها في بيته، وعمله، وسيَّارته، وحافلة الركَّاب التي يستقلُّها، وفي البيوت القديمة، المبنيَّة من حجر، تُعلَّق صورة العذراء فوق العتبة العليا، وهي حجر مستطيل فوق باب المنزل. وفي اعتقاد القرويِّين أنَّ العتبة هي الحدود التي تفصل بين البيت وصنوف الأذى التي تأتيه من الخارج، سواء تلك التي تسبِّبها الكوارث الطبيعيّة، كالأعاصير، أو تلك التي تأتي من الإنسان، كالحسد وصيبة العين، أو تلك التي يأتي بها الشيطان نفسه، كاللعنة او الدنس. ولذلك فإنَّ تعليق صورة العذراء مريم فوق العتبة يعني الحماية من الشرور، وفي ذلك حماية أيضاً من العتبة السفلى، التي تعتبر ملجأ للأرواح الشرّيرة، أو الجنِّ، فالجان لهم ميل خاصٌّ إلى الإقامة " في البيوت المهجورة، وحول المواقد، وتحت عتبات البيوت."(13)
وتعتبر صورة مريم في البيوت والمعابد رمزاً للأمان والاطمئنان، ويسجد اللبنانيُّ المتعبِّد أمام الصورة، ويضيء لها الشموع ويحرق البخُّور، ضارعاً إليها لكي تحميه وتحمي أولاده وأرزاقه، وتعينه في حياته
ومن المظاهر التي يكرِّم بها اللبنانيّون مريم العذراء إقامة المزارات أمام البيوت أو عند مداخلها. وكثيراً ما يعمد اللبنانيُّ إلى بناء مزار للسيِّدة العذراء، ويحيطه بالتكريم والوقار، بعد الفراغ من بناء منزله، وذلك تعبير عن شكره وامتنانه للسيِّدة التي أعانته على إتمام عمليَّة البناء، وطلب للحماية الدائمة منها
ويعلِّم اللبنانيُّون أولادهم منذ نعومة أظفارهم على التعبُّد لمريم العذراء، والأطفال عادة يميلون إلى صورة الأمِّ التي تحمل طفلاً، فيهيمون بها، ويذوبون حناناً لرؤيتها. وتتوحَّد في الصورة شخصيّتا مريم والمسيح، فيصيران شخصيَّة واحدة، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر
وعندما يقوم اللبنانيُّ بالأعمال الصعبة، فإنَّه يتضرَّع إلى العذراء لتعينه في عمله، فيقول: "يا عدرا"، أو يوصي أولاده قائلاً: "اتَّكلوا على العدرا". ويورد أمين الريحاني ما يقوله الفلاّح اللبنانيُّ عندما ينوي القيام بعمل ما، فيستنجد بقوّة العذراء: "بقوّة مريم العذراء أقتلع هذه الشجرة (شجرة توت كبيرة)، وبقوّة مريم العذراء أطيح من هذا السطح وأمشي إلى عملي بخير وسلامة."(14)
وتشيع في لبنان عادة تعليق الأيقونات المصنوعة من الذهب أو الفضَّة أو المعادن غير الثمينة، فتعلَّق تلك الأيقونات في الثياب، أو على جدران المنازل، حيث تظهر "مسبحة" الورديَّة، أو أيّ سُبحة أخرى، وهذه السُّبحة تتدحرج حبّاتها بين الأنامل الخاشعة، وفي جوٍّ من الصلاة والتقوى. يقول لحد خاطر: "من طاف لبنان، مدنه وقراه، كثيراً ما يرى هنا وهناك، فلاحاً أو عاملاً يغدو باكراً إلى عمله، أو يعود مساء منه، وأدوات العمل على ظهره أو كتفه، من معول، أو محراث ، أو فأس، والسبحة في يده، يقلِّب حبّاتها بين أنملاته، متمتماً عليها صلواته."(15)
وقد أنتجت قريحة القرويِ صلوات خاصَّة بمريم العذراء، تناقلها الخلف عن السلف، ولا نجدها في الكتب المقدَّسة، والصلوات الليتورجيّة. ويروي لحد خاطر أنَّ جدَّته علَّمته صلاة، ليتلوها قبل أن يموت، فتنجِّيه من عذاب الآخرة: "وضعت جسمي على الأرض، وسلّمت روحي للربِّ، العذراء فوق رأسي، تسعى في خلاصي... يا عذراء يا أمَّ النور، يا شعّالة البخّور، اعطيني من كتابك مزمور، أصلِّي سبع مرّات في الليل، وسبع مرّات في النهار، وأخلص من عذاب النار."(16)
ومن الصلوات إلى مريم أيضاً: "يا مريم، يا نقيِّه، بجاه ابنك عليِّ، بجاه ابنك والقدِّيسين، نجِّيني من الخطيِّه."(17)
وتعبِّر هذه الصلوات، التي يتزاوج فيها النثر العامِّيُّ والقوافي الشعريَّة (السجع)، عن إيمان عميق بقدرة السيِّدة العذراء على تخليص النفس البشريَّة من عذاب النار، وهذه الصلوات، على بساطتها، صورة صادقة عن إيمان اللبنانيِّين بشفيعتهم الأولى، وثقتهم بها إلى نهاية الزمان
ويروي أمين الريحاني كيف أنَّ القرويّين في بيت شباب يصلّون في حقولهم أثناء قطاف القزِّ، فيحوِّلون الحقل إلى كنيسة للصلاة: "سمعتهم يرتِّلون الصلوات ساعة الغروب، وهم في عملهم بين الأجران والدواليب. ترفع جميلة الصوت منهم صوتَها بطلبة العذراء: "كيرياليسون كريستياليسون، يا سلطانة العذارى، يا سلطانة الملائكة..." فيردُّ العمَّال، خمسون أو مئة منهم: "تضرَّعي لأجلِنا."(18)
ويخبر المعمِّرون في مناطق كسروان أنَّ احتفالات سيِّدة الزروع كان لها معنى دينيّ، فكانوا يضعون صورة السيّدة العذراء في وسط الحقل، وعندما تُجمع غمار السنابل، كانوا يضعون الصورة على غمار القمح ويصلّون للعذراء، باعتبارها حامية للأرزاق والمحاصيل
وتنتشر في القرى والمدن اللبنانيَّة أسماء الفتيات المتحدِّرة من شخصيَّة مريم العذراء، كمريم، وماري، وميراي، وسيِّدة، وعدرا... ويضطرُّ الوالد أحياناً إلى تسمية ابنه باسم سايد، ليقيم توازناً بين المؤنَّث (سيِّدة) والمذكَّر، وهذه عادة شائعة في بيوت اللبنانيِّين. ويتَّجه العديد من المسلمين إلى تسمية بناتهم باسم مريم، تيمُّناً بالعذراء التي ورد اسمها سبعاً وثلاثين مرَّة في القرآن الكريم(19)
وعندما تمرض إحدى الفتيات، يقوم أهلها بإلباسها ثوباً من أثواب القدِّيسات، وكثيراً ما يكون ذلك الثوب أزرق اللون، شبيهاً بالثوب الذي يعتقد الناس أنَّ مريم العذراء كانت ترتديه، وتبقى الفتاة مرتدية ذلك الثوب إلى أن تشفى من مرضها، فيقال: "نُذرت الفتاة لمريم وشفتها من مرضها"، أو: كانت منذورة لمريم العذراء
وتنتشر ظاهرة النذور بكثرة في القرى اللبنانيَّة، كأن يخصِّص المرء مبلغاً من المال أو يذبح نعجة، أو يقدِّم بعض ممتلكاته للدير، فإذا فشل في إيفاء نذره كما وعد، تقع به كارثة أو يتعرَّض لمكروه، فالنذور عند اللبنانيِّ واجب وفاؤها، ولو تأخَّر، "فلايجوز الإغضاء عنه، إلاّ إذا كان في ساعة ضيق."(20) وقد يكون النذر بناء كنيسة، ففي جبيل مثلاً، نذرت إحدى السيِّدات، وهي من قرية المكبوسة، وكانت مصابة بمرض عضال، بأن تبني كنيسة إذا شفيت من مرضها، وبعد أن تأكَّد شفاؤها بنت كنيسة صغيرة على الشاطئ، دعتها سيِّدة المكبوسة
وتسمَّى بعض النباتات في لبنان أيضاً بأسماء مريميّة، كزهرة بخّور مريم، وهي زهرة بريّة في الغالب، ذات رائحة عطرة، وتسمَّى في بلدان أخرى باسم عصا الراعي. والمقصود من تسميتها باسم بخّور مريم إقامة مشابهة بين رائحة الزهرة الجميلة والبخّور المريميِّ العطِر
ويقوم الأطفال في القرى بصنع عقود وأطواق من أزهار بخّور مريم، ويعلِّقونها على صدور أمَّهاتهم، كناية عن الطهارة التي تنتقل من مريم العذراء إلى الأمَّهات في الأرض
ولنبتة القوَّيسة الشهيرة في الطبِّ الشعبيِّ، اسم الميرميَّة، أو المريميَّة، أو عشبة مريم وتزرع هذه النبتة في حدائق البيوت بكثرة. وقد ذُكرت هذه النبتة تحت اسم "المريميَّة" في معجم النبتات الطبِّيَّة(21)، ما يؤكِّد على وجود هذه التسمية في لبنان، وتحديداً في بعض القرى الجنوبيَّة. وهذه التسمية منتشرة أيضاً في المناطق الفلسطينيَّة المتاخمة للحدود اللبنانيَّة الجنوبيَّة
كما يسمِّي بعض سكّان الجنوب، وخوصاً في منطقة رميش، إحدى النبتات الخضراء، ذات الأوراق المستديرة، باسم "خُبز العذراء"، ويأكلونها
ومن أهمِّ الدلائل على العلاقة الوطيدة بين شخصيَّة السيِّدة العذراء والإنسان اللبنانيِّ، أنَّه جعل لها أسماء زراعيَّة، فهي سيِّدة الزروع في كسروان، وسيِّدة التلَّة في دير القمر، وسيِّدة البطِّيخ في صفد البطّيخ (جنوب لبنان)، وسيِّدة الحقلة في سبعل (الشمال)، وسيّدة الوادي في بسبعل (الشمال)، وسيّدة السنبلة في العاقورة (جبيل) وسيّدة البيدر في حصارات ( جبيل)، وسيّدة البيادر في عبرين (البترون)، وسيّدة الفلاحة في تنورين، وسيّدة الحوش في غلبون (جبيل)، وسيّدة البعل (يُقصد بالبعل الزراعات البعليّة) في شربيلا (عكّار)
وتدلُّ هذه الأسماء على أنَّ العذراء كانت، ولا تزال شفيعة المواسم والزراعات، فاللبنانيُّ المزارع أو الفلاّح، يلجأ إليها لكي تحمي محاصيله من القحط أو شرور الطبيعة
واللبنانيُّ يحتفل بعيد انتقال السيِّدة العذراء، في الخامس عشر من شهر آب، بمظاهر دينيَّة واحتفاليّة، فتقام الصلوات، والاحتفالات التي تتخلّلها مظاهر البهجة والسرور. ويرافق العيد في بعض القرى "ولائم ورقص وإطلاق رصاص. وفي قرية بحمدون يذبحون خروفاً (أو أكثر)، ويطبخون بلحمه هريسة تُفرَّق على الناس صباح العيد في باحة الكنيسة. وفي جرود اللقلوق، يحتفي به (العيد) المسيحيّون، ويشركهم في بهجة العيد العربان الحالُّون في تلك الجرود، وبعض المسلمين من القرى المجاورة. ولهذا العيد مقام مرموق في خلده، على ساحل البحر، فإنَّهم يحتفلون به احتفالاً رائعاً في كنيسة السيِّدة، وبعد القدَّاس، تقام حفلة زجليّة يتبارى فيها قوَّالو المنطقة."(22)
وفي شمال لبنان، تقام احتفالات مماثلة، فالمتديِّنون "يحضرون الزيّاح الذي يقام في هذه المناسبة، والذي يطوف خلاله الكاهن والحاضرون حول الكنيسة أو في شوارع البلدة. أمَّا الاحتفال في المناطق الجبليّة، والتي يسكنها الموارنة بشكل رئيسي (قضاء زغرتا- الزاوية وبشرِّي والبترون وبعض عكَّار) فمميَّز، ليلة العيد يسهر الشباب الراشدون على أنغام الطبل والزمر، في حلقات دبكة.... ويدوم الاحتفال حتّى ساعة متأخِّرة من الليل، ثمّ يُفصَّل له ملحق صباح اليوم التالي (يوم العيد)."(23)
والواقع أنَّ الاحتفال بعيد السيِّدة، يعمُّ جميع المناطق اللبنانيّة، وينام الناس في الكنائس، أو يخيِّمون بالقرب منها، وفاء لنذر، أو يقدِّمون الأموال لصندوق الكنيسة، ويضيئون الشموع، وتشعشع الكنائس بالأنوار في ليلة العيد. وفي زغرتا، يقوم الأهالي بالسير صعوداً إلى إهدن، أو العكس، مساء العيد (المسافة تزيد عن ستة عشر كيلومتراً)، ويكون بينهم صِبْية، ونساء حافيات. "وفي بعض بلدات بشرِّي (كحدشيت مثلا) تقوم مجموعة من الأهالي بجمع كمِّيّة من المال ومن القمح، بهدف تحضير كمّيّة كبيرة من الهريسة، توزع فجراً على منازل البلدة، فيأكل منها الجميع عند الظهر."(24)
وفي بعض القرى، تُنظَّم احتفالات مماثلة، بعيد ولادة السيّدة العذراء، الذي يقع في الثامن من أيلول
المعجزات المريميّة في الوجدان الشعبيّ اللبنانيّ
لا شكَّ في أنَّ الشعب اللبنانيَّ شديد التعلُّق بالكرامات والمعجزات، فاللبنانيّون بطبعهم يميلون إلى القصص الغريبة التي تدغدغ خيالهم. ويتناقل السكَّان المحلِّيُّون أخبار الكرامات، التي قامت بها السيِّدة العذراء في مناطقهم، ويروونها في مجالسهم، ويشيعونها بين الأقربين والأبعدين، تعبيراً عن اعتزازهم بإيمانهم، وغبطتهم بقدرة العذراء مريم، رفيقتِهم وشفيعتِهم، على القيام بأعمال جليلة، لا يمكن أن يقوم بها أحد من الناس، مهما بلغ شأنه أو قوَته. وفي التاريخ اللبنانيِّ أقاصيص كثيرة عن كرامات العذراء المحارِبة، أو الحارسة، أو المنجِّية من الويلات، أو الطبيبة المداوية، ففي الحروب، كانت العذراء تدافع عن القرى، وتحمي الأطفال والأمَّهات بيديها المفتوحتين. يروي البطريرك الدويهي أنَّ سيّدة زغرتا ظهرت في معركة عام 1676 بين خيّالة من زغرتا ومقاتلين من آل حمادة: "وشهد عبد القادر سيِّد عردات والحاج محمّد قاطرجي خضر آغا أنّهم شاهدوا السيّدة فوق البرج علانية، وهي تصون النصارى بيدها وتطرد المعتدين عليهم."(25)
وفي عام 1761، يتكرّر مشهد العذراء وهي تدافع عن الموارنة في الشمال، فقد ذكر عصام فريد كرم: "هوجمت الجبَّة من قبل آل حمادة، وآل الحرفوش، على رأس قوَّة قوامها ألفا رجل مدجَّجين بالسلاح، فخاف الموارنة من هذه القوَّة الضاربة، ولكنَّ رؤساءهم الدينيّين من كهنة ومطارنة، وعلى رأسهم البطريرك طوبيا الخازن (1756- 1766) جمعوا رعاياهم في الكنائس، وشجَّعوهم على المقاومة بحماية العذراء مريم، فنُظَّمت الأمَّة المارونيّة الصغيرة، بمساعدة حاكم الضنّية الشيخ ناصيف رعد، وقيادة بطرس كرم الإهدنيّ، فانتشرت القوة المارونيّة على تلال بشرِّي حيث سيمرّ المهاجمون، ووقعت المعركة التي دامت ثماني ساعات. ويقول الأب غودار نقلاً عن كبار السنّ في المنطقة: عند غروب ذلك اليوم، تلبَّدت السماء بالغيوم، وظهر قوس قزح امتدَّ على طول ساحة المعركة، وخرج منه ممرٌّ من النور الأبيض الساطع، مع سيِّدة حاملة السيف، تضرب به الأرض، فصرخ المقاتلون الموارنة: "إنَّها السيّدة العذراء، إنَّها السيّدة العذراء، أتت لتحمينا". صُعق المقاتلون (...) من هذا المنظر، وهالهم منظر السيّدة التي يخافونها بشدّة، فهرولوا هاربين تاركين المعركة فتحرّرت الجبّة."(26)
ويُروى أيضاً عن الشيخ ناصيف أبي نكد، وهو كبير مشائخ دير القمر قبل عام 1860 "أنَّه كان كلَّما أراد الذهاب إلى الحرب، يزور كنيسة سيِّدة التلَّة في دير القمر، ويحمل من ترابها شيئاً في عمامته، ناذراً بأن يخصَّها بأوَّل زياراته بعد عودته سالماً، ولم يكن ليرجع عن نذره حين مجيئه."(27)
وكان الحكّام زمن الشهابيِّين، يضعون علم البلاد في كنيسة سيِّدة التلّة- دير القمر، ولا يخرجونه منها، إلاّ حين ذهابهم إلى الحروب مع رجالهم(28)
وتروي التقاليد الشعبيّة اللبنانيّة أنَّ يوسف بك كرم، كان يتعبَّد للسيّدة العذراء، يصلِّي إليها قبل معاركه وبعدها. و كان لا يقطع الصلاة عندما كانت العساكر العثمانية تقترب من مكان تواجده، ولا يخرج من الكنيسة قبل أن يتمَّ صلاته
ويمضي الخيال الشعبيُّ اللبنانيُّ في رواية الكرامات التي صدرت عن مريم العذراء، فبناء بعض الكنائس اقترن بأعمال خارقة، كدير النوريّة (رأس الشقعة - شمال لبنان) يقال بأنَّ بانيه ربّان مركب كان قد أتى ليحتمي من رياح الشتاء في الخليج الذي تحته (الجبل البحريّ)، فرأى نوراً غير طبيعيّ، وقد تكرر هذا المنظر مراراً، فصعد إلى هناك، وشاهد أيقونة للسيّدة، فأيقن أنّ النور سماويّ، فذهب إلى بلاده، وجمع الدراهم وعاد ليبني الدير(29). وتعبِّر صورة سيِّدة النوريَّة المعلَّقة في الكنيسة عن مشهد البحر العاصف والسفينة في وسطه، والعذراء تحميها
وحدثت كرامة مماثلة أثناء بناء سيِّدة النجاة في بلدة حالات (ساحل جبيل). يروي آل ضوّ الذين بنوا هذه الكنيسة أنَّه في عام 1885، "ظهرت السيّدة العذراء على الياس فارس ضوّ، وطلبت منه أن يبني كنيسة على اسم سيّدة النجاة، فاستصعب الأمر لعدم توفُّر المال لديه، وعوضاً عن ذلك، بنى مزاراً بسيطاً، كان كلَّ ليلة يضيء فيه إناء من الزيت، وكان كلّما عرَّج لتفقُّد المزار يجد الإناء منطفئاً، وملقى على الأرض. عندئذٍ طلب من العذراء أن تظهر له مَن يطفئه. وفي اليوم التالي، وجد كلباً ميتاً وفمه في إناء الزيت، فتوطَّد إيمانه، وقرَّر أن يوفِّر ما أمكنه من المال لبناء الكنيسة."(30)
وفي عكَّار بشمال لبنان، وأثناء بناء سيّدة العطايا في بلدة المغراقة، "سقط قالب الباطون فجأة عن علوٍ يزيد عن ثمانية أمتار، وفوقه سبعة رجال، وكانت عائلة مع طفلين تحته تماماً، ولكنّ الجميع نجوا من تلك الكارثة في شكل عجائبيّ."(31)
وفي بلدة أنفه بشمال لبنان، يرتبط بناء دير الناطور الشهير بحكاية شعبيَّة توارثتها الأجيال، وهي أنَّ قاطع طريق ظهرت له العذراء مؤنِّبة، فصمّم أن يتوب إلى ربّه توبة كاملة، فقيَّد رجليه بقيد من حديد، وأقفل القيد بمفتاح صغير، ورماه في البحر، واتَّخذ كوخاً قرب البحر... مكاناً للاستغفار والندامة والتوبة. وأمضى الرجل عدّة سنوات في ذلك الكوخ "ناطراً" رحمة الله. وكان عابرو السبيل وصيّادو الأسماك يزورونه جالبين له الطعام، مطلقين عليه لقب "الناطور". وفي أحد الأيّام، جلب له أحد الصيّادين سمكة كبيرة، فلمّا شقّها، عثر في جوفها على مفتاح القفل، فاعتبر أنّ الله استجاب وغفر له، فتحرّر من قيده، وعاد إلى مجتمعه. ووفاء منه لما حصل معه، بنى ديراً صغيراً فوق الكوخ عُرف بدير الناطور."(32)
وعلى الرغم من أنَّ هذه المعجزات والكرامات هي عبارة عن روايات يتناقلها السكَّان المحلّيّون، فإنَّ لها دلالات روحيّة كثيرة، فهي تعبِّر عن إيمانهم، وتُظهر لهم في الوقت نفسه عظمة السيِّدة الحاضرة في حياتهم، كما توحي لهم بأنّ لا شيء يصعب أمام قوَّة الإيمان. ولا تقلُّ أقصوصة سيِّدة البير في فتري (جبيل) عمّا سبقها من روايات، فلم يكن في المكان (الذي بنيت عليه الكنيسة فيما بعد) سوى بعض الآثار القديمة وسنديانة، وكانت تكرِّم هذه الآثار، تحت اسم السيّدة العذراء. وكان الشيعة يحرقون قطع القماش كنذور، ومن هؤلاء امرأة أرملة. "وفي أحد أيام الشتاء، قام أحد أبناء هذه الأرملة بقطع أحد أغصان الشجرة لإطعام عنزاته، فكان أن لدغته أفعى في فخذه. وبّخته أمّه على تدنيسه شجرة السيّدة (مريم العذراء)، واعتبرت أنّ السيّدة قاصصته... فكان أن قدّمت لاحقاً المكان مجاناً لبناء كنيسة."(33)
وإذا نظرنا بعمق إلى فحوى هذه الأقصوصة، كغيرها من الأقاصيص المتجّذّرة في المأثورات الشعبيّة والتقليد المرويِّ، نجد أنَّها تقوم على البساطة في التفكير، والخيال الساذج، واستبعاد الفرضيّات المنطقيّة، فلعلَّ الصبيَّ تعرَض للدغة الأفعى بحكم عمله كراع في الحقول، لكنَّ الأمَّ المؤمنة، تضع إيمانها في المقام الأوَّل، وتقيم رابطاً بين ما فعله الولد من إساءة بحقِّ العذراء، وبين العاقبة التي أصابته من جرّاء ذلك. أمّا الفكرة الثانية التي نستخلصها من القصّة الآنفة الذكر فهي أنَّ الإيمان بقدرة مريم العذراء لا ينحصر في المسيحيّين فقط، بل يتعدّاهم إلى إخوانهم المسلمين في جميع المناطق. وقد شاعت مؤخّراً ظاهرة المسيرة الموحّدة في عيد بشارة السيّدة العذراء، وهي مسيرة يتشارك فيها المسيحيّون والمسلمون في تلاحم إيمانيّ رائع. كما تقام في العيد نفسه محاضرات في الجامعات يتحدّث فيها مفكّرون وأكاديميّون من جميع الطوائف عن مريم العذراء التي كرّمها القرآن الكريم وخصّها بمجد عظيم
ويستحبُّ اللبنانيّون مثل هذه القصص ويضيفون من وحيهم عليها في كثير من الأحيان. وهي لا تنحصر في منطقة دون أخرى. ففي شرق لبنان مثلاً قصص كثيرة تدور في المجتمعات المسيحيّة والإسلاميّة على حدٍّ سواء عن أعاجيب سيّدة بشوات، ويتوافد الزائرون من كلِّ صوب وأوب، لزيارة الكنيسة، والتبرُّك بنعمها الوفيرة. وقد حدثت شفاءات كثيرة في سيِّدة بشوات، لا مجال لذكرها. كما تروي التقاليد مجموعة من الكرامات، مثل كرامة العمود. ومختصر قصّة العمود أنّ عموداً من الرخام الزهريّ كان في كنيسة سيّدة بشوات في حدود عام 1825، وأرسل الأمير أمين حرفوش رجاله للاستيلاء على هذا العمود، ليستخدمه في بناء قصر له، فأتى الرجال إلى الكنيسة، وأقتلعوا العمود من مكانه، وحملوه إلى سهل البقاع. وفي الليل انتقل العمود إلى مكانه في الكنيسة. وأرسل الأمير فرقة أخرى من رجاله لتنتزع العمود، فهبَّت النيران في كوفيّاتهم، وفرّوا هاربين(34)
واللافت أنَّ القصص التي تروى عن كرامات السيّدة العذراء تقلُّ في المدن الكبرى، وتكثر في القرى، فالقرويُّون عادة يكونون أكثر انضباطاً في إيمانهم، وأكثر تصديقاً أيضاً للأخبار التي لا يفسِّرها العلم. أمَّا في المدن، فتنحسر المأثورات الشعبيّة أمام القيم المادِّيَّة والعلميّة. كما يُلاحظ أيضاً أنَّ بعض أديرة السيّدة العذراء في بعض الأماكن، مثل بشوات، وزغرتا - إهدن، ودير القمر تجترح معجزات أكثر من سواها، مع أنَّ العذراء واحدة. وتصل هذه القصص إلى حدّ المبالغة في قرية دون سواها، كما في بلدة زغرتا، حيث سجِّلت لسيّدة زغرتا شفاءات وعجائب كثيرة، ويروي البطريرك الدويهي، وهو من المؤرِّخين الذين يعتمدون اعتماداً كبيراً على التقاليد المحكيَّة، أنَّه في عام 1653، التجأ أهل طرابلس وجبّة بشرّي إلى حماية سيّدة زغرتا من مرض الطاعون والعساكر العثمانيّة... وبشفاعتها لم ير أحد منهم ضرراً، بل شاهدها كثيرون تسير على سطح البرج، وتزجر العساكر المقبلين من ناحية الشمال فيضمحلّون بشبه الدخان(35). وفي إهدن، يروي الدويهي أنَّه عندما كبس الأمير موسى الحرفوش جبّة بشرّي، دخل اثنان من جماعته إلى كنيسة دير رأس النهر في إهدن (حيث توجد كنيسة صغيرة للسيّدة العذراء)، فضرب أحدهما صورة السيّدة بالخنجر، وفي حال خروجه من الدير يبست يده، وفي تلك الليلة مات(36)
وتأتي أخبار الكرامات والأعاجيب، عن مريم الطبيبة، أو المداوية، من جميع أنحاء لبنان، ففي عكَّار مثلاً، تقصد النساء مقام سيِّدة الدرّة في كلٍّ من أكروم وحَبشيت، أملاً في إنجاب الأولاد والرضاعة الطبيعة. وقد توارد في الروايات أنَّ سيّدة الدرّة لها اختصاص محدَّد هو الشفاء من العقم، وانحباس الرضاعة. ويقصد المرضى مقام سيّدة الغسّالة في القبيّات طالبين الشفاء. وقد حدثت في المكان شفاءات كثيرة يرويها الأهالي... وكان أهالي دير القمر يزنِّرون الجدران الداخليّة لسيِّدة القلعة بحبل من خيوط الحرير عند ظهور الأوبئة، التماساً من العذراء لدرئها عنهم(37)؛ فمريم العذراء انتقلت هنا من صفة المحاربة إلى صفة الطبيب الذي يعطي لقاحاً روحيّاً للحماية من العلل والأمراض المستعصية
وتتَّخذ العذراء في بعض الأماكن، صفة الحامية من الشرور، ففي جبيل مثلاً، تسهر سيّدة البحّارة Maritime على أبنائها الذين يسافرون بعيداً في البحار. وقد تحوَّل الاسم على ألسنة العامّة إلى مارتين، فباتت الكنيسة والمستشفى التابع لها يُعرفان بسيّدة مارتين
خاتمة
يبدو ممَّا تقدَّم أنَّ لمريم العذراء مكانة عظيمة في الضمير الشعبيِّ اللبنانيِّ، وقد أصبحت محوراً مهمّاً من محاور الثقافة العامَّة، والتقاليد، والمرويَّات الجميلة. ولا نكاد نجد مجتمعاً آخر غير المجتمع اللبنانيِّ، يحيط العذراء مريم بهذا القدر من التكريم والتعظيم، فالراعي والفلاّح، والغنيِّ والفقير، والجاهل والمتعلِّم... جميعهم يلتجئون إلى مريم، ويؤمنون بقدرتها على حمايتهم من الأمراض والشرور
ويترجم اللبنانيُّ إيمانه العميق بمريم العذراء، ليس فقط في الكنيسة، بل أيضاً في المجتمع، والعمل، وفي تربية أبنائه، فشخصيَّة مريم هي حضور ثابت في الشخصيَّة اللبنانيّة العامَّة، بل هي في الواقع جزء لا يتجزّأ من يسوع المسيح، الذي يعتبره المسيحيّون عموماً فادياً ومخلِّصاً وإلهاً
وتظهر مريم في تجلِّيات يوميّة، ضمن الإطار الإيمانيِّ الواسع، كرفيقة للبنانيِّ في داره، وكرمه وبيدره... وهو يربِّي أولاده على محبَّتها، لكي تبقى ذخراً في العائلة، ينتقل من جيل إلى جيل
ويحوِّل اللبنانيُّ سهوله وبيادره إلى مذابح، يقدِّم أمامها الصلاة والتضرُّعات لمريم العذراء، فالصلاة هي تعبير عن الإيمان العميق ونوع من الفنِّ الممتِع الذي يترافق مع حركة العمل، ويقطع رتابة النهارات الطويلة
وللدلالة على أهمِّيَّة مريم في الإطار المجتمعيِّ، خصوصاً في الأرياف، جعل الناس لها أسماء ذات علاقة بالزرع والحصاد، وهذا يعني أنَّهم ربطوا بينها وبين وسائل عيشهم الحيويَّة، وجعلوها أمينة على أعمالهم، تحفظها، وتصونها، وتضمن لهم محاصيل وفيرة، لا تبدِّدها الرياح وقسوة الشتاء
وفي الاحتفالات بعيد انتقال السيّدة العذراء، يمزج اللبنانيُّون بين القيمة الليتورجيَّة للمناسبة، والمظاهر الاحتفاليَّة، من موسيقى، وطرب وغناء. وهذا إنَّما يعبِّر عن اغتباطهم بانتقال شفيعتهم إلى السماء، لتكون عيناً ساهرة عليهم من هناك
ولعلَّ أهمَّ ما يؤكِّد شغف اللبنانيِّين بالسيِّدة العذراء هو الكمُّ الهائل من الأعاجيب والكرامات التي قامت بها، بعضُها مثبت في بطون الكتب، وبعضها تتناقله الشفاه، والبعض الآخر يعيش في الذاكرة الجَماعيّة، كمادَّة محفوظة من أجيال سابقة. ويمكن القول: إنَّ العديد من تلك الأعاجيب المرويَّة هي جزء من التراث الشعبيِّ، بحيث أنَّ الأقاصيص عن مريم المحاربة، أو الطبيبة، أو الحارسة أصبحت نوعاً من الثقافة العامَّة للناس، وهم لا يحتاجون إلى الوثائق الكنسيَّة المثبتة لهذه الأقاصيص لكي يصدِّقوها، كما لا يمكنُهم السكوت عن كلِّ مَن يحاول التشكيك بمرويّاتهم عن طريق العلم
وبكلمة أخرى، فإنَّ حبَّ اللبنانيِّين لمريم العذراء تحوَّل إلى علاقة كيانيَّة، وارتباط عضويٍّ وثيق لا يخضع للمناقشة، وبات رافداً من الروافد التراثيَّة المميِّزة للمجتمع اللبنانيِّ عن أيِّ مجتمع آخر
المصادر والمراجع
(1) يوحنّا 2: 1-5
(2) لوقا 6: 17-18
(3) رونكاليا، مارتينيانو بليغرينو: على خطى يسوع المسيح في فينيقيا، المؤسَّسة العربيّة للدراسات بين الشرق والغرب، بيروت، 2007، ص52
(4) المصدر نفسه، ص 101
(5) حنين، رياض: أسماء قرى ومدن وأماكن لبنانيّة في روايات شعبيّة، دار لحد خاطر، بيروت، 1986، ص 120-121
(6) يُنظر: جريدة البلد، عدد، 1496، تاريخ 6-4-2008
(7) ينظر: يمِّين، الأب يوسف: المسيح ولد في لبنان لا في اليهوديّة، منشورات الجمعيَّة الكونيَّة، إهدن، 1999، ص 641-642
(8) مفرّج، طوني: الموسوعة اللبنانيّة، نوبليس، بيروت، 2002، ص 98
(9) يمّين، الأب يوسف: المسيح ولد في لبنان لا في اليهوديّة، منشورات الجمعيَّة الكونيَّة، إهدن، 1999، ص 631
(10) نشيد الأنشاد 4: 8
(11)عيد، الأباتي فرانسوا: كنائس ومزارات العذراء في لبنان، في: صابر، أنور: العذراء مريم في لبنان، ج1، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، بيروت، 2001، ص ب
(12) إدِّه، الأب أميل: مزار سيّدة لبنان- أثر وطنيّ ودينيّ خالد، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 2003، ص 7
(13) الأسمر، راجي: المعتقدات والخرافات الشعبيّة اللبنانيّة، جرّوس برس، طرابلس لبنان، غير مؤرَّخ، ص 89
(14) الريحاني، أمين: قلب لبنان: دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، 1978، ص 427-428
(15) خاطر، لحد: العادات والتقاليد اللبنانيَّة، ج1، 1977، ص 29
(16) المصدر نفسه، ص 30-31
(17) المصدر نفسه، ص 32
(18) الريحاني، أمين: قلب لبنان: دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، 1978، ص 98
(19) النفري، الشيخ محمّد: البشارة لدى السنَّة، في: بشارة مريم عهد بالحياة والروح، منشورات جامعة سيدة اللويزة، بيروت، 2007، ص 127
(20) خاطر، لحد: العادات والتقاليد اللبنانيَّة، ج1، ص 45
(21) أيو نجم، يوسف: معجم النبتات الطبِّيَّة، مكتبة لبنان ،1999، ص124
(22) فريحة، أنيس: القرية اللبنانيّة حضارة في طريق الزوال، جرّوس برس، طرابلس لبنان، 1989، ص 273-275
(23) معتوق، فردريك: التقاليد والعادات الشعبيّة اللبنانيّة، جرّوس برس، طرابلس لبنان، 1986، ص 90
(24) المصدر نفسه، ص 90
(25) الدويهي، البطريرك اسطفان: تاريخ الأزمنة، تحقيق الأباتي بطرس فهد، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 1976، ص 563
(26) كرم، عصام فريد: تاريخ سيدة بشوات مزارها وعجائبها، 2006، ص 42-43
(27) خاطر، لحد: المصدر السابق، ص 48
(28) ينظر: نعمة، جوزيف، دير القمر عاصمة لبنان القديم، 2001، ص 173
(29) جريدة البلد، العدد 2294، تاريخ 24-7- 2010
(30) الخوري، كريستيان: العذراء في لبنان، ج7، منشورات جامعة سيدة اللويزة، بيروت، 2008، ص 264
(31) صابر، أنور: العذراء مريم في لبنان، ج1، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، بيروت، 2001، ص 160
(32) صابر، أنور: العذراء مريم في لبنان، ج4، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، بيروت، 2003، ص 57-58
(33) الخوري، كريستيان: العذراء مريم في لبنان، ج7، منشورات جامعة سيِّدة اللويزة، بيروت، ص564
(34) كرم، عصام فريد: تاريخ سيدة بشوات مزارها وعجائبها، 2006، ص 51-52
(35) الدويهي، البطريرك اسطفان: تاريخ الأزمنة، تحقيق الأباتي بطرس فهد، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 1976، ص 537
(36) المصدر نفسه، ص 456
(37) نعمة، جوزيف نعمة: دير القمر عاصمة لبنان القديم،2001، ص 172
قراءة جميل الدويهي لأقصوصة أوجيني عبود الحايك - أميركا "متشرّد لا يشبه المشرّدين"
الأقصوصة
ما هذه الصدفة التي أوصلتها إلى هذه المدينة التي لا ينام أهلها؟ يرقصون ويضحكون ويبذخون، عكس هذا الزمن البائس الذي ينزف من الجوع والوجع.. الموائد مترفة.. والبيوت فاخرة.. والأحاديث بليغة.. كانت مأخوذة بروعتها.. شعرت كأنّها ثملة من كؤوس الفرح.. مصدومة من رؤية الوجوه الودودة الراكضة باتجاهها، تلقي عليها التحيّة باحترام فائق.. بائع السكاكر والحلوى يقدّم لها ما لديه، وبائع الأقمشة يغريها بالحرير والمخمل الفاخر .. بائع الكلام يحاول لفت انتباهها.. والصائغ يقدّم لها جواهره الثمينة المرصّعة كالنجوم، وبائع الأحذية يعرض عليها حذاء الرقص الزهري اللون مع شرائط تلمع كالحلم، ويصرّ على مساعدتها في انتعاله.. وهي تحاول أن تقنعه بأنّها لا تجيد الرقص.. لكنّها فجأة شعرت بمرونة فائقة، وأخذت تدور وترفرف بخفّة كراقصة محترفة.. كيف ارتدت هذا الثوب الأبيض الناصع؟! من علّمها تلك الخطوات المدروسة؟!.. واستفاقت على دوّي التصفيق.. ما هذه المدينة الساحرة التي تخطف روحها وتلامس طموحها!... تشبه الفانوس السحريّ.. بمجرّد أن تفكّر تتحقّق الأمنيات الدفينة
مَرّ بها مهرّج يرسم الفرح بحركات بهلوانيّة متقنة، رسم الضحكة على محياها.. هنا الأحلام تتحقّق حتّى خلال النهار ولا تنتظر وسادة الليل الكاذبة... ومرّت بالساحر، رأته ينفث ألسنة النار من فمه، خافت أن تقترب منه، حتى تقدّم خطوة باتجاهها وطلب منها أن تتمنّى الشخصيّة التي تريد أن تكونها.. قال لها: اقتربي، وأعطاها مرآة ذهبيّة تلمع كالشمس تعكس وجهها؟ نظرت منبهرة! كيف تحوّلت إلى أميرة؟ ومَن وضع ذلك التاج على رأسها ؟ وكيف دخلت هذا القصر؟ مَن رسم صورتها ووضعها في إطار أسطوريّ؟ لقد وُلدت اليوم. تاريخ ميلادها ابتدأ في هذه المدينة.. ستمزّق كلّ صفحة من صفحات حياتها.. ستعيش هنا مترفة .. ليست بحاجة إلى أن تعمل، فالكلّ في خدمتها ورهن إشارة منها.. لا تريد أن تعيش بعد اليوم في سباق مع الزمن .. كان يومها حافلًا بالمغامرة، لكنّ سحره انتهى فجأة حين التقت برجل في إحدى الزوايا يرتدي ثيابًا رثّة، مرقّعة بأقمشة داكنة. شعره الأشعث يخبر حكايا كثيرة غامضة.. يبدو كمجنون يدور حوله الصغار وهو يصرخ بوجههم.. شعرت بأنه لا ينتمي إلى هذه المدينة ولا إلى ناسها.. صورتُه شوّهت كمال هذا المكان .. فإنّ الخدم في هذه المدينة يرتدون أفخر الملابس، فلا تعوّد تفرّق بينهم وبين الأسياد.. ألقت عليه نظرة عابرة وهي تستعجل خطواتها، لكن لفتتها كتبه السميكة والمغبّرة التي يحملها تحت إبطه.. هل يقرأ هذا المتشرّد المجنون؟ ماذا يقرأ؟ هل باستطاعته شراء الكتب؟كيف وصل إلى هنا؟ لماذا لا يشبه الآخرين؟... هل تتصدّق عليه أم تتجاهله؟.. كانت شبه متردّدة عندما سمعته يقول: لا تخافي من وجهي المضطرب وثيابي الرثّة
كانت نبرة صوته لا تدلّ على الجنون.. صمتَ برهة، ثمّ تابع: أنظري إلى ما فعلته بي هذه المدينة التي تبهر البصر وتعمي البصيرة.. لا تخافي من محادثتي، ربّما أنتِ بأمسّ الحاجة إلى نصيحتي اليوم وقبل فوات الأوان .. سأقدّم لكِ كتبي.. لا ترميها في برميل النفايات، بل تمعّني في كل سطر من سطورها.. أنتِ مَن كتبها! أجل.. . أنت مَن كتبها
كيف؟
صدّقيني. عندما تقرئينها ستقتنعين
وإلى ماذا تتطرّق فيها؟
إلى الحياة والحظّ واللعنة والخير الضعيف والشر المستبدّ
لماذا؟
في هذه المدينة، دهنت الغربان ريشها الأسود بالأبيض، فأوهموني بأنّهم نوارس سلام... هذه مدينة الوهم التي كانت السبب في بؤسي وانزوائي
وماذا عن الساحر والمهرّج وبائع الأحذية والأقمشة و.. و.. و...؟
- كلّهم كذَبَة.. خدعوني، وتقاسموا ثروتي، وبنوا مملكتهم الكاذبة على أرضي، وبقيت غريبًا فيها، وحيدًا ومشرّدًا
كيف سمحت لهم؟
لقد استغلّوا طيبتي وكرَمي.. لكنّهم لن يستطيعوا سرقة فكري ومفاهيمي مهما حاولوا... هذه السطور هي حقيقتي، لغتي، مدادي، حزني وفرحي... وستبقى تنبض بنبضات روحي.. وتكشف حقيقتهم .. تكشف اختلاسهم وتزويرهم.. تكشف مؤامراتهم.. وأقنعتهم
متردّدة وقفتْ تنظر إلى الوراء، تسمع كلماته كإنذار اجتاحها.. ثم نظرت أمامها... الظلمة حالكة الآن
هل تصدّق هذا المتشرّد الذي لا يشبه المشرّدين، بل الحكماء؟ أم تدفع ضريبة الاغراء وتدخل تلك المدينة المبهرة من جديد؟
عاشت هذا الصراع المضني وهي تمشي وحيدة في العتمة... إلى نهاية العتمة
وغرّد طائر الصباح على النافذة، وهي لا تزال تلتحف الأحلام، وتشعر بالدفء. غير أنّها قامت بسرعة من فراشها، ومضت بخطى مرتبكة، لتكتب عن مدينة الغربان ومغرياتها على أوراقها البيضاء... قبل أن تغرق تلك المدينة وأهلها في النسيان
١٧ تشرين الثاني ٢٠٢٠
________
رؤية الناقد د. جميل الدويهي
قد أكون من أوائل الذين رأوا في نصوص الأديبة اللبنانيّة المغترية في أميركا أوجيني عبّود الحايك، ملامح القصّة القصيرة وروحيّتها. ولفتتُ نظرها مرّات إلى هذه الناحية، ولو طوّرت أوجيني نصوصها، ذات الطبيعة الشعريّة، ودوّرت زواياها باتّجاه القصّة القصيرة، لنجحت في هذا النوع، وهي من القلائل الآن في القارة الأميركية الذين يكتبون القصّة القصيرة بلغة عربيّة صافية، وبروحيّة القصيدة
وفي العام الماضي، كانت تجربة الأديبة أوجيني في القصّة، على قلّتها، متقدّمة. ولفتت انتباهي، بل أفرحني تطويرها لمقاربة النصّ القصصيّ، مرّة بعد مرّة... بما له من تقنيّات وعناصر فنّيّة تميّزه عن باقي الفنون الأدبيّة
وألفت هنا إلى أنّ شعراء كباراً لم يتمكّنوا من القصّة القصيرة، وهم صرّحوا بذلك، وقد ينجح الشاعر في كتابة قصّة شعريّة، لكنّه عندما يقارب القصّة في النثر تواجهه مشكلات وعقبات
وآخر قصص أوجيني كانت بعنوان "متشرّد لا يشبه المشرّدين" (نشرت على موقع الأديب د. جميل الدويهي "أفكار اغترابية" للأدب الراقي)، وهي قصّة إنسانيّة المضمون، عميقة الرؤية. ولا تقتصر على الفنّ السرديّ، أي نقل الواقع كما هو. فالقصّة جميعها من عَمل الخيال، وعناصرها: مدينة بمَن فيها من بشر وما فيها من حجر، وامرأة (هي أوجيني نفسها)، ورجل متشرّد لا نعرف مَن هو
المدينة من الفانتازيا، لا ينام أهلها، وفيها تناقض بين طبقتين من الناس: الأغنياء والفقراء. وأوجيني تقف كعادتها مع الطبقة الثانية وتتعاطف معها. وهي في تلك المدينة تسترجع ذكريات طفولتها: بائع السكاكر، بائع الأقمشة، الصائغ، تاجر الأحذية... وهؤلاء توظّفهم أوجيني ليلعبوا دوراً خياليّاً، حيث تكون هي الأميرة في الفيلم الشهير، يحاول الحَذّاء أن يجعلها تنتعل الحذاء الزهري، ليختارها الأمير الصغير، ويأخذها إلى قصره
كم هو رائع هذا التصوير الفانتازي! وكم رائعة هذه المخرجة القديرة التي تسيّر النص كما تشاء، وتتركنا نحن في داخله، نعيش، نفرح أو نحزن، نتعاطف، نعتقد أن ما ترويه صحيح، وربّما نقوم عن كراسيّنا لنشارك في الرأي والحوار
لكنّ المدينة مزيّفة، وكلّ شيء فيها مزيّف، وأوجيني نفسها تعْبر في داخل الحقيقة - الحلم بحذر وخطى متردّدة، ليصل التصاعد في الحدث إلى الذروة في مشهديّة المهرّج الذي أعطاها مرآة، فرأت نفسها فيها على غير صورتها، أميرة على رأسها تاج... والمهرّج رمز للتزييف، والكذب والنفاق الاجتماعيّ... ولا يخلّصها من الزيف إلاّ رجل مجهول، يرتدي ثياباً رثّة، ويشبه المجانين. وعدم انتماء هذا الرجل إلى المدينة نفسها، يُبرز الصراع بين الحقيقة واللاحقيقة، بين الواقع والتصوّر المضلّل للنفس البشريّة. وأغلب الظن أن أوجيني ستفضل هذا المتشرّد على جميع من رأتهم. ونحن نتوقع ذلك لأنّنا نعرفها، ونعرف روحها، وإنسانيّتها ونبلها، وصدق مشاعرها
وكم يلفت نظرنا أنّ الرجل نفسه، يحمل كتباً تحت إبطه. فهو كما نرى، من عالم الثقافة... ولا يشبه الآخرين... وقد شعرتْ بأنه يريد التودّد إليها... إنّه رمز لكلّ أديب ومفكّر ومبدع يلاقي الاضطهاد في عالم الجهل، وبين أناس مصابين بعقدة "الخشخاش الطويل" Tall Poppy Syndrome. وكلّ ذنبه أنّه يكتب عن الحياة والحظّ واللعنة والخير الضعيف والشرّ المستبدّ. فلعلّه جبران، أو نعيمة، أوغوته، أو فيكتور هيجو، أو طاغور... أو... أو
الله ما أروعك يا أوجيني! أنت تنطقين عنّا جميعاً. وتؤكّدين رؤيوية الأديب، وكيف تتربّع الكلمة على عرش النور
ويظهر أيضاً أنّ الرجل نفسه تعرّض لخديعة في المدينة ذاتها، كما تعرّضت أوجيني من قبل. وأصبح لدى الأديبة الاختيار بين أن تتبع العتمة في المدينة والأنوار المشرقة في المستقبل... وتتكشّف طبيعة الحلم في النهاية، عندما يغرّد الطائر عند النافذة، معلناً نهاية المدينة المخادعة التي تتلوّن غربانها بلون أبيض (وما أكثرهم!) ويكون الانتصار للخير والعدل والسلام، على الأقلّ في روح الأديبة الجميلة. ويا له من انتصار مجيد
جميل الدويهي يكتب عن الغربة والحنين بين مريم رعيدي الدويهي وكلود ناصيف حرب
أميرتان أيقونتان، في مشروع "أفكار اغترابيّة" للأدب الراقي. انطلقتا منه، وأخلصتا له، ودخلتا في فرحه، وستدخلان في تاريخ الأدب المهجريّ كنجمتين مضيئتين. وكم أغبط هاتين المرأتين المناضلتين! فمريم وكلود تجمعهما قواسم مشتركة: الغربة، الابتعاد عن الأهل، الكفاح الأسطوريّ في زمن صعب، والنضال لإثبات صورة المرأة النقيّة التي تعاند الظروف، وتثبت نفسها في طليعة الصفّ الرياديّ الأدبيّ، في بلاد الاغتراب، وصولاً إلى لبنان والوطن العربيّ
ويظنّ أغلب الناس أنّنا نعيش هنا في نعيم، لكنّنا لا نكشف عن الحقائق لكي لا يقال إنّنا نشكو لغير الله، وفي الوقت ذاته نؤكّد على أنّنا نبحر في محيط من الملح، ونعيش في جزيرة من أشجار الجفاف. ومن هذا الواقع تعْبُر المرأتان الأميرتان من رحاب أفكار اغترابيّة إلى ”تأريخ" الأدب المهجري، عندما سيكتب المؤرّخون. وقد أحسنتا الاختيار عندما اختارتا المشروع كمنصّة للانطلاق في العالم الإبداعيّ، وهما تعرفان أنّ غداً لناظره قريب، وأنّ الأسماء المكتوبة بالذهب ستلمع يوماً على صفحات الحقيقة
ليس هذا السعي الإنسانيّ والأدبيّ هو ما يجمع المرأتين الجميلتين فقط، بل هناك عوامل أخرى، أهّمها اللغة المهذبة الرقيقة، والسلاسة في التعبير، والسهولة في طرْق المعنى، وبساطة المبنى، فكلود ومريم لا تشتغلان على الوزن، ولا تدّعيان الشعريّة، بل هما متواضعتان في عطائهما، تكتبان النثر الجميل، وماذا به النثر؟ وممّ يشكو؟ وهل هو أعرج لا يسابق الشعر في ميدان؟
النثر بضاعة ممتازة في عنابر "أفكار اغترابيّة"، ويتكامل مع الشعر، ليؤسّسا معاً لأدب هادف وإنسانيّ. ومن هذا النثر نصّ لمريم بعنوان "صقيع الليالي"، والثاني لكلود، نشرته على صفحتها من غير عنوان
نصّ مريم
كنّا نحمل أسماءنا
وقصص الماضي
نحمل عصافير هربت من أقفاصها
ونرحل إلى البعيد
البحر يحدّثنا عن بحّارة قدماء...
يهمس حيناً
ويصخب حيناً آخر
في كتاب الموج حكايات
ونحن أبطال الحكاية
وضحاياها
عندما يغضب القدر
بيوتنا تحت الشجر العاري
وخائفون نحن
من صقيع الليالي
من أصوات مجهولة تلاحقنا
أيّامنا أوراق مبعثرة
مواعيدنا الحرمان
وأطفالنا جوع المسافة
كبرنا هنا
أصبحنا جبالاً وسهولاً
وحضارات بائدة
أصبحنا سكوتاً يشبه الرعد
وسكينة تشبه العواصف.
وتركنا هناك
شجرة ياسمين
وأرجوحة من البكاء
تبحث عنّا
ولا تعرف أين وجوهنا
من بين الدموع
____
نصّ كلود
قولَك الزعل خريف
تا يمحي الياسمين؟
قولك الليل
يا حبيبي بيطفي
نور القنديل؟
أنا وإنت والسفر الطويل
والمركب الهربان
عا أبعد من السنين
بحبّك ترجع عا قلبي
تدقّ عا بابي
والزعل
مش علامة غياب
هوّي حضورك بأعماق روحي
إنت السنونو
اللي بيعرف طريقو لوين
وأنا بنطرك عالمفرق
تا خبّيك بقلبي
وبكحلة العينين
***
لا شكّ في أنّ من يقرأ النصّين، يشعر بتقارُب كبير، فمريم وكلود من "مدرسة" و"مذهب"، و"طريقة"، خطّها أفكار اغترابيّة، ونشر مفاهيمها، وأعطى تعليماته بشأنها، وأهمّها
لغة رمزيّة واضحة
عاطفة تكمل المبنى
نثر شاعريّ يستخدم قليلاً من القوافي، أو يتجنّب القافية
تعبير مهذّب ونبيل، يبتعد عن المشاهد الصاخبة، والملاحظات الهابطة، والتجريح
وللبيان، فإنّ كلود بدأت بالنشر في "أفكار اغترابيّة" قبل مريم، لكنّهما تتشابهان، ولو وضعنا اسم كلود على نصّ مريم، واسم مريم على نصّ كلود، لما تعجّب أحد، فالنهج متقارب جدّاً، وإن تكن كلود تميل إلى الكتابة عن الحبّ والحنين أكثر من مريم، بينما تصبّ مريم اهتمامها على الحنين إلى الماضي والوطن والأهل في لبنان
النصّان موضوعا البحث تكتنفهما روح الغربة والسفر، فمريم تقول
نرحل إلى البعيد
البحر يحدّثنا عن بحّارة قدماء
وكلود تقول
أنا وإنت والسفر الطويل
والمركب الهربان
عا أبعد من السنين
فالسفر هو هاجس المرأتين. وفي الحقيقة أنّ نصّ مريم كلّه يركّز على الغربة، فهي تشير إلى معاناتها في بلاد بعيدة، حيث أصبحت أيّامها أوراقاً مبعثرة، وأطفالها جوع المسافة. ويا لها من تعابير رمزيّة فائقة العذوبة، لا يقلّ عنها جمالاً تصويرها لأرجوحة البكاء التي لا ترى من خلف الدموع... ولا تعرف الوجوه
أما كلود، سيّدة الحنين، فتمضي في طريق آخر، هو الحبّ، إذ تتمنّى لقاء حبيبها بعد غياب
إنت السنونو
اللي بيعرف طريقو لوين
وأنا بنطرك عالمفرق
تا خبّيك بقلبي
وبكحلة العينين
طيّب هذا الكلام، كعنب زحلة في تشرين. وصورة السنونو العائد، هي صورة العودة إلى الحبيب - وطن كلود الأوّل والأخير. وليس جديداً أن نقول إنّها تكتب عن الحبّ وتُصوّره بطريقة عفويّة، صادقة، وروحيّة، في مفردات أقرب إلى الصوفيّة منها إلى العشق المادّيّ الذي يتبعثر في الهواء
هذا الصفاء في اللغة، تلتزم به كلّ من مريم وكلود، وإذا كانت مريم تميل إلى الرمز "نحمل عصافير هربت من أقفاصها"، "مواعيدنا الحرمان"، "أطفالنا جوع المسافة"… فإن كلود التي تفضّل الواقعيّة، تستخدم الرموز أيضاً... فالسنونو، والمركب، والقنديل، والخريف الذي يمحو الياسمين، هي رموز جميلة. والمرأتان الأيقونتان، لا تغرقان في الرمزيّة، ليبقى وجه الواقعيّة بادياً للعيان، وإن من خلف حجاب رقيق
11 أيلول 2015
تحية إلى ضميرك الحيّ أوّلاً وقبل كلّ شيء، وإلى الفكر الإنسانيّ الذي تتزيّنين به. فأنْ تكتبي عن "في معبد الروح" أربع مرّات إنّما يدلّ على تقديرك الجميل للكتاب، وعلى شجاعتكِ في التصدّي لمواضيع فكريّة وإنسانيّة عميقة، وهذا في رأيي المتواضع يعبّر عن ثقافة وموهبة وفكر قلّ نظيرها
وبالأمس جاءني الأستاذ فضل عبد الحي، حاملاً إليّ مقالة كتبها من وحي "في معبد الروح"، ربّما هي الثالثة أو الرابعة أيضاً، فكم إنّ قلبي مغمور بهذا التقدير، وكم يعوّضني عن مشاعر الخيبة في عالم الحقد والإرهاب والثأر الأعمى. لكنّ الشجعان يرسمون لي غابة من الاخضرار، ويعطونني الضوء لكي أسير، وأحقّق، وأصل. وكثير عليّ أيّتها الأخت الفاضلة أن تصفيني بنابغة العصر، وهذا الوصف هو من فضل شخصيّتك الراقية وعظمة أخلاقك، وإنني أشعر بالألم معكِ وأنت تتألّمين من ضغينة تكاد تملأ الدنيا، وتعانين لأنّ المحبّة أصبحت غيضاً من فيض. فنحن معاً في مركب واحد، لكنّ هذا المركب ينطلق إلى الأمام، إلى المدى والأفق، ونحن رسالة ولا أقلّ من ذلك. وإنني لأعجب كيف لا يكون كلّ إنسان رسالة، وبها ميّزنا الله عن الجماد... لقد أعطاناً نوراً من أنوراه، وفكراً من أفكاره، وجمالاً من جمالاته، لكي نضيء، وما أبشع الأرواح التي تكسر قناديلها من أجل أن تصنع الظلام
أتذكَّر الآن، وأنا أقرأ ما كتبتِه عنِّي تلك القصّة التي تعلّمتُها وأنا صغير، وفيها أنّ حريقاً شبّ في غابة، فأسرعت الحمامة لتلتقط بمنقادها قطرة ماء وترميها على الغابة، بينما كان الضبّ يحمل أعواد الحطب الصغيرة ليصبَّها على النار. الحمامة هي الخير، والضبّ هو الشرّ. الحمامة هي رمز للخيّرين، الفاعلين للسلام، الذين أنتِ منهم، تملإين قلمك بعطر المحبّة، وتنشرين سطور النور، بفكر مبدع وقلب كبير
أنتِ تمرّين بالحديقة الغنّاء، فتغتبطين بعطرها وسحرها وألوانها، وتسارعين إلى تمجيدها بكلمة الحقّ، وما أروع من يقدّسون الجمال
إنّ أقلّ شيء أقدّمه إليكِ وإلى جميع من كتبوا عن "في معبد الروح" هو أن أجمع المقالات في كتاب سيصدر بعد أمسيتي في الثالث والعشرين من تشرين الأول المقبل، بعنوان : "كتبوا في معبد الروح"، وأن يكون هناك ما بعد وما بعد "في معبد الروح"، فمعنى حياتنا أن نستمرّ في الإبداع، والذي يكون في قلب الله لا يخاف ولا يتراجع، وما هو أقلّ من العطاء يعني الانتحار
لكِ احترامي الكبير
كلمة الأديب د. جميل الدويهي خلال افتتاح مكاتب المجلس الأسترالي اللبناني - سيدني
نشر في 19 أيلول 2017
ألقى الأديب المهجري اللبناني د. جميل الدويهي كلمة خلال افتتاح مكاتب المجلس الأسترالي اللبناني في ضاحية سفتون، بحضور حشد كبير من أعضاء المجلس ورؤساء أحزاب وجمعيات وروابط ومؤسسات ومثقفين ومندوبين من وسائل الإعلام
والدويهي هو أحد أعضاء المجلس ويعتبره صورة مصغرة عن عالم يطمح إليه، هو عالم المحبة والخير والإنسانية التي تجمع. وجاءت كلمته معبّرة عن هذا الاتجاه، حيث طالب بالحبّ العظيم الذي يخلق وطناً وحضارة. ودعا إلى أن نخلع شبابيك العتمة لننشر نور الفجر ونمنع الحزن والسواد. وفي ما يأتي نص الكلمة
المجلس ما هُوّي كلمه، بتنقال وبتصير بالتاريخ صدى
هوِّي حلم صار حقيقة، صار حكاية بتبتدي بالنجاح، وما بتنتهي لأنو نجاحنا ما بينتهي
وأنا بيناتكم يا أبناء المجلس، يا سيدات ويا رجال، بشوف "معبد الروح"، بشوف معبد لإله واحد يجمع ولا يفرّق
وشو الفرق بين مجلس ومجلس؟
الفرق إنو المجلس اللي انبنى عا الإرادة والإيمان ومحبة الناس هوّي خلود، والخلود قدر، ونحنا منحبّ هالقدر
بفتره قصيره كتير صار عنا إنجازات، بالوقت اللي في كتير مؤسسات هيّي أسماء، ونحنا مش زيادة مثل ملعقة سكّر بفنجان قهوة، لأنو نحنا الصباح، والشمس، وكل الربيع اللي لولاهن ما كان في خير وجمال
من هيك وقت اللي بيسألونا: شو هوي المجلس الاسترالي اللبناني؟ منقول: هوّي الإنسانيه اللي نحنا منآمن فيا، ومنضحّي منشانها، والانسانيه هيّي كلمه واحده: انك تحب خيّك وخيّك يحبّك، وبها الحبّ العظيم فيك تخلق وطن، وفيك تعمّر حضاره، وراسك بيكون مرفوع متل الأرز الما بينطال
نحنا ما بدنا مَوت، وما بدنا إرهاب، ما بدنا تشرّد
بدنا عطر الورود. بدنا الغنيّه اللي ما بتمحيها الليالي ولا بيقطعها سيف
بدنا ابنَك وابني يعيشو سوا، يلعبو سوا، ويكبرو تا يصيرو عالم جديد ما فيه حقد ولا فيه أحزان
بدنا نبني بيوت عا تلال خضرا، وهالعالم اللي حوالينا اللي عم يتحوّل إلى خراب، من فكره زغيره، هيّي خميره، بدنا نرجّعو حديقه مزهّره، وببيروت، ودمشق وبغداد والقدس بدنا نخلّي عرس الانتصار يصدح بالليالي، وعروس المحبّة مش رح تنزل دمعه من عيونها
بدنا بأعيادنا يلبسو ولادنا احلى تياب، وتقلع المدن تيابا السود ويصير البكي جنَينه عا كل باب
بدنا نخلع شبابيك العتمه تا ننشر نور الفجر، وندعس عالموت تا نعانق الحياة
ما بدنا طفل يبكي، ولا مرا تحزن، ولا ناس تشيّع ناس، ولا طايفه تحقد عا طايفه، ولا أوطان تتدمّر، ولا بيوت تتهدّم
بدنا السلام والحريّه لكل الشعوب
ونحبّ أستراليا اللي حبّتْنا، ووقت اللي كنّا مشرّدين بيوت عطيتْنا، وبدنا نعيش كرمالها، ونموت كرمالها إذا عالموت طلبتْنا
واسمحولي من خلال عملي، ووظيفتي في الحياة، وفي جريدة "المستقبل" الاسترالية أني اوضع نفسي وامكانياتي المتواضعة تحت تصرفكم، اوّلاً لأنكن أهلي واصدقائي وأخوتي وأخواتي، وثانياً لأني بعتز فيكن وبحب المجلس اللي هوّي صورة عن مبادئ كثير بحبّا وبضحّي تا اوصل إليها
ألف تحية محبة للرئيس الأستاذ غازي قلاوون، والأمين العام الاستاذ حسين علوش، وكل اعضاء المجلس، وبتمنى لإلكن دوام التوفيق والنجاح، متل ما كنتو بالامس تكونو اليوم وبكرا وبعد بكرا، لأنّو الزمان ما بيهرب من الإيدين التي بتزرع محبّه، وبتحصد خير وسعادة
وألف مبروك
5 حزيران 2018
جميل الدويهي يكتب عن أفكار اغترابية
هذه هي أفكارنا الاغترابية
فخر لنا ان يكون أفكار اغترابية، فكرة ومشروعاً، عابراً للقارات. فكرة أطلقها رجل واحد، هو حديد لا يلتوي، وذهب لا يعتق، وحبر لا يجف... من أمكانات قليلة ليصبح عمارة أدبية وفكرية وثقافية، ونهضة اغترابية تشع كما الشمس، ولا يقوى على إطفائها أحد
رغم الصعاب، والمعوّقات، والضباب، والتربّص على كل مفترق، كانت لأفكار اغترابية لغة الرقي والترفع الخاصة به. ترفُّع عن كل حقد وثار وانتقام. واجه القدح والذم بكبر، وهو الذي يقول: لا تحتقروا أحداً من الناس، وانتم كلامكم من ذهب فلا تعرضوه في السوق لكي لا يستولي عليه اللصوص
المؤسسات تفتخر بصداقتها مع أفكار اغترابية. محبو الأدب في كل مكان يحبونه، وليس المهم أن يكون هناك موقع على الانترنت، فهناك مئات المواقع الأدبية، ولكن المهم هو النهج والطريقة، فأفكار اغترابية لا يعرف لغة الإقذاع، وأدبه رفيع، وراق، أدب الحياة والإنسان لا أدب السوقة والابتذال. ولا يخفى على أحد أن أفكار اغترابية ترك أثراً كبيراً في الأدباء والشعراء، فهناك من يتأثرون به وبطريقته، وهناك من يحاكونه في قصائد تشبهه. وهذا الأمر لا يخفى على عين بصير. ونحن نسمع كثيراً من الناس، نسمع ألقاباً وصفات كبيرة، ونسمع مديحاً، ونسمع أيضاً أن أفكار اغترابية هو الرجاء بعد الرابطة القلمية، وأصحاب هذا الكلام أحياء يرزقون، ونعرفهم ولا نؤلف شيئاً من عندنا... وكل هذا الكلام جميل ويعبر عن أصحابه الطيبين الأوفياء وأصحاب الضمائر، لكن الأهم من كل ذلك هو إصرارنا على المضي في طريق رسمناه ولن نحيد عنه، ولا يحاول أحد أن يوهمنا بان ما يقوم به من فولكلور هو الجوهر، فلا أحد أكثر منا يستطيع أن يمارس الفولكلور وأن يقوم بحركات بهلوانية تضحك، لكننا لسنا في برنامج الهواة، بل نحن في مشروع اغترابي كبير، جاد، فاعل على الأرض يراه الناس كل يوم ويشهدون على تنوع أعماله وغناه... وعندما نقارن بين أدب التهتك والخلاعة، وأدب التصنع والتكلف وبين ما أنجزه أفكار اغترابية، نفهم لماذا يغيّبه البعض، ويرفضون أن يذكروا اسمه على ألسنتهم أو على صفحاتهم الصفراء، فكيف يرى من أفكارهم من جليد أن تعبر النار في ضمائرهم؟ وكأنّ تغييب أفكار اغترابية وإنتاجه العظيم هو الغياب في ذاته. لكن الحقيقة أن المتربصين يفرحون بفكرة أنهم لا يذكرونه، وهم لا ينامون الليالي من الهم والقلق كلما أنتج وحق نجاحاً وجمع الناس حوله، بينما هم لا يضعون كتاباً يستحق الذكرعلى الطاولة
أفكار اغترابية طوّر في الشعر والأدب، وأظهر تنوّعاً غير مسبوق، وخرج من شرنقة التقليد إلى عصر جديد، وعارضَ من يعيشون في الماضي، ولا يزالون منذ 40 أو 50 يضربون على الوتر ذاته، فقديمهم أحلى من جديدهم، وكأنهم يرفضون فكرة أن الإنسان يتطوّر ويطوّر. وأفكار اغترابية ينتج في سنة واحدة ما قد ينتجه أديب في حياته، وهذا ليس عيباً، بل هو فضيلة، لاننا نحرص على النوعية قبل أن نحاسب بالمكيال، فلا عذر عند الذين ينتقدون تنوع أعمالنا وغزارة إنتاجنا
وأفكار اغترابية لم يكن أنانياً، وليست عنه تكيه، ولا يستغل الناس من أجل أن يكتبوا عنه، فالذين في الأفكار هم الأحرار، يمكنهم أن ينقلبوا عليه ساعة يشاؤون، ويذهبوا إلى سواه إذا أرادوا، وصاحبه لم يستجدِ يوما مديحاً، ولا حشد أصحابه وبطانته ليكتبوا عنه أو يترجموا له، والدليل أنه يترجم لنفسه تعبيراً عن الصدق والأمانة. فالأكاديمي يعرف جيداً الأصول، ويعرف أن الذي يكتب أو يترجم لا تكون له علاقة بصاحب العمل، فالعلاقات العامة والشخصية شيء والإبداع شيء آخر
هكذا كان أفكار اغترابية، وهكذا سيكون... قلّة معه... صحيح، والناس لا يوزنون بالاطنان، بل بعمق أفكارهم وصدقهم وأخلاقهم الرفيعة، وليس ضرورياً أن تكون الكثرة دائماً على حقّ. والمشروع ماض في طريقه لأن صاحبه يعرف الطريق ومَن معه يسيرون معه في الطريق ذاته... ولا تضيع خطاهم
جميل الدويهي: ماذا يعني كتاب ناصيف حرب عن مسيرتي الأدبية؟
12 آذار 2019
ماذا يعني لي كتاب "جميل الدويهي عبقري لبق من بلادي عميد الأدب الراقي" بقلم الأديبة كلود ناصيف حرب؟ إنه يعني الكثير، والجميع يعرفون أن كلود لا تترك فرصة إلا وتبدي فيها قمة الوفاء ورد الجميل، ودائماً أقول لها: "أفكار اغترابية" لم يفعل لك شيئاً. أنت زرعت في الأرض والحصاد كان جميلاً. وكل عطاء هو من فضل الله علينا... ولكنها تملأ صفحتها بأعمالي، حتى أصبحت أعتقد أن صفحتها لي ولكتاباتي. ثانياً: هي أول من يكتب عني كتاباً في أستراليا، بل في العالم أجمع، وستتبعها الغالية مريم الدويهي بكتاب ثان. وعندما وقف مثقفون ونقاد أمام أعمالي وسلاحهم الصمت المطبق، وعندما تجاهلني العديد من الناس قالت كلمتها، وأنا أعرف أن هؤلاء الصامتين سينطقون الآن الآن فجأة وكأن برج بابل سقط على مرأى من أبصارهم. هذه هي الشجاعة بذاتها، ولولا الشجاعة لكسرنا أقلامنا من زمن طويل، وتوقفنا عن الكتابة، ولكانت مطبعة جميل الدويهي تعطلت وتوقفت عن إصدار الكتب التي يجب أن ترفع كآيات من مفاخر الجالية، وكمآثر حضارية قدمناها من غير مقابل، ما عدا محبة الناس التي تغمرنا، وأحبابنا يزيدون يوماً بعد يوم، ويسألوننا: متى مهرجانكم المقبل ومتى عرس أعراسكم؟
وثالثاً: كتاب كلود هو دين عليّ، وسأرده لها مضاعفاً، لأنها تستحق... فهي المرأة المؤمنة، المترفعة، المتجردة عن كل غاية، وأشهد أمام والله والناس أنها لم تحقد يوماً على أحد، ولا حسدت أحداً، ولا رفضت نصيحة أو رأيا مني... وأنا أعتز بصداقتها وزوجها الغالي سايمون الذي أعتبره أخاً... ولهما الوفاء مني إلى الأبد
الكتاب توثيقي، وكناية عن معلومات موثقة عن مرحلة عودتي الأخيرة إلى أستراليا (2014-2019) وسيقدم هدية مجانية في حفل تكريمي الذي سيقام في 4 نيسان المقبل. وقد أحاط المنظمون المناسبة بكثير من الخصوصية لظروف لا نسمح بذكرها... كما سأقدم مجموعة من كتبي التي صدرت في عامي 2018 - 2019 هدايا مجانية للحاضرين الذين سيكون عددهم محدوداً بعدد البطاقات التي ستوزع... وسنقول في كل مرة: نحن هنا... وأعمالنا تدل علينا
لا تكفي كلمات الشكر لكلود، فبعدد الحروف أهديها شموعاً مضيئة وجنائن امتنان
جميل الدويهي: قراءة في ثلاث قصائد لنمر سعدي
14 تشرين الأوّل 2017
أُقرُّ للشاعر نمر سعدي بطول باعه وتجربته الفذّة في الشعر العمودي والشعر المنثور على حد سواء. ولأّنني في الآلاف المؤلّفة من شعراء النثر، لم أعد أعرف كيف أقيس، وكي أتفاعل مع الصورة الشعرية، فإنني أترك لغيري أن يضيء على قصائد نمر سعدي من هذا النمط الذي لا يقلّ جمالاً في نظري عن الشعر الموزون، فالأخير نفسه قد يكون راقياً ومتفرّداً، وقد يكون هزيلاً إذا كان الشاعر لا يمتلك سرّ اللحظة المدهشة التي تسحر وتغيّر في المتلقي
وردتْني في الآونة الخيرة بضع قصائد من الشاعر نمر سعدي، وعندما قرأتها وجدت نفسي في غابة من السحر والجمال، وعوّضني ذلك عن كثير من مشاعر الإحباط التي شعرتها وأنا أقف أمام نصوص تفتقر إلى مقومات القصيدة. وقد يسألني أحد: ما هي تلك المقومات؟ فأبدو وكأنّ على رأسي الطير، كما أبدو عند سؤال أحدهم: ما سر جمال هذه المرأة؟ أو هذه الوردة؟ أو هذا البحر؟ وهل الجمال يمكن اختصاره في كلمات؟
نعم لا أعرف كيف أجيب، لكنني أشعر بالجمال يداهمني. يسحرني، يطوّقني ويأسرني من كل جانب، وهذا الانصياع لأمر الشعر وسطوته لا أحسّ به دائماً إلا عندما أقرأ لكبار، من أمثال محمود درويش وسميح القاسم وبدر شاكر السياب وسعيد عقل ونزار قباني وصلاح لبكي، وعندما أقرأ للامرتين وهيجو وتريستان تزارا وإدغار ألن بو
هؤلاء الشعراء يسيطرون على حواسي برهبة الكلمة، وأعترف أمامهم بأنني سأحتاج إلى كثير من الوقت والتجربة قبل أن أفعل فعلهم
هكذا أنظر إلى الشاعر الشاعر، وأعيد قراءته كلّما احتاج إلى الحافز الفكري والإبداعي الذي يتملكني ويأمرني بأن أكون شاعراُ أو لا أكون. وقد كنت دائماً أقول إن الشعراء القدوة صعّبوا الأمر علينا وجعلونا نفكّر كثيراً قبل أن ندفع بنص شعري إلى الناس، فكيف يجرؤ بعض مَن أقرأ لهم على رشقنا بشعر لا يخيّل لا يبدّل، ولا يحرّك فينا ساكناً؟
نحن فعلاً نحتاج إلى تلك القلّة التي تـُنوّر حياتنا، وتقتحِم مجاهلنا، وتخرجنا من صمتنا، فننتشي معها في صلاة ترتفع وترتفع إلى أبعد من النجوم
ولست أصنّف نمر سعدي إن كان رومنسياً أو رمزيًاً، أو واقعياً، لأنّني أعتقد أن الشاعر لا ينحصر في مذهب واحد، فقد يكون رومنطيقياً في انفعالاته، ورمزياً في طريقة تعبيره عن تلك الانفعالات، وواقعيا في تصويره للحدث الشعري. فعندما يقول لامرتين مثلاً: "أنا أشبه تلك الأوراق الصفراء، فخذيني مثلها يا ريح الشمال"، يكون رومنطيقياً في مشاعره المتألِّمة، ورمزياً في تصويره للأوراق الصفراء التي هي الموت، ولرياح الشمال التي هي عربة الموتى، وهو واقعي أيضاً لأنه يتحدث عن تجربته الشخصية بصدق. يقول دو لا كروا: "ليس للفن أن ينحصر في مدرسة واحدة”. ومن هذه الحقيقة التي أؤمن بها في مقاربتي للنص الشعري الجديد، فإنني أفضّل أن أخوض في قصائد نمر سعدي من باب النقد الانطباعي الذي يعتبره مارون عبود، وكثيرون غيره، أفضل النقد
قراءة 1
في قصيدة له يقول سعدي
ظفرُ تلكَ التي كنتُ أحببتُها لدقائقَ معدودةٍ في مكانٍ نسيتُ
ربَّما كانَ في حرمِ الجامعةْ
ربمَّا في القطارِ البطيء
ربمَّا في حدائقِ عينينِ صيفيَّتينِ تضيئانِ ما لا يُضيءْ
ربمَّا في الطريقِ إلى الموتِ أو صخبِ الحافلةْ
ربمَّا في مساءٍ بظلِّ المجمَّعِ أو في انتظارٍ طويلٍ طويلٍ لما لا يجيءْ
ربمَّا في ندى الوردِ أو في خطى السابلةْ
كانَ يلعنُ هذي الحياةَ بعينيهِ أو روحهِ الشاعرةْ
كانَ يهذي بغيرِ فمٍ
ظفرُ تلكَ التي كنتُ أحببتُها لدقائقَ معدودةٍ في جهنَّمَ
حتى ولو سُميَّتْ عاهرةْ
أحنُّ وأفضلُ من كلِّ زوجاتيَ العش
عانقتهُ ثمَّ وصَّيتهُ بصغارِ الملائكِ.. ودَّعتهُ وبكيتُ.. انتهيتُ من الليلِ
ثمَّ مشيتُ.. مشيتُ.. تشقُّ الخيولُ المجنَّحةُ الماءَ فيَّ ولا تستريحُ الخيولُ
شاعرٌ هو أم.. فوضويٌّ جميلُ؟
لوحة شعرية ولا أجمل، لو جزّءناها لفقدت كثيراً من خصائصها الجمالية، ولو نظرنا إلى زاوية منها دون الأخرى لفاتنا كثير من قيَمها. مزيج من الوصف، وعرض الأمكنة المحتملة للقاء، والمشاعر، والموقف الذاتي، وصولاً إلى الحركة التي تجسدها الافعال المتتالية... فالقصيدة تبدأ بوصف الأمكنة، حيث تلتهب المشاعر تجاه المرأة في مكان يمكن أن يختاره المتلقي بنفسه، ثم يمتزج العذري بالإباحي في وضع محيّر، فهل ظفر الحبيبة أم نهدها أم شيء آخر هو التحول المباشر إلى جهنّم، بالمعنى الديني المعروف؟... بعد ذلك تنتقل القصيدة إلى فضاء الفعل: "عانقته، وصّيته، ودّعته وبكيت، مشيت، تشقّ ولا تستريح"... والخاتمة تستدعي هذه الحركة الانفعالية في مواجهة المشهد أو الموقف، لكن المتلقي الذي يتفاعل مع النص قد لا يفهم من هو هذا الشاعر؟ لعلّه نمر سعدي نفسه في انفصامه عن ذاته، في رغبته وقيوده، في "تحرّره" الجسدي وسموّ روحه... نعم إنه شاعر، فوضوي وجميل أكثر من الجمال، ورؤيوي إلى أبعد من الرؤى
لا أخفي سراً إذا قلت إنّ لا حاجة لفهم القصيدة، ولا تجوز مطالبة الشاعر بأن يكون دائماً في حالة الكشف، فالمتلقي له دوره في النص، وهذا ما يفهمه الشاعر نمر سعدي، ويطّبقه على من يتبعون أفكاره ويجمعونها كخيط في ثوب ربيعي مزركش، وكنت أنا من أول التابعين وجامعي الخيوط، على أنني لم أستطع التقاط جميع الجزئيّات، فكما يقول أوكتافيو باث: بين ما أراه وما أقوله، وبين ما أقوله وما أصمت عنه، وبين ما أصمت عنه وما أحلم به، وبين ما أحلم به وما أنساه، هناك يكون الشعر
قراءة 2
في قصيدة "تقمّص"، يقول الشاعر نمر سعدي
آهِ يا ميمُ ماذا تقولينَ لي؟
أنني ربمَّا أتقمَّصُ نجماً صغيراً من القطنِ في كاحلِ الماءِ
أو كحلِ أحلى الفراشاتِ يا ميمُ؟
أو ربَّما أتقمَّصُ حلماً من الليلكِ الرخوِ في قُزَحِ العُشبِ؟
يا ميمُ ماذا تريدينَ من عطشِ الأغنياتِ
وفيكِ الينابيعُ تركضُ مبهورةً بالأشعَّةِ؟
هذا أنا العربيُّ الشقيُّ الذي قصمَ الوردُ صبحَ النوارسِ فيَّ
ولستُ شبيهي الرومانسيَّ
لستُ أنا الشاعرَ الانجليزيَّ ما قبلَ قرنينِ
يا ميمُ لستُ أنا اللوردَ بايرونَ ولستُ أنا أنا
ربَّما أنا أنتِ
تهيمن على القصيدة التساؤلات، فماذا يتقمّص الشاعر ومَن؟ هل يتقمّص نجماً صغيراً، أم حلماً من الليلك؟ وهل هو الشاعر الإنكليزيّ قبل قرنين؟ لا. هل هو اللورد بايرون؟ أيضاً لا... ولماذا اللود بايرون تحديداً؟ واللورد بايرون رمز من رموز الرومنسية وحرّية الشعوب... حتى يصل الشاعر إلى قمّة القصيدة ليعلن أنه لا يعرف نفسه عندما يقف أمام مرآته، فليس هو هو، في المنطق الأفلاطوني، بل هو غير ذلك، هو الحبيبة، ميم نفسها، التي تقمّصها فتداخل الحبيبان كالعطر في الليلك، وكالأشعة في الينابيع
التقمص هنا ليس ولادة بعد الموت، بل هو حياة في حياة. حياة الشاعر في حياة حبيبته ووجودها في وجوده
ولا أخفي أن هذ الفكرة: “التوحّد بين الحبيب والحبيبة" قد وردت كثيراً في الشعر، وفي قواميس العشّاق، لكن الجوّ العام للقصيدة يوحي بأنّ التقمّص يأخذ شكلاً روحياً، فلا تلميح إلى جسد الحبيبة ولا إباحية أو عبث، فكأني بسعدي يقول مع المتصوف الكبير جلال الدين الرومي في قصيدة لشمس تبريز: إذا كنتَ أنتَ أنا وكنت أنا أنت، فما هذا الانفصال بيننا؟ نحن نور الله، ومرآته، فلماذا نتعب مع أنفسنا والواحد مع الآخر؟ ولماذا يهرب ضوء من الضوء الآخر؟
قراءة 3
في القصيدة الآتية نقع على نوع آخر من الشعر، فالتفعيلة في القصيدة الأولى لم تكن منتظمة، بينما هنا نحن أمام شعر عمودي يلتزم بعدد التفاعيل وترتيبها في بحر البسيط
الأقحوانةُ.. عطرُ الماءِ.. شهوتُهُ
المرأةُ.. النورسُ.. الحوريَّةُ.. الرشأُ
يبكي على يدِها من عشقهِ برَدى
وينتهي في حوافيها.. ويبتدئُ
تُعلِّمُ الشبقَ الفضيَّ في شفتي
طيورُها.. كيفَ حولَ النارِ ينطفئُ
الياسمينةُ أجلوها.. فينثرني
صوَّانُها الرخوُ.. أو يعلو دمي صدأُ؟
تسقي خطايَ فراشاتِ البحارِ ولا
تهذي بغيرِ شظايا.. ما هو الظمأُ؟
قصيدتي جرَّها الفاشيُّ حافيةً
من شعرِها.. والندى الجوريُّ يهترئُ
أكلَّما خمشَتْ عصفورةٌ عُنُقي
جاءَ ابنَ زيدونَ من ولَّادةٍ نبأُ؟
ضحكُ الدمشقيَّةِ الغيداءِ يغسلني
بلهفةِ الدمعِ حتى لستُ أنكفئُ
أروادُ فيها بعينيها تُعاتبُني
وليسَ تغفرُ لي نسيانَها سبأُ
نقع في القصيدة على رويّ الهمزة، وهو روي لم يُستخدم كثيراً في الشعر العربي، على الرغم من جماله، ولعلّ السبب في ندرة استعماله هو قلة وجود ألفاظ تتضمن هذا الروي. لكن الشاعر نمر سعدي استفاد من تجربته الفذّة لكي يحشد تلك الألفاظ من غير أن يكون هدفه القافية، فجاءت الهمزة محبّبة طيبة، وجاء استخدامها عفوياً طليقاً، حفراً وتنزيلاً - كما يُقال
في القصيدة ثلاثة أمكنة، هي الشام، ودلالتها: بردى، الياسمينة، الدمشقية... والأندلس، ودلالتها ابن زيدون وعشيقته ولادة بنت المستكفي... واليمن ودلالتها سبأ. ولست أعرف ما هو الرابط بين الأمكنة الثلاثة، لكنها على تباعدها الجغرافي تعكس وجوهاً لحالة واحدة، حالة الشاعر في حبّه واشتياقه وشغفه... ولو سمع المتلقي هذه القصيدة لما استطاع إدراك أبعادها بسهولة، فالعصر ليس عصر امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة أو المتنبي، بل هو عصر الحداثة التي تنفتح مساحتها أمام التعبير، ولا أفق لحرية الشاعر فيها، وعن هذا يقول د. فالح الحجية في مقالة له بعنوان "القصيدة العربية بين الحداثة والمعاصرة”: إن الشعر معرفة انسانية تحمل معطيات الرؤية والاحساس النابع من القلب. وهذا الاحساس المعني هو المصدر الوحيد لمعرفة الأشياء في هذا العالم الذاتي، أي إنّ الشعر الذي ينبثق من الروح اللاعقلية واللاتصورية مضاد لكل تفسير منطقي. أي إن ما عناه الشاعر ربما يبقى مبهما عند الآخرين وربما يحقق المقولة المعروفة (المعنى في قلب الشاعر)
بيد أن هناك بعض الأبيات في قصيدة الشاعر نمر سعدي التي يمكن قراءتها بسهولة
قصيدتي جرّها الفاشيّ حافية من شعرها... والندى الجوريّ يهترئ
وهكذا يتداخل الواقعي والذاتي بالرمزي والغريب في كوتيل متناسق لا يفسد للشعر قضيّة
لقد أمتعني الخوض في شعر نمر سعدي الذي يصف نفسه بأنه "مناضل في الحياة"، وينفي عن نفسه صفة "شاعر كبير"، لكن ليسمح لي بأن أعبّر عن رأيي بحرّية، فسعدي من شعراء قلّة وقدوة في عالمنا العربي اليوم، يحافظون على الشعر من الاندثار، ويحرصون على الأصالة من غير تفريط بضرورة الحداثة. وسعدي، الشاعر الكبير، لا يذهب إلى قصيدة النثر كما يفعل كثيرون لخوفهم من التفعيلة، فهو الملاّح الذي يرتاد البحر هادئاً كان أم هائجاً، فيدرك أبعاده ويحمل منها غنائم وفيرة، ويعود من رحلته وقد عركه الصراع مع العاصفة، لكنه غنيّ بما ملكت يداه من كنوز الخيال وثراء الروح
"تعلّق قلبي طفلة عربيّة" لامرئ القيس
قمّة التجديد في شعر عربيّ قديم
الدكتور جميل ميلاد الدويهي
نقف في مطالعتنا هذه عند واحدة من أشهر قصائد امرئ القيس الكنْدي: "تعلّق قلبي طفلة عربيّة"، لكي نتحدّث عن الشعر الشعر والإعجاز الإعجاز.
وفي رأينا المتواضع أنّ امرأ القيس قمّة لا يطالها شاعر آخر عاش قبل الإسلام إلاّ بشقّ النفس. وقد حذا حذوه شعراء كثيرون، وتلمّسوا طريقته في عصور لاحقة، فتجديده بحر من أيّ الجهات أتيته، وكان العصر محدود الوسائل والأشكال، والشاعر يأخذ أوصافه من البيئة التي عاش فيه. فإلى أيّ مدى جدّد امرؤ القيس في قصيدته؟ وما هي نواحي تجديده؟
من العدل أن نقول إنّ المطالع في عصر امرئ القيس لم تحد عن الوقوف عن الأطلال، وتلك طريقة شائعة، لا نلوم الشعراء عليها، ولكنّ امرأ القيس أراد أن يجدّد وأن يعطي شيئاً مختلفاً عن معاصريه، فحشد في المطلع مجموعة من النباتات والحيوانات التي تعيش في بيئته الصحراويه، في نظم إعجازيّ قلّ نظيره، بل لا نقع على مثله في الشعر العربيّ. وقد يقول قائل: لماذا يذهب امرؤ القيس في اتجاه الحشد اللفظي والتسميات، وكان يمكن أن يختصر؟ ونحن نجيب: إنّ الموسيقيين الكبار لم يختصروا في الموسيقى بل أفاضوا وانتقلوا من لحن إلى لحن غير عابئين بالوقت الذي تستغرقه السيمفونية. هكذا أراد امرؤ القيس من الحشد كأنّه يقول: "إفعلوا مثلي إذا كان في إمكانكم أيّها الشعراء":
"فانبتَ فيه من غشَنْض وغَشْنَضٍ ورونقِ رندٍ والصلنْددِ والأسلْ
وفيه القطا والبومُ وابنُ حبوْكَلٍ وطير القطاط والبلنْدد والحجل
وعنثلةٌ والخيْثوانُ وبرْسلٌ وفرخُ فريقٍ والرفلَّةُ والرفل
وفيلٌ وأذيابٌ وابن خويْدرٍ وغنسلةٌ فيها الخفيْعانُ قد نزل
وهامٌ وهمهامٌ وطالعُ أنجدٍ ومنحبكُ الروقَينِ في سَيرِه مَيَل."
إذن مجموعة طويلة وعريضة من الأسماء حشدها في تحّد للمقتدرين، وفي تقديرنا أنّ لا أحد سبقه ولا أحد لحقه في هذا الحشد الإعجازي. فالغشنض تبدو كلمة مستعربة وهي نبات صحراوي، والغشنض مثله، ورونق الرند نبات عطري الرائحة، والصلندد نبات أيضاً، والأسل شجر طويل له أشواك تصنع منه الرماح. والقطا ضرب من طير الحمام، والبوم طائر معروف، وابن حبوكَل (قد يكون ابن حبوكر) الذئب أو الثعلب، طير القطاط نوع من الطيور يشبه الحمام، والبلندد هو شجر ولكننا نعتقد أنّه من أسماء الحيوانات التي كانت معروفة في عصره وماتت التسمية. الحجل طائر معروف. عنثلة أنثى الضبع، والخيثوان ذكر الضبع، وبرسل من الحيوانات البرية (الضبع أيضاً)، وفرخ فريق ضبع صغير، والرفلّة أنثى ضبع طويلة الشعر والرفل ضبع طويل الشعر. والفيل معروف، والأذياب ذئاب، وابن خويدر ابن الحمار الوحشي، الخفيعان: الجراد، والهام طائر صغير، وهمهام: الأسد الشجاع، وطالع أنجد: الحمار الوحشي، ومنحبك الروقين: الثور ذو القرنين...
إنّ هذا التعداد يعتبره البعض ضرباً من ضروب الانحطاط في الشعر، لكنّه في جانب آخر إثبات لا ريب فيه على قدرة الشاعر التي لا تضاهى والتي لم يُسبق إليها في عصره من جهة وضع الألفاظ في إطار شعريّ وقالب مختصر.
وكأن الشاعر لم يكتف بهذه العراضة اللفظية، فذهب في بعض مفاصل القصيدة، وهو يتغزل بالطفلة العربية سلمى، ليكرّر تكراراً عجيباً لم نألفه في القصيدة الجاهلية:
"فهِيْ هيَ وهْيَ هِيْ وهِيْ هيَ وهْيَ هِيْ مُنى لي من الدنيا من الناس بالجمل
ألا لألا إلا لآليء لابث ولا لألا إلا لآليء من رحل
فكم كم وكم وكم؟ وكم كم وكم وكم؟ قطعت الفيافي والمهامة لم أمل
وكاف وكفكاف وكفّي بكفها وكاف كفوف الودق من كفّها انهمل
فلو لو ولو ولو، ولو لو ولو ولو دنا دار سلمى كنت اول من وصل
وعن عن وعن وعن، وعن عن وعن وعن أسائل عنها كل من سار وارتحل
وفي في وفي وفي، وفي في وفي وفي وفي وجنتي سلمى أقبل لم أمل
وسلْ سل وسل وسل، وسل سل وسل وسل وسل دار سلمى والربوع فكم أسل".
وإذا نظرنا إلى البيت الأوّل من هذه الأبيات نجد أنّ الشاعر يعطي أهمّيّة قصوى للصوت على حساب المعنى. فلفظة "هي" جاءت بثلاثة أشكال مختلفة "هِيَ" و "هْيَ" و"هِي"، لكي يستقيم الوزن. ولسنا ندري كيف استطاع الشاعر أن يحفظ هذا الشعر في زمن لم يكن فيه الشعر يكتب بل يحفظ. وقد يكون الغناء ساعده على هذا الحفظ، فهو شاعر غنّاء، كان يعاقر الخمرة بكثرة وينشد قصائده إنشاداً. والسؤال الذي يطرحه قارئ هذه الأبيات الغريبة في تركيبها اللفظيّ: هل كان امرؤ القيس يكرّر لمجرّد التكرار القبيح؟ أم كان يكرّر لغرض فنّيّ في استعراض لمهارة قلّ نظيرها؟
قد ينقسم الناس حول هذا الموضوع كما ينقسمون بين من يعتقد أنّ القصيدة تكون في معناها، وبين من يرى أنّ الشعر في مبناه وشكله وألفاظه. وبين هذا وذاك يتركنا امرؤ القيس في حيرة من أمرنا، لكنّنا لا نناقش في أنّه رائد التشكيل اللفظيّ الغريب الذي لا نرى مثيلاً له في عصر ما قبل الإسلام (الجاهليّ اصلاحاً).
وبعيداً عن الإطار اللفظي نتوجّه إلى معاني القصيدة لنكشف عما فيها من تجديد سبق عصره، فالتجديد الأبرز هو النرجسيّة غير المألوفة في عصر الشاعر الكنْديّ، فامرؤ القيس هو أوّل مصاب بداء النرجسيّة في الشعر العربي قاطبة، بل في التاريخ العربي كلّه:
"وقد كنت أسبي الغيد أمرد ناشئًا ويسبينني منهنّ بالدلّ والنقل..."
ويروي الشاعر لقاءه مع سلمى وأتراب لهافي حوار قصصي لم يسبقه أحد إليه:
"فقالت لأتراب لها: قد رميته فكيف به إن مات أو كيف يحتبل؟
أيخفى لنا إن كان في الليل دفنه؟ فقلنَ: وهل يخفى الهلال إذا أفل؟"
وبعد عشرات من السنين سيأتي شاعر أمويّ اسمه عمر بن أبي ربية، فيتأثر بامرئ القيس ويأخذ من حصاده، ففي قصيدته الشهيرة: "هل يخفى القمر؟" يسطو عمر على فكرة "هل يخفى الهلال إذا أفل؟"لامرئ القيس، كما ينشئ حواراً بين المرأة وأتراب لها، مستخدماً "قالت لأتراب لها" بعينها من غير خوف أو وجل، فاسمع عمراً بن أبي ربيعة وهو يقول:
"للتي قالت لأتراب لها قطف فيهن أنس وخفر
إذ تمشين بجو مؤنق نير النبت تغشاه الزهر... إلخ."
لقد ظُلم امرؤ القيس عندما أصبحت جملة "هل يخفى القمر؟" كلاماً شائعاًعند العرب، ولم تشع جملة: "هل يخفى الهلال إذا أفل؟"، فذاع البديل وأهمل الأصيل.
ولكي لا ينتقدنا أحد في ما نسوقه من تشابه بين امرئ القيس السابق وعمر بن أبي ربيعة اللاحق، نحيل أيضاً إلى معلقة امرئ القيس وفيها:
"فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمألِ"...
وإلى مطلع لعمر بن أبي ربيعة:
"هيّج القلب مغان وصير دارسات، قد علاهنّ الشجر
ورياح الصيف قد أزرت بها تنسج الترب فنونا ، والمطر..."
فـ"النسيج" من عمل الرياح، وهو واحد عند امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة الذي يسرق الكحل من العين كما تقول العرب.
ولا شكّ في أنّ امرأ القيس هو أبو القصّة الشعرية، وكثير من أشعاره قصصية:
"سموت إليها بعدما نام أهلها سمو حباب الماء حالاً على حال
فقالت: سباك الله إنك فاضحي ألست ترى السمار والناس أحوالي؟"...إلخ
"ولما دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت: لك الويلات إنّك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ"... إلخ
وفي القصيدة التي نناقشها يقول امرؤ القيس:
"وقلتُ لها: أي القبائل تنسبي لعلي بين الناس في الشعر كي أسل
فقالت: أنا كنديّة عربيّة فقلت: لها حاشا وكلا وهل وبل
فلمّا تلاقينا وجدت بنانها مخضّبة تحكي الشواعلَ بالشعل
ولا عبتُها الشطرنج خيلي ترادفت ورخّي عليها دار بالشاه بالعجل
فقالت: وما هذا شطارة لاعب ولكنّ قتل الشاه بالفيل هو الأجل"...
لقد كان امرؤ القيس مولعاً بالقصّة الشعريّة ورائدها الحقيقيّ، ويبدو أنّ عمراً بن أبي ربيعة أعجب بهذ الطريقة بعد كم من السنين فجعلها خطّاً له أيضاً.
وماذا عن شعراء آخرين أخذوا من امرئ القيس أيضاً؟
هذا هو الدارمي يعجب بامرئ القيس في قوله:
"لها مقلة لو انها نظرت بها إلى راهب قد صام لله وابتهلْ
لأصبح مفتونا معنّى بحبها كأن لم يصم لله يوماً ولم يُصلْ"
والدارمي هو ربيعة بن عامر، شاعر عباسي كفيف جاء بعد امرئ القيس بمئتي سنة تقريباً، ويقال إنّ بائع خمُر سوداء(أغطية رأس للنساء) كسدتْ بضاعته، فطلب من الدارمي أن يؤلف له شيئاً عن الخمارالأسود فيغنيه ويستطيع أن يبيع ما كسد، فقال له الدارمي غَنِّ هذا:
"قل للمليحة في الخمار الأسودِ ماذا فعلتِ بزاهدٍ متعبِِّدِ؟
قد كان شمّر للصلاة ثيابه لما وقفتِ له بباب المسجد
ردّي عليه صلاته وصيامه لا تقتليه بحقّ دين محمّدِ.
فذهب البائع وغنّى ما علّمه الدارمي فباع للنساء جميع ما معه من خمُر سوداء.
ونحن لا نرى في شعر الدارمي ما يختلف عما قاله امرؤ القيس، فامرؤ القيس يستخدم المقلة أي العين كأداة لإغراء الكاهن، والدارمي يستعمل الخمار الأسود وسيلة لإغراء رجل الدين المسلم (لم يكن الإسلام معروفاً في عصر امرئ القيس).
ونشير هنا أيضاً إلى تشابه لفظي ومعنويّ بين عنترة وامرئ القيس، وقد عاشا في زمن واحد تقريباً، فعنترة يقول في مطلع معلّقته:
"هل غادر الشعراء من متردّمِ؟ أم هل عرفت الدار بعد توهم؟"
وامرؤ القيس يقول:
"فلمّا عرفتُ الدار بعد توهمي تكفكف دمعي فوق خدي وانهمل"...
فهل أخذ عنترة عن امرئ القيس أيضاً؟ أم كان التعبير: "عرفت الدار بعد توهم" شائعاً في الجاهليّة بين العامة؟
وفي العصر الأموي يأخذ شاعر آخر هو يزيد بن معاوية من امرئ القيس بطريقة فاضحة، فيقول:
ولما تلاقينا وجدت بنانها مخضبه تحكي عصـاره عـــــندمِ
وما هذا البيت سوى تكرار شبه كامل لبيت امرئ القيس:
ولمّا تلاقينا وجدت بنانها مخضّبة تحكي الشواعلَ بالشعل...
أمّا وصف امرئ القيس للمرأة فلا يضاهيه أحد:
"تعلق قلبي طفلة عربية تنعّم في الديباج والحلي والحلل...
فتلك التي هام الفؤاد بحبها مهفهفة بيضاء درية القبل
كأنّ على أسنانها بعد هجعة سفرجلَ أو تفاحَ في القند والعسل
رداح صموت الحجْل تمشي تبخترا وصرّاخة الحجْلين يصرخنَ في زجل
غموض عضوض الحجْل لو أنها مشت به عند باب السبسبيّين لانفصل"...
إنها فتاة عربية غنية تتنعم بالديباج والجواهر الثمينة، بيضاء، مهفهفة، على أسنانها سفرجل أو تفاح ممزوج بالعسل وعصير القصب. تمشي تبخترا... ولعل أجمل بيت في هذا الوصف المجيد هو البيت الثالث الذي يصف الأسنان، وهو وصف ممتنع على أعظم الشعراء ولا يخطر في بال على الرغم من أنّ عناصره ماديّة وسهلة المنال.
ويساوي هذا البيت في جماله وانسيابه بيت آخر يصف فيه كيف عانق الفتاة حتّى تقطع عقدها:
"وعانقتها حتى تقطّع عقدها وحتى فصوص الطوق من جيدها انفصل
كأن فصوص الطوق لما تناثرت ضياء مصابيح تطايرنَ عن شُعل."
لله درّك يا امرأ القيس كيف تصف أحجار الطوق اللامعة وهي تتطاير كأنّها أضواء مصابيح تطايرت في ليل. عناصر مادّيّة رفعتَها إلى مستوى الروح وسحرت وأسكرت.
وتمضي أيّها الملك الضليل في قصّتك الشعريّة إلى النهاية لتروي لنا كيف لعبت الشطرنج مع الفتاة، وكنت تقبّلها في كلّ "دست"واحدة من القبل، فقبلتَها تسعاً وتسعين قبلة وواحدة أيضاً وكنت على عجل، كأنّك راكض إلى النار التي أعدّت للشعراء وأنت قائدهم إليها:
"فقبّلتها تسعاً وتسعين قبلةً وواحدة أيضاً وكنتُ على عجل"...
وعندما تغادر في عجلة من أمرك تتركنا مبهورين ومندهشين من قصيدة هي من أبدع ما قيل في الشعر العربي، وفيها من التجديد ما يسبق عصره، ويجعلك في طليعة الشعراء العباقرة والمتمرّدين على القوالب في تلك الحقبة من الزمن.
هدى بركات في رواية "ملكوت هذه الأرض"
تستغلّ فصولاً من نزاع غابر ويلزمها معلِّم تاريخ
د. جميل الدويهي
لم أقرأ في حياتي ما هو أضعف من الكتابة الروائية لهدى بركات في روايتها "ملكوت هذه الأرض"، وإني لأعجب كيف أن كاتبة بهذا الأسلوب الأدبي تحصّلت على جوائز وأشاد بها نقّاد التبخير (الرواية نُشرت عام 2012، ودخلت في القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2013، المعروفة باسم «جائزة بوكر العربية»). . هدى بركات تعيش في باريس على حد علمي، ولا ريب في أنها قرأت أعمال راسين وهيجو ولامارتين وألبير كامو، وتشرّبت من الذوق الفرنسي والإحساس الإنساني الذي تتميز به أعمال الفرنسيين، وهم صنّاع الثورة الكبرى وعباقرة المذاهب الأدبية على مرّ العصور. القراءة بالفرنسية فيها الرقة والعذوبة، والكتابة بالفرنسية تعني الكتابة بأحمر الشفاه وبعطور "لانفان" وبحبر الكحل الأسود الذي يمتدّ كالسيف على محور الشانزاليزيه. ولكن ما يدهش أن عِشرة الأربعين يوماً للفرنسيين لم تغيّر ولم تبدّل في هدى شيئاً، ولا في كتابها الروائي الذي لا أصنفه في مستوى صحف "التابلويد". وأين لغتها ورقتها وشفافيتها من تلك التي لجبران خليل جبران، فتى الحرّية والمساواة وحقوق الإنسان، وأديب العبقرية الفذة؟ ففي كتابها "ملكوت هذه الأرض" ترتكب هدى بركات خطأ فادحاً، حيث تنزلق الكتابة إلى مستوى كلام العامّة وتجريح المشاعر الذي لا يستثني أحداً.
تستغل بركات استغلالاً هزيلاً بعض فصول النزاع الغابر بين بعض من أبناء إهدن-زغرتا وبعض أبناء بشري (زغرتا وإهدن قريتان متباعدتان جغرافياً يسكنهما شعب واحد)، والنزاع ليس نزاعاً تاريخياً ولا عقائدياً، بل هو تنافس على المساحات الزراعية والمياه والري في أراض تتداخل بين البلدتين في زمن لا نذكره نحن بل يذكره أجدادنا. ونحن نعرف أن القرى المجاورة في لبنان تتنافر فيما بينها لأسباب مشابهة، حتى أن صراعات تدور بين أبناء البلدة الواحدة على قطعة أرض أو نبع للمياه.
وليس جديداً أن نذكر أنّ بين بشري وإهدن أواصر عميقة من الوحدة التاريخية التي يحتمها المصير الواحد والمعتقد والتجذر في الأرض، وكذلك من أواصر الصداقة والمصاهرة. وسأذكر للكاتبة بعض الفصول التاريخية لتبيان حقيقة العلاقة بين البلدتين:
- في عام 694 م. هاجم الجيش البيزنطي لبنان (في عهد جوستنيان)، بقيادة مرقيان ومرقيانوس، فتصدى له أهل الجرد (من غير تمييز) وقتلوا القائدين البيزنطيين في معركة أميون الشهيرة. وكان بين المقاتلين الموارنة رجال من بشري وإهدن يدافعون عن البطريرك مار يوحنا مارون جنباً إلى جنب.
- في عام 1759، أراد الحماديون قتل حكّام إهدن والجبة وهم: الشيخ حنا ضاهر كيروز، والشيخ عيسى الخوري رحمه (من بشري) والبطل الإهدني الشيخ جرجس بولس الدويهي والشيخ أبو سليمان عواد (من حصرون)، وقام آل حمادة بمهاجمة القادة المذكورين بعد خروجهم من اجتماع، ففشل الهجوم، ولكن المهاجمين تمكنوا من قتل الشيخ أبو ضاهر من قرية حدشيت. وانتقم الحماديون بأن قتلوا عدة أشخاص عزّل في بلوزة وعنطورين ورجلاً أعمى في حدشيت. ثم ارتدّوا على إهدن، فوعظ المطران يواكيم يمين في الاهدنيين وطلب منهم الاستعداد للمعركة التي انتصر فيها الإهدنيون انتصاراً مجيداً، وفي اليوم التالي احتشدت في إهدن جماهير من القرى المجاورة، وخصوصاً بشري، بينما كان القادة الشيخ جرجس بولس الدويهي، الشيخ حنا ضاهر كيروز والشيخ عيسى الخوري رحمه، والشيخ أبو سليمان عواد، والشيخ يوسف الياس من كفرصغاب والشيخ أبو خطار الشدياق من عنطورين يعقدون اجتماعاً في إهدن ويقررون استلام مقاليد القيادة مكان الحماديين في الجبة وإهدن... إلخ... وعينوا كذلك 3 قادة عسكريين للمقاومة في المنطقة هم: الشيخ بشارة كرم من إهدن، والشيخ أبو ضاهر الفرز من بشري وأبو الياس العفريت من حصرون...
- في عام 1762 هاجم الحماديون بشرّي فقتلوا العديد من الأشخاص وهدموا بعض المنازل، فطلب أهالي بشري وحصرون من جيرانهم الإهدنيين المساعدة في رد الهجوم، فصعد الشيخ بشارة كرم، وكان واحداً من القادة العسكريين في المنطقة وأغار على الحماديين، ودامت المعركة 8 ساعات قاتل فيها البشراويون والإهدنيون كتفاً على كتف، وخرج الحماديون من الجبّة مرة أخرى. ويقول عصام كرم في كتابه "تاريخ سيدة بشوات" إن بشري هوجمت من قبل ألف مقاتل مدججين بالسلاح. وفوجئ الموارنة بالهجوم الكبير، لكن زعيمهم الديني البطريرك طوبيا الخازن جمع الموارنة في الكنائس وحضهم على المقاومة... وأعلن الموارنة النصر بقيادة الشيخ بشارة كرم. (ص 41-43)
ولن نذكر جميع المواقف والمعارك التي وقف فيها البشراويون والإهدنيون جنباً إلى جنب لكي تعترف الكاتبة هدى بركات بأنها لم تقرأ التاريخ، وعجباً كيف تبني قصتها على وقائع تاريخية وهي بعيدة كل البعد عن معرفة الحقيقة؟ ولا تختلف بركات هنا عن الكاتب جهاد فاضل الذي يقول عن أهل زغرتا في كتابه "الأدب الحديث في لبنان" "إنَّ أهل زغرتا مشهورون بالسيف أكثر ممَّا هم مشهورون بالقلم، يقتل أحدهم القتيل دون أن يرفَّ له جفن". ويضيف فاضل: "إنَّ أهل زغرتا لا يعرفون التمثيل أبداً. فيدُهم سرعان ما تمتدَّ إلى وسطهم لالتقاط مسدَّس، أو إلى أيِّ مكان قريب لالتقاط رشَّاش أو أيَّة آلة حربيَّة." ومثل هذه الادعاءات الرخيصة إنما تقوم على التقاليد الشعبية والقصص والطرائف التي تقدّم صورة عن إهدن وأهلها غير صحيحة إطلاقاً، وقد يكون بينهم بعض القتلة والفارين من وجه العدالة كما في جميع أنحاء الدنيا. وما يدهش أن مثل هؤلاء الكتّاب يعممون الفكرة، "فأهل زغرتا" جميعهم في نظر فاضل مثلاً مشهورون بالسيف وسرعان ما تمتد يدهم إلى وسطهم لالتقاط مسدس، بمن فيهم البطريرك العلامة إسطفان الدويهي، والعلامة جبرائيل الصهيوني، والرسام صليبا الدويهي، والمؤرخ جواد بولس، وسلسلة البطاركة والمطارنة والكتّاب والشعراء والفنانين الذين أطلعتهم زغرتا.
ويا ليت هدى بركات كانت في مستوى جهاد فاضل، فهو على الأقل أعطى للإهدنيين صورة الشجعان، أما هي ففي قصتها "ملكوت هذه الأرض" فتصب كل اهتمامها على أمرين: الأول التركيز على "عداء "مزعوم وغير موجود بين إهدن وبشري، والثاني هو تصوير أنّ الإهدنيين جبناء ومهزومون دائماً.
وبسبب بشاعة المقاطع التي نستخدمها من القصة نفسها، فإننا نعتذر مسبقاً من أهالي بشري وزغرتا معاً على تفاهة اللغة، وهزالة الوقائع، والطريقة البالية في التحريض عملاً بقول السيد المسيح: "طوبى لفاعلي السلام."
وليت هدى بركات عرفت أيضاً أن جبران البشراوي والعالمي كان يحب فتاة من إهدن اسمها ماري (مي) زيادة، وأنّ من أقام الجنازة لجبران في كنيسة الأرز- بوسطن بعد أن منعت الكنيسة دفنه هو المونسنيور إسطفان الدويهي. وليت هدى علمت أيضاً بمقدار الاحترام المتبادل بين العائلات الزغرتاوية والبشراوية في كل مكان من العالم، ولي شخصياً بين البشراويين صداقات وعهود على الوفاء. فعن أي ملكوت وعن أي أرض تتحدث هدى في روايتها، وهي شطرت الأرض الواحدة إلى قسمين، وطعنت ملكوت القيم في الصميم؟ وأي أدب تكتب هدى تحت أنظار فيكتور هيجو وفولتير وألفرد دوفينيي؟
ويبدو أن بركات تجهل أن تاريخ زغرتا حافل بالبطولات والمعارك المجيدة، إذ جعلت من الزغرتاويين قمة في الجبانة، يهربون من وجه أعدائهم، بينما هم في نظر الناس أينما كان مقاتلون شجعان حتى قيل عن الشجاع في أقصى بقاع الدول التي تتكلم العربية "رجل زْغِرت" والمصدر: زغرتا.
من الأمثلة التي نتوقف عندها في الكتاب (ص 71-72): "بعض الزغرتاويّين والهدّانة لكن من النساء فقط، عبرن الساحة إلى بقاعكفرا لكن متخفيّات بين نساء كفرصغاب وحدشيت..." تريد الكاتبة أن تظهر هنا النساء الزغرتاويات (وربما الرجال أيضاً) وهنّ يتخفين بين نساء القرى. وتتابع: "ان حروبًا قامت بين البلدتين دوماً وتكراراً ومن قديم الازمنة، حتى بين القديسين الشفعاء من الطرفين. لا نعترف أو نصلّي لقدّيسيهم ولا يعترفون أو يصلون لقدّيسينا. بل هم إن أرادوا ايذاءنا بالشتائم كالوا أقذعها لشفعائنا وقدّيسي كنائسنا ونحن لا نفعل ذلك... إلا نادراً". وهذا الكلام الذي يصدر عن كاتبة يفترض أن تكون راقية وعالِمة هو كلام مقيت يجانب الحقيقة، فجميع الناس يعلمون أن بين بشري وزغرتا قديسين مشتركين، فمار سركيس يوجد في المدينتين، كما أن سيدة زغرتا هي نفسها سيدة باشوات، وقد تكون الكاتبة، لسبب ما، لا تعرف أن هناك مريم عذراء واحدة، وكل قرية تطلق اسم السيدة على كنيستها، فحتى نوتردام دو باري هي ذاتها نوتردام دو زغرتا ونوتردام دو برج حمُّود.
أما عن اتهام الإهدنيين بالجبناء واستخدام ألفاظ من قواميس الإهانة والشتائم (واويَة، بناديق...) التي تتقنها هدى بركات في لغة أدبية "راقية" تستحق الجوائز والأوسمة أيضاً، فنحن نحيلها إلى غيض من فيض أمثلة تاريخية عن شجاعة الإهدنيين وبسالتهم في القتال، وقد دخلوا عشرات المعارك منذ ما قبل الميلاد، وكانت انتصاراتهم صارخة يعرفها الأقربون والأبعدون:
-في عام 1282 هاجم المماليك إهدن، فصمدت أربعين يوماً أمام جيش جرّار يعد بعشرات الآلاف، واضطر المماليك إلى الاستعانة بقوات إضافية من دمشق. ولولا حيلة لجأ إليها المماليك لاعتقال قائد المقاومة في البلدة لما سقطت إلى الآن. يروي الحريري وهو مؤرخ عربي أنّ المماليك تمكّنوا من استرجاع طرابلس من الصليبيّين فقط بعد أن سحقوا حلفاء الصليبيّين الموارنة (في معركة إهدن). وسار الجيش المملوكيّ الجرّار إلى الجبّة في أوئل عام 1282، وقاد المقاومة البطريرك دانيال من حدشيت، وأوقف أهالي إهدن والمقاتلون الموارنة الآخرون تقدّم الجيش المملوكيّ أكثر من 40 يوماً، ولم يستطع المماليك احتلال إهدن إلاّ بعد استعمال الخديعة لإلقاء القبض على البطريرك. (عن أبي عبد الله، عبد الله، ج 2، 1997، ص 98).
ويصف الأب بطرس ضوّ معركة إهدن ضدّ المماليك (1282) بأنّها واحدة من ثلاث قمم للبطولة في تاريخ لبنان برمّته. القمّة الأولى بحسب ضوّ هي مقاومة الإهدنيّين وسكّّان أطراف وادي قاديشا لهجوم المماليك... (ضوّ، بطرس، ج 3، 1977، ص 541)
- في عام 1489، أخرج الإهدنيون اليعاقبة الأحباش من إهدن ومناطق الجبّة وطاردوهم حتى خرجوا من لبنان نهائياً.
- معركة مطحنة الشيخ 1757 التي قادها البطل الإهدني جرجس بولس الدويهي لتحرير إهدن من الحماديين: فقد كانت إهدن مقسومة إلى قسمين، أحدهما يمتد من الميدان في وسط إهدن حتى نبع مار سركيس في شرقها ويخضع لآل حماده، وجمع الشيخ جرجس بولس الدويهي أقرباءه ورجال إهدن في اجتماع سرّي عند نبع جوعيت، وصادف عقد الاجتماع قدوم زعيمين من زعماء الحمادية إلى الجبة لاعتقال المطران يواكيم ونفيه إلى بعلبك، فقفز الرجال الإهدنيون إلى سلاحهم، وهاجموا الزعيمين مع رجالهما فقتلوهما ثم عادوا إلى كنيسة مار جرجس في إهدن فأقسموا اليمين على القربان المقدس بأنهم لن يلقوا السلاح قبل تحرير إهدن. وهكذا كان فنشبت معركة "مطحنة الشيخ الشهيرة" التي انهزم فيها الحماديون وحلفاؤهم آل حرفوش وغادروا إهدن نهائياً.
-معركة الكرامة 1976، في هذه الموقعة هاجم الجيش السوري زغرتا بأكثر من 8000 جندي بهدف احتلالها وتغيير مجرى الأحداث برمتها، وهوجمت زغرتا من ثلاث جهات، وتم إحباط الهجوم ومقتل المئات من المهاجمين الذين ظلت جثثهم مرمية تحت الزيتون لأيام. وعن تلك المعركة بالذات وخلفياتها وتأثيراتها كتب خليل الخوري في صحيفة "الشرق" اللبنانية ما يأتي:
"كان الضغط السوري - الفلسطيني العسكري قد بلغ ذروته على المناطق المسيحية... الدامور ودير عشاش... وكانت القوات السورية قد دخلت لبنان فعلاً ضد الفريق المسيحي، تحت شعار ولباس جيش التحرير الفلسطيني. وفي 21 كانون الثاني 1976 وصل في الصباح الباكر إلى القصر الجمهوري في بعبدا وفد سوري برئاسة وزير الخارجية عبد الحليم خدام وعضوية حكمت الشهابي نائب وزير الدفاع ورئيس الأركان وناجي جميل رئيس المخابرات الجوية. استقبلهم الرئيس سليمان فرنجية. قال خدام: "جايين نحل القضية". توافق ذلك مع سقوط السعديات معقل الرئيس كميل شمعون الذي غادرها، قبيل تدمير قصره فيها، بطوافة يقودها ضابط طيار من آل بوضرغم.... وجرى احتلال الدامور، وسقوط عندقت في عكار... حدث ذلك بعد نحو 24 ساعة على إستقالة حكومة الرئيس رشيد كرامي. وتوافق وصول الوفد السوري مع هجوم غير مسبوق ومعركة شرسة على زغرتا، وكان هدف الزيارة الفعلي الضغط على سليمان فرنجية ليقدم تنازلات بعد سلسلة سقوط المناطق المسيحية على أيدي الفلسطينيين المدعومين بشرياً ولوجستياً من سوريا ومن الإتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية كما يقول ويردد وليد جنبلاط باستمرار".
الخلاصة: فشل الهجوم على زغرتا التي أوقع شبابها وشباب منطقتها المدافعون عنها بضع مئات من القتلى في صفوف المهاجمين بقيت جثثهم أياماً في سهل الزيتون المحيط بزغرتا، خصوصاً من جهة أردة شرقاً... وفيما كان الإجتماع منعقداً وصلت الى القصر "هدية" كان فرنجية ينتظرها كناية عن بضع مئات من البطاقات العسكرية السورية التي تثبت أن القتلى من المهاجمين هم ضباط وعناصر من الجيش السوري ولم يكونوا من جيش التحرير الفلسطيني كما كانت بزاتهم العسكرية توحي بذلك. والأكثر: أوامر المهمة بالهجوم على زغرتا كانت بتوقيع عضو الوفد المفاوض في القصر حكمت الشهابي. (الشرق البيروتية 10/10/2013، عدد 19316)
ولن نطيل الحديث عن هذا الموضوع، لكننا نقول: لولا صمود زغرتا في تلك المعركة، وموقف الرئيس الراحل سليمان فرنجية لكان لبنان قد تغير برمته ولم يكن ما هو عليه الآن.
نكتفي بهذا القدر من الأمثلة عن شجاعة الزغرتاويين، وهي شجاعة لا تعرف عنها هدى بركات لأنها لم تقرأ التاريخ الصحيح، وهي تبني روايتها "الملائكية" على فكر حاقد، وعلى تقاليد مروية بين السكان ولا تستند إلى علم ودراية.
وتمضي الكاتبة في لغتهاالحريضية التي لا تراعي حرمة الموت ولا تلتفت للآثار النفسية التي تسببها الأحقاد ونبش القبور والنظر إلى الوراء، فاسمعها تتحدث بلغة تبعث على الغثيان عمن وصفتهم بـ "الأعداء" (ص 115، 116، 138 وما بعدها)، ومَن هم الأعداء ونحن أهل وأقرباء وليس في المسيحية عداوة، إلا عند الجهلة والذين لا فكر لهم؟ تقول الكاتبة الرفيعة:"ذلك أنّ ابطالنا قتلوا الكثيرين من الأعداء، ومنهم زعماء وشخصيات، في زغرتا وأطراف إهدن وحقالي مزيارة والخالدية. " عندما قرأتُ هذين السطرين عانيت من وباء قاتل يشبه الإيبولا، ونصحني الأطباء بملازمة الفراش، فليس من زغرتاوي واحد ولا بشراوي واحد يهضم هذه الطريقة التافهة في الكتابة، بل إن الأجيال الطالعة ترفض التعاطي السلبي مع الآخر، وتنظر بعين الأمل إلى المستقبل، والأديب (إذا كان أديباً فعلاً) يتعالى عن النميمة والبغض الأعمى الذي لا يتقنه إلا الجهلة. الأديب رسول يبشر بالسلام والحب ويزرع بذور الإنسانية في كل مكان. إن المجرمين أنفسهم يغتاظون عند قراءة أو سماع ما تكتبه بركات.
وتصل هُدى إلى مستوى غير مسبوق في الحنق واستذكار العهود المريضة، فتقول: (ص 146 ): "طلعت الضيعة بكاملها اليهم، إلى حدودنا معهم في بقوفا، وجهًا لوجه وليس استفرادا وخيانة... ظللنا نحاربهم حتى هربوا من متاريسهم فلحقناهم حتى إهدن وأحرقناها بالكامل... هم يقولون اليوم انهم كانوا في المشفى، في زغرتا، وإننا تمرجلنا (لاحظ ضعف اللغة) وأحرقنا ضيعة فارغة من اهلها... طيّب... والقتلى؟ من اين جئنا بهم؟ الجثث التي نظفناها وألبسناها الثياب اللائقة وصلّينا عليها قبل أن نردها لهم؟..." ولعل هدى تتحدث عن حريق عام 1586 الغامض حيث أحرقت إهدن على أيدي فاعلين مجهولين، وليس المهم الحدث، بل المهم هو الاعتزاز بإحراق إهدن وهي تريد إلباس الماضي على الحاضر بقولها "اليوم"، ومتى كان هناك مشفى في زغرتا ليكون الزغرتاويون فيه ولا يكونوا في إهدن، وزغرتا كان عمرها آنذاك عشرت السنين فقط؟ وتصل هدى بركات إلى قمة التحريض عندما تقول (مع اعتذاري الشديد لأهالي طرابلس جيراننا وأهلنا، ومن أحبائنا المسلمين (ص 147 و215): "قال إن ابنة البيك الزغرتاوي أتت تصرخ وتولول في الساحة التحتا... كل حياتهم يفاخرون بقوتهم، فلماذا يحتاجوننا اليوم وقد قتلوا منا اكثر مما قتلوا من الطرابلسية والاسلام بمئة مرة؟"
إني أشعر بالخجل والحياء وأطمر رأسي في الرمال رهبة واستنكاراً، وتجتاحني كومة من مشاعر العار والدمار وأنا أنقل هذا الكلام، فكيف لا يرفّ لكاتبته جفن وهي تكتبه؟ وإنني في أعمالي الأدبية التي لم تصل بعد إلى ما وصلت إليه أعمال هدى بركات، ولم تحصل على جوائز كما حصلت هي، أتفادي كل ما يسيء إلى أي إنسان، وأعتقد أن كل أديب يفعل ذلك. ويا حبيبنا جبران خليل جبران لا ترتقص عظامك في قبرها، وأنت لم تحظَ بالعطايا والهبات والجوائز، لأنّ الآخرين يأخذون الجوائز عنك، ولا تصرخ من ترابك المجيد: "النجدة النجدة" فقد بات كلّ من يحمل قلماً أكبر من شاعر، وأهم من أديب، وأعظم من فيلسوف، وعلى الأرض الظلام... ويا أبناء بشري الأحباء والأوفياء، سنبقى معاً في السراء والضراء، وعلى الحب والخير والسلام نحن واحد، وبئس الحقد الذي لا ربّ له ولا دين.
جميع الحقوق محفوظة للدكتور جميل الدويهي.
مَصــادر جبران الفكريَّة
مُصادفات أم اقتباسات؟
د. جميل الدويهي
من النادر أن تجد كاتباً أو مفكِّراً عربيّاً وصل إلى ما وصل إليه جبران خليل جبران من المجد والشهرة. فجبران عاش حياة أدبيَّة واجتماعيَّة وروحيَّة صاخبة، وترك آثاراً لا تُمحى في سجلِّ الثقافة الإنسانيَّة تدلُّ على عمق إبداعه ونظرته الثاقبة إلى الوجود والموجودات. ولكنَّ العديد من علامات التشابه بين جبران ومفكِّرين آخرين تطرح أكثر من علامة استفهام، وتجعلنا نتساءل: هل إنَّ تلك المتشابهات هي مصادفات متتالية أم هي اقتباسات ناتجة عن إعجاب وتأثُّر بمبدعين كبار سبقوه أو عاصروه؟
وقبل أن نحاول إلقاء الضوء على تلك المتشابهات علينا أن نخوض في فكر جبران القائم على أعمدة متعدِّدة، أهمُّها الحرِّيَّة، الحقوق الإنسانيَّة، العلاقة مع الله، الحياة والموت، الخير والشرّ. وقد ارتفعت هذه الأعمدة في العديد من كتبه: كالعواصف، والأرواح المتمرِّدة، والمجنون، والسابق، والتائه، والنبيّ، وحديقة النبيّ... ومن المعروف على نطاق واسع أنَّ جبران تأثَّر، حين كان يدرس الفنَّ في أوروبَّا، بالشاعر والرسَّام الإنكليزيّ ويليام بلايك، ويبدو هذا التأثُّر في العديد من اللوحات التي رسمها جبران وفيها مظاهر العري البشريّ، والحياة في عالم آخر، والتواصل بين الخالق والمخلوق. ومَن يتأمَّل رسوم بلايك ذات الهويَّة الدينيَّة ولوحات جبران يعثر على تشابه صارخ، على أنَّ لوحات بلايك أكثر نضجاً وقيمة فنِّيَّة. كما أنَّ جبران يُكثر من مظاهر العري في لوحاته، بينما بلايك يخفِّف قدر الإمكان من طبيعة الجسد الإنسانيِّ. وهناك دلائل كثيرة على معرفة جبران لبعض قصائد بلايك ورسومه في السنوات الأولى من هجرته إلى بوسطن، وتلك المعرفة لم تكن عميقة وكاملة. وقد اطَّلع جبران أكثر فأكثر على أعمال ويليام بلايك في باريس، وربَّما في مشغل النحاّت رودان.
إضافة إلى ما سبق، لا بدَّ لنا من أن نذكر أنَّ بلايك كان يحمل ألقاباً تتماشى وشهرته الواسعة، ومنها لقب "النبيّ". وقد نشر العديد من الكتُب تحت عنوان: Prophetic Books أي الكتب النبويَّة ضمّنها قصائد يرى فيها أنَّ الشاعر نبيٌّ ويستوحي رسائل رؤيويَّة. وزعم بلايك أنَّه في عمر مبكِّر قد ظهر له رأس الله داخل نافذة، كما رأى في الرابعة من عمره النبيَّ حزقيال تحت شجرة. وجبران نفسه أخبر ماري هاسكل أنَّه التقى بيسوع مرَّات في الشرق، وكان يصف لها ملامحه وهيئته وثيابه.
ويُشبه جبران بلايك في اعتماده على الإنجيل المقدَّس، وثورته على الكنيسة، وعلى القوانين الاجتماعيَّة الصارمة التي وضعتها الأنظمة. وكما استخدم بلايك مدينة غولغونوزا Golgonooza ليبثَّ فيها تعاليمه، استخدم جبران مدينة أورفليس (والمدينتان المزعومتان تعبِّران عن أورشليم الجديدة). ويُعتقد على نطاق واسع أنَّ جبران استوحى عنوان كتابه "دمعة وابتسامة" من شعر لويليام بلايك يقول فيه: "إنَّ ما كان تافهاً في عيون البشر قد يحرِّضني على الدمع والابتسام."
وبعد عودة جبران من باريس عام 1910، كتب قصيدة "المواكب" التي تَظهر فيها تأثيرات أوروبِّيَّة وشرقيَّة متعددِّدة، ففي البيت الذي يقول: "إنَّما الناس سطور كُتبت لكن بماء" يعيد جبران صياغة ما قاله الشاعر الإنكليزيّ جان كيتس قبل أن يموت: "أحفروا على لوح قبري: هنا يرقد شاعر كتب اسمه بماء." وكان جبران معجباً بكيتس فاسمعه يقول: " ولو علم كيتس، ذلك البلبل الصدَّاح، بأنَّ أناشيده لم تزل تبثُّ روح محبَّة الجمال في قلوب البشر لقال: أحفروا على لوح قبري: هنا بقايا مَن كُتب اسمه على أديم السماء بأحرف من نار."
كما تظهر في "المواكب" دعوة جبران للعودة إلى الغابة، وهي عودة سبقه إليها جان جاك روسو ثمَّ الرومنسيُّون في فرنسا تحديداً، فاسمع جبران:
"هل تخذتَ الغاب مثلي منزلاً دون القصور؟" وكأنَّه ترك المدينة وذهب ليعيش في الغابة، مع أنَّه لم يغادر المدينة إلاَّ لماماً. وهذه الدعوة غير المنسجمة مع الذات تتوازى مع حنين روسُّو إلى الغابة حيث البراءة والسلام والحُبّ، فروسّو يعتقد أنَّ الإنسان كان بريئاً عندما كان يعيش في الغابة، ولكنَّ التحوُّل الأعمى إلى المدينة ألغى كلَّ نوع من أنواع الحُبِّ والولاء. وقد دأب الرومنطيقيُّون فيما بعد على تقديس الغابة، كما فعل لامرتين في قصيدة "العزلة"، وأبو القاسم الشابِّيّ في قصيدة "الغاب"، على أنَّ هذه الدعوات للعودة إلى أحضان الطبيعة لم تكن جدِّيَّة، إذ أنَّ أحداً من الرومنطيقيِّين لم يترك المدينة ويتوجَّه إلى الغابة إلاَّ في أوقات قصيرة ومحدَّدة، وطلباً للراحة.
أمَّا رمز الناي الذي يتكرَّر في قصيدة "المواكب"، فهو تعبير عن الحياة المستمرَّة، فالنغمة المتواصلة للناي توحي باستمرار الحياة والخلود، بينما ترمز الآلات المتقطِّعة كالبيانو إلى الحياة المتقطِّعة التي يكتنفها الحزن والمرض القلق والموت. ولعلَّ قول جبران:
"أعطِني الناي وغنِّ فالغنا سرّ الخلود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود"
هو خير دليل على صحَّة ما نقول، فالناي - كما يظهر من الألفاظ - يرتبط بالخلود، والبقاء وعدم الفناء. وقد سبق جبران إلى استخدام الناي جلال الدين الرومي، لكنَّ الناي عند الرومي يدلُّ على الرومي نفسه الذي يئنُّ لبعده عن محبوبه:
"استمع إلى الناي كيف يقصّ حكايته
إنَّه يشكو آلام الفراق...
اسمع الناي معرباً عن شكواه
بعد أن بات نائياً:
"مُذ قُطعتُ من منبت الغاب
والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي...
بعد صحبي ما ضقت طعم الرقاد..."
فالناي عند جبران هو الخلود، والناي عند الرومي هو الصوفيُّ الحزين. وتُوحي الترجمة العربيَّة لعنوان قصيدة الرومي : "أنين الناي" بأنَّ جبران استوحى قوله: "وأنين الناي يبقى" من شعر الرومي، وهذا التشابه قد يكون تورداً في الأفكار.
ومن الرومنطيقيِّين أيضاً استوحى جبران نظرته إلى الخير والشرّ، إذ يعتبر أنَّ الإنسان خيِّر ولا يفعل الشرّ إلاَّ إذا جاع أو عطش: "إنَّ الخير إذا جاع يسعى إلى الطعام ولو في الكهوف المظلمة وإذا عطش فإنَّه يشرب من المياه المنتنة الراكدة". فالرومنطيقيُّون يسامحون الخطأة والمجرمين ويُدافعون عنهم عملاً بقول السيِّد المسيح: "لا تدينوا لئلاَّ تُدانوا". أمَّا المرأة الزانية (مرتا البانيَّة) فيدافع عنها جبران ويختلق لها الأعذار الاجتماعيَّة كما فعل فيكتور هيجو في مسرحيَّته "ماريون دي لورم"، وفي "البؤساء" حيث اعتبر أنَّ المرأة (فانتين) اضطرَّت لبيع جسدها بسبب الجوع والحاجة واضطرارها للبقاء على قيد الحياة مع أولادها. وهذه النظرة لا تختلف عن نظرة جبران في مقالته الشهيرة "الخير والشرّ" حيث يعزو تحوُّل الإنسان من "خيِّر" إلى "خيِّر متألِّم" إلى الحاجة والظروف الاجتماعيَّة التي تضغط عليه.
وفي كتابه الشهير "النبيّ" يظهر تأثير الفيلسوف الألمانيّ فريدريك نيتشه جليّاً، وفي مواضع كثيرة، حيث يحتقر جبران الضعفاء، فيقول: "اليوم صرت أرى ضعفكم فترتعش نفسي اشمئزازاً وتنقبض ازدراء... أنا أكرهكم يا بني أمِّي لأَّنَّكم تكرهون المجد والعظمة." وادِّعاء جبران النبوءة ما هو إلاَّ تعظيم للذات التي يمكن أن تصير ذاتاً نبيَّة تعظ الناس ثمَّ تعود إلى "الجزيرة"، تماماً كما فعل نيتشه في "هكذا تكلَّم زرادشت" ثمَّ عاد إلى "جزُره السعيدة". وكما يودِّع نيتشه تلاميذه يودِّع جبران أهل أورفليس قائلاً: "إنِّي عائد إليكم مرَّة ثانية". وهذا الشغف بالعودة أي اللاموت يتكرَّر في "حديقة النبيّ": "سأحيا وراء الموت، وسأغنِّي في أسماعكم، حين تأخذني أمواج البحر عائداً إلى أعماق الخضمّ الأعظم. سأجلس إلى موائدكم من غير جسد، وسأذهب معكم إلى حقولكم روحاً خفيَّة، وسآتي إليكم وأنتم حول مواقدكم ضيفاً لا ترونه. إنَّ الموت لا يغيِّر شيئاً سوى الأقنعة التي تغطِّي وجوهنا."
وفي "حديقة النبيّ" - كما في "النبيّ" و"يسوع ابن الإنسان"- تأثيرات مسيحيَّة مهمَّة، حيث يتَّخذ "المصطفى" أي جبران نفسه تلاميذ يعِظهم ويخاطبهم ويرسلهم في كلِّ اتِّجاه، كما فعل المسيح قبل الصلب، وهؤلاء التلاميذ يبكون على المصطفى كما بكى تلاميذ المسيح. فاسمع جبران يوصي تلاميذه قائلاً: "إذا سرقوكم، وكذِبوا عليكم، وخانوكم، وعاملوكم بقسوة، وسجنوكم ثمَّ سخروا منكم، فانظروا من أعلى ذواتكم الكبرى وابتسموا، لأنَّكم تعلمون أنَّ الربيع سيأتي إلى حديقتكم لكي يرقص بين أوراقها..." وهذا الكلام يذكِّرنا بقول المسيح: "طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم وقالوا عنكم كلَّ كلمة شرِّيرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهلَّلوا لأنَّ أجركم عظيم في السموات..."
ونحن نعرف أنَّ جبران كان شغوفاً بالمسيح على الرغم من عدم اكتراثه بالطقوس المسيحيَّة، وكان يتمثَّل نفسه مصلوباً كالسيِّد المسيح. وهو يخاطب تلاميذه في "حديقة النبيّ" مرّات كثيرة قائلاً: "الحقّ أقول لكم". وهي الجملة التي كان يستخدمها السيِّد المسيح لمخاطبة الناس. وفي "النبيّ" تمثِّل قصيدة "المحبَّة" ترجمة ذاتيَّة لنصّ المحبَّة في إنجيل القدِّيس يوحنَّا.
ومن الديانة الزرادشتيَّة (الفارسيَّة القديمة) يأخذ جبران لفظة "المطرة"، والمطرة أو المترا في كتاب "النبيّ" هي المرأة التي تسأله فيجيب، بل هي تجريداً ماري هاسكل. وإذا عدنا إلى الديانة الزرادشتيَّة تجد أنَّ الميثرا Mithra إله ذو طبيعة عادلة، فهو الذي يحافظ على الحقيقة، ويحمي القطعان والحصاد ومصادر المياه. وقد خاطب جبران المطرة أيضاً في "حديقة النبي" فكتبها بالإنكليزيَّة Mist:
أيَّتها المطرة، يا أختي المطرة،
أنا وأنتِ الآن واحد
فأنا لم أعد نفسي
إنَّ الجدران سقطت
والسلاسل تقطَّعت
وقد ارتفعتُ إليك مطرة
ومعاً سنطفو في البحر...
من الواضح أنَّ جبران هنا لا يخاطب قطرة الماء، بل يخاطب امرأة سيتَّحد معها وسيتَّجهان معاً إلى الله-البحر الأعظم. إنَّها الميثرا – ماري هاسكل.
ومن الهندوسيَّة والبوذيَّة يأخذ جبران عقيدة التقمُّص، فهو يؤمن بأنَّ الإنسان يولد سبع مرَّات حتَّى يصل إلى الله. وفي النصّ الأوَّل من كتاب "المجنون" وعنوانه: "كيف أصبحت مجنوناً" يخبر جبران أنَّه أفاق من نوم طويل فوجد أنَّ أقنعته السبعة التي تقنَّع بها في حيواته السابقة قد سُرقت، فأخذ يركض في الشوارع ويصيح: اللصوص الملاعين سرقوا أقنعتي، فأخذ الناس يهربون منه. وكان هناك شابٌّ واقفاً على سطح منزله فأصبح يقول: أنظروا أيّها الناس، إنَّ هذا الرجل (جبران) مجنون، فنظر جبران إلى الشابّ فرأى الشمس، ولم يعد في حاجة إلى أقنعته.
إنَّ شرح هذا النصّ الرمزيّ القصير يؤكِّد رؤية جبران للحياة سبع مرَّات وصولاً إلى الشمس أي الله. وقد أخبر جبران ماري هاسكل عام 1911 أنَّه وُلد عدّة مرّات في سورية، وفي إيطاليا، واليونان، ومصر، والعراق والهند وإيران. كما أخبرها أنَّه أنجز واحدة من لوحاته وكتب قصيدة مشهورة وهو طفل صغير، بمعنى أنَّه كان يتقن الرسم والشعر من حيوات سابقة. ووردت فكرة التقمُّص في العديد من كتابات جبران، وأشهرها كتاب "السابق" الذي يركِّز في مجمله على هذا المعتقد، فيبدو جبران كائناً خالداً لا يموت بانتهاء عمره. ولسنا ندري لماذا اختار جبران أن يكون عدد حالات التقمُّص سبعاً، ولكنَّنا نعلم أنَّه تعرَّف بالتقمُّص عندما سكنت أسرته الفقيرة، أوَّل وصولها إلى الولايات المتَّحدة، في الحيِّ الصينيّ بمدينة بوسطن، حيث سمع بالتقمُّص من أترابه الصينيِّين والهنود. وقد سبق جبران إلى فكرة التقمُّص أبو الشعر الأميركيّ والت ويتمان (فلسفة الخلوديَّة) الذي يعتقد أنَّ الإنسان يتقمَّص إلى ما لا نهاية. كما أنَّ نيتشه آمن بأنَّ عجلة الكون تدور إلى الأبد، وحياة الإنسان تعود إلى ربيعها كما في الطبيعة حيث لا انتهاء. ووردت فكرة التقمُّص عند ميلتون الذي اطَّلع جبران على بعض أفكاره، وكذلك عند أمرسون تحت عنوان The Over-Soul أي ما فوق الروح.
أمَّا توحُّد الإنسان مع الله في نهاية رحلته الكونيَّة، فليس جديداً في الثقافات الشرقيَّة، حيث نجد الحلاّج وجلال الدين الرومي والسهروردي وغيرهم من الصوفيِّين يؤمنون باتِّحاد الخالق مع المخلوق: الحلوليَّة Pantheism. وانتقلت هذه الفكرة إلى سبينوزا وغوته. وعن هذا الاتِّحاد يعبِّر جبران في "حفَّار القبور" (العواصف) بقوله:
"أنا ربُّ نفسي، ولدت في كلّ مكان، وفي كلِّ زمان."
وفي "حفَّار القبور" أيضاً يرى جبران "أنَّ بليَّة الأبناء في هبات الآباء، ومَن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه وأجداده يظلُّ عبد الأموات حتَّى يصير من الأموات". وهذه النظرة تشبه نظرة أبي العلاء المعرِّي في قوله: "هذا جناهُ أبي عليَّ وما جنيت على أحد". فأبو العلاء يلوم والده لأنَّه أعطاه الحياة وهي بليَّة وصلت إليه ولم يرتكب أيَّ خطيئة لكي يُعاقب بها. وكان جبران معجباً بأبي العلاء المعرِّي، وقد بنى جبران أقصوصة على قول أبي العلاء:
"ولمَّا رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلتُ حتَّى قيل إنِي جاهلُ."
والأقصوصة التي جاءت في كتاب "المجنون" بعنوان "الملك الحكيم" تتحدَّث عن ساحرة جاءت إلى إحدى المدن وألقت في بئر المدينة قطرات من سائل عجيب، فشرب الناس من الماء وجُنّوا . أمَّا ملك المدينة فلم يشرب وظلَّ عاقلاً، فاحتجّ الناس وتظاهروا، واتَّهموه بالجنون، فاضطرّ أن يشرب من البئر ليصير مثلهم، فسكنوا واعتبروه عاقلاً. القصة نفسها هي أسطورة قديمة قد يكون منشؤها التيبت. وأعاد توفيق الحكيم صياغتها في مسرحيته "نهر الجنون" كما كتبها باولو كويلو في روايته "فيرونيكا تقرر أن تموت".
تشبه دعوة جبران إلى العدميَّة في "حفَّار القبور" و"جمال الموت" دعوة أبي العلاء الذي يعتبر أنَّ الناس لا يستحقُّون الحياة، فاسمع جبران الشبح يقول لجبران الثاني (انفصام الشخصيّة):
"اتَّخذْ حفر القبور صناعة تريح الأحياء من جُثث الأموات المكردسة حول منازلهم ومحاكمهم ومعابدهم."
فالناس في نظر جبران أموات منذ الولادة وينتظرون من يدفنهم.
وفي "حفَّار القبور" نفسها اتّجاه دادائيّ فوضويّ، إذ يطلب الشبح من جبران أن يطلِّق زوجته ويتزوَّج صبيَّة من الجنّ لا تُرى ولا تُلمس، كي تنقرض الإنسانيَّة، بينما يكون دور جبران في النصّ أن يدافع عن القيَم التي تحكم المجتمع. ثمّ يسأله الشبح عن دينه، فيجيب جبران بأنَّه يؤمن بالله ويكرم الأنبياء ويحبّ الفضيلة وله رجاء بالآخرة، فينتفض الشبح قائلاً: "هذه ألفاظ رتَّبتها الأجيال الغابرة ووضعها الاقتباس بين شفتيك." وهذا الكلام يشبه كلام تريستان تزارا زعيم المدرسة الدادائيَّة الذي يعتبر أنَّ القيَم جميعاً كانت في أزمنة سابقة حاجات إنسانيَّة، أمَّا الآن فلا بدّ من هدمها وتكنيسها. ونحن نعرف أنَّ المدرسة الدادائيَّة فرضت نفسها في أوروبّا وأميركا بين عامي 1916 و 1921. ولا ريب في أنَّ شظايا تعاليمها وصلت إلى جبران الذي كتب العواصف عام 1920، أي في ذروة انتشار الدادائيّة. ويمكننا إدراج قضايا الجنون التي دمغت كثيراً من كتابات جبران تحت مسمَّى الدادائيّة، فإنَّ كثيراً من الدادائيِّين كانوا يقومون بتصرّفات مجنونة (أرثر كرافان وجاك فاشيه وسلفادور دالي...)، كما أنَّ الدادائيَّة نفسها دُعيت بالمدرسة المجنونة، حيث أنَّ المنطق في مفهومها هو تعقيد وخطأ. ففي الجنون طريقة للإبداع، وفي رفض جميع القوانين وتحطيم الحواجز ردٌّ مناسب على الحرب (الحرب العالميَّة الأولى). يقول تريستان تزارا في موضوع الجنون:
"فليصرخ كل إنسان: هناك عمل تهديميّ، سلبيّ، جبّار يجب إنجازه، يجب الكنس، التنظيف. إنّ طهارة الفرد تبزغ بعد حالة الجنون، الجنون العدوانيّ، الشامل، الذي يصيب عالماً تُرك بين أيدي قطَّاع طرق يمزِّقون ويدمِّرون القرون" (بيان دادا 1918).
وجبران عندما يقول: "أبناؤكم ليسوا لكم"، وعندما يرفض القوانين التي تدين المجرم، وحين ينتقد الدين، ويسامح المرأة الزانية، ويدعو إلى الثورة على التقاليد الجامدة، إنَّما يناقض المنطق المعروف لدى الناس منذ قديم العصور. ولعلَّ شخصيَّة الشبح التي يراها جبران في "حفَّار القبور" تُشابه تلك الشخصيَّات التي اخترعها الكاتب الدادائيُّ الأميركيّ هوارد فيليب لاف كرافت H. P. Lovecraft الذي كان يخترع شخصيَّات مرعبة تثير الفزع تستولي على الأرض وتقتل الناس والحضارة. وقد عاصر جبران هذا الكاتب وقرأ له على الأرجح.
وهكذا نرى أنَّ جبران خليل جبران قد استوحى واقتبس من مصادر متعدِّدة، ولكنَّ ذلك في نظرنا لا يأتي في إطار السرقات الأدبيَّة كما يحلو للبعض أن يتَّهمه، بل في إطار التأثُّر المنطقيّ، في أجواء هيمنت عليها المذاهب الأدبيَّة، والحركات الاجتماعيَّة والسياسيَّة. فقد عاش جبران في الولايات المتّحدة في زمن مليء بالتناقضات: الرأسماليَّة والشيوعيَّة، القديم والجديد، الدين والكفر، التقليد والثورة. وشهدَ الحرب العالميَّة الأولى وتداعياتها، وخبرَ ردَّات الفعل المختلفة. وكانت الأجواء الثقافيَّة مشحونة في تلك الفترة، وبرزت مفاهيم غير مألوفة وثورات دينيَّة واقتصاديَّة وروحيَّة، فلم يكن ممكناً أن يعزل نفسه عن تلك الظروف. وفي اعتقادنا المتواضع أنَّ تلك التأثيرات على ضخامتها لم تهيمن على فكر الكاتب، فبدا مستقلاًّ، وقدَّم كمّاً هائلاً من الأعمال المحترَمة التي عبَّرت عن شخصيَّته وأكَّدت فرادته ونبوغه. وإذا وضعنا في الميزان ما قدَّمه جبران من أفكار جديدة وما اقتبسه، تغْلب كفَّة الجديد والمبتكر على المقتبَس، وإذا كان في الناس مَن يصرُّ على رؤية العكس، فمن المؤكَّد أنَّه لا يحبُّ جبران ويريد انتقاده بأيِّ ثمن، أو أنَّه ينظر إلى أعماله بعين واحدة.
دراسة تحليليَّة للقصيدة "اليتيمة":
أقرب إلى الجاهليِّين وطريقة ذي الرمَّة
بقلم د. جميل الدويهي
تعدَّدت الآراء وتنوَّعت في شأن القصيدة "اليتيمة"، التي تُنسَبُ غالباً إلى دوقلة المنبجيّ، وهو شاعر مغمور، لا نكاد نعرف عنه سوى النزر اليسير. وقد أصابت هذه القصيدة شهرة ضربت الآفاق، حتَّى عُثر على مخطوط لها في الهند. وتجري بعض أبيات القصيدة على ألسنة الناس من غير أن يعرفوا مَن هو قائلها، مثل:
"فالوجه مثل الصبح مُبيضٌّ والفرع مثل الليل مسودُّ
ضدّانِ لما استجمعا حسُنا والضدُّ يظهر حُسنه الضدُ."
وقد سمِّيت القصيدة باليتيمة لأنَّ شاعرها لم يقل سواها في حياته، أو لم يُذكر له سواها، وقيل إنَّها يتيمة لشدَّة جمالها وروعة وصفها للمرأة. فما هي القصَّة المتداولة عن هذه القصيدة؟ وهل هي قصَّة منطقيَّة؟ وهل صحيح أنَّ دوقلة المنبجيّ هو بطلها؟
تتحدَّث القصَّة عن ملكة (أو أميرة) جميلة من بلاد اليمن اسمها دعد، وقد آلت على نفسها أن لا تتزوج من رجل إلاَّ إذا كان أفضل منها فصاحة وبياناً، فقصدها العديد من الشعراء، وأسمعوها ما نظموا من قصائد في مدحها ووصف جمالها، فلم يعجبها أحد. ووصل خبر تلك الملكة إلى شاعرنا، فنظم فيها قصيدة من حوالي ستِّين بيتاً، وامتطى بعيره قاصداً بلاد اليمن، فمرَّ في بعض قبائل العرب، فاستضافه رجل آخر، فروى المنبجيّ لصاحب الدار قصَّة الملكة وقرأ عليه القصيدة، فحفظها الرجل الآخر، وقرَّر أن يقتل الشاعر، ويزعم أنَّه هو الذي نظم القصيدة، وهكذا كان. وقضى الشاعر نحبه غدراً، وذهب السارق إلى الملكة، فألقى القصيدة أمامها، فعرفت أنَّه القاتل، وأمرت بقتله.
ولكن كيف عرفت المرأة أنَّ الذي قال فيها شعراً ليس هو الشاعر الحقيقيّ؟
يُقال: إنَّ الشاعر الأصليّ انتبه إلى أنَّ مضيفه يضمر له شرّاً، فأضاف إلى قصيدته بعض الأبيات التي تفضحه، ومنها:
إن تُتهمي فتهامةٌ وطني أو تُنجدي، إنَّ الهوى نَجْدُ
و
يا ليت شعري بعد ذلكم ومصير كل مؤمَلٍ لحد
أصريع كَلْمٍ أم صريع ردى؟ أردى وليس من الردى بُدُّ.
ويتَّضح من كلام الشاعر أنَّه من تهامة أو من نجد، بينما سارق القصيدة، فقد سألته دعد: من أين أنت؟ فأجاب: من العراق. كما أنَّ الشاعر يلمح في نهاية القصيدة إلى الموت، وكأنَّه يعطي إشارة إلى دعد بأنَّ الرجل الآخر اغتاله، وأخذ القصيدة منه.
وفي دراستنا للقصيدة، سنحاول إلقاء الضوء على بنيتها الفنّيَّة، وعلى نقاط الضعف في القصَّة التي تتَّصل بالقصيدة اليتيمة، وكذلك على نسبتها إلى دوقلة المنبجيّ أو غيره من الشعراء. وسنبدأ أوَّلاً بعرض القصيدة كاملة:
هَل بِالطُلولِ لِسائِل رَدُّ؟ أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ؟
درسَ الجَديدُ جَديدَ مَعهَدِها فَكَأَنَّما هو رَيطَةٌ جُردُ
مِن طولِ ما تَبكي الغيومُ عَلى عَرَصاتِها وَيُقَهقِهُ الرَعدُ
وَتُلِثُّ سارِيَةٌ وَغادِيَةٌ وَيَكُرُّ نَحسٌ خَلفَهُ سَعدُ
تَلقى شَآمِيَةٌ يَمانِيَةً لَهُما بِمَورِد ثرِّها سَردُ
فَكَسَت مواطرها ظَواهِرَها نَوراً كَأَنَّ زُهاءَهُ بُردُ
تندي فَيَسري نَسجُها زرَداً واهي العُرى ويغرُّهُ عقد
فَوَقَفت أسألها وَلَيسَ بِها إِلّا المَها وَنَقانِقٌ رُبدُ
وَمُكَدَّمٌ في عانَةٍ جزأت حَتّى يُهَيِّجَ شَأوَها الوِردُ
فتناثرت دِرَرُ الشُؤونِ عَلى خَدّى كَما يَتَناثَرُ العِقدُ
أَو نَضحُ عَزلاءِ الشَعيبِ وَقَد راحَ العَسيف بِملئِها يَعدو
لَهَفي عَلى دَعدٍ وَما حفَلت إِلّا بحرِّ تلَهُّفي دَعدُ
بَيضاءُ قَد لَبِسَ الأَديمُ أديـ م الحُسنِ فهو لِجِلدِها جِلدُ
وَيَزينُ فَودَيها إِذا حَسَرَت ضافي الغَدائِرِ فاحِمٌ جَعدُ
فَالوَجهُ مثل الصُبحِ مبيضٌ والفَرعُ مِثلَ اللَيلِ مُسوَدُّ
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا والضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ
وَجَبينُها صَلتٌ وَحاجِبها شَختُ المَخَطِّ أَزَجُّ مُمتَدُّ
وَكَأَنَّها وَسنى إِذا نَظَرَت أَو مُدنَفٌ لَمّا يُفِق بَعدُ
بِفتورِ عَينٍ ما بِها رَمَدٌ وَبِها تُداوى الأَعيُنُ الرُمدُ
وَتُريكَ عِرنيناً به شَمَمٌ وتُريك خَدّاً لَونُهُ الوَردُ
وَتُجيلُ مِسواكَ الأَراكِ عَلى رَتلٍ كَأَنَّ رُضابَهُ الشَهدُ
والجِيدُ منها جيدُ جازئةٍ تعطو إذا ما طالها المَردُ
وَكَأَنَّما سُقِيَت تَرائِبُها وَالنَحرُ ماءَ الحُسنِ إِذ تَبدو
وَاِمتَدَّ مِن أَعضادِها قَصَبٌ فَعمٌ زهتهُ مَرافِقٌ دُردُ
وَلَها بَنانٌ لَو أَرَدتَ لَهُ عَقداً بِكَفِّكَ أَمكَنُ العَقدُ
وَالمِعصمان فَما يُرى لَهُما مِن نَعمَةٍ وَبَضاضَةٍ زَندُ
وَالبَطنُ مَطوِيٌّ كَما طُوِيَت بيضُ الرِياطِ يَصونُها المَلدُ
وَبِخَصرِها هَيَفٌ يُزَيِّنُهُ فَإِذا تَنوءُ يَكادُ يَنقَدُّ
ولها هنٌ رابٍ مجسته وعر المسالك، حشوه وقـْد
فإذا طعنتَ، طعنت في لبدٍ وإذا نزعت يكاد ينسد
وَالتَفَّ فَخذاها وَفَوقَهُما كَفَلٌ كدِعصِ الرمل مُشتَدُّ
فَنهوضُها مَثنىً إِذا نَهَضت مِن ثِقلَهِ وَقُعودها فَردُ
وَالساقِ خَرعَبَةٌ مُنَعَّمَةٌ عَبِلَت فَطَوقُ الحَجلِ مُنسَدُّ
وَالكَعبُ أَدرَمُ لا يَبينُ لَهُ حَجمً وَلَيسَ لِرَأسِهِ حَدُّ
وَمَشَت عَلى قَدمَينِ خُصِّرتا واُلينَتا فَتَكامَلَ القَدُّ
إِن لَم يَكُن وَصلٌ لَدَيكِ لَنا يَشفي الصَبابَةَ فَليَكُن وَعدُ
قَد كانَ أَورَقَ وَصلَكُم زَمَناً فَذَوَى الوِصال وَأَورَقَ الصَدُّ
لِلَّهِ أشواقي إِذا نَزَحَت دارٌ بِنا ونوىً بِكُم تَعدو
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
وَزَعَمتِ أَنَّكِ تضمُرينَ لَنا وُدّاً فَهَلّا يَنفَعُ الوُدّ؟
وَإِذا المُحِبُّ شَكا الصُدودَ فلَم يُعطَف عَلَيهِ فَقَتلُهُ عَمدُ
تَختَصُّها بِالحُبِّ وُهيَ على ما لا نُحِبُّ فَهكَذا الوَجدُ
أوَ ما تَرى طِمرَيَّ بَينَهُما رَجُلٌ أَلَحَّ بِهَزلِهِ الجِدُّ
فَالسَيفُ يَقطَعُ وَهُوَ ذو صَدَأٍ وَالنَصلُ يَفري الهامَ لا الغِمدُ
هَل تَنفَعَنَّ السَيفَ حِليَتُهُ يَومَ الجِلادِ إِذا نَبا الحَدُّ؟
وَلَقَد عَلِمتِ بِأَنَّني رَجُلٌ في الصالِحاتِ أَروحُ أَو أَغدو
بَردٌ عَلى الأَدنى وَمَرحَمَةٌ وَعَلى الحَوادِثِ مارِنٌ جَلدُ
مَنَعَ المَطامِعَ أن تُثَلِّمَني أَنّي لِمَعوَلِها صَفاً صَلدُ
فَأَظلُّ حُرّاً مِن مَذّلَّتِها والحُرُّ حينَ يُطيعُها عَبدُ
آلَيتُ أَمدَحُ مقرفاً أبَداً يَبقى المَديحُ وَيَذهَبُ الرفدُ
هَيهاتَ يأبى ذاكَ لي سَلَفٌ خَمَدوا وَلَم يَخمُد لَهُم مَجدُ
وَالجَدُّ حارثُ وَالبَنون هُمُ فَزَكا البَنون وَأَنجَبَ الجَدُّ
ولَئِن قَفَوتُ حَميدَ فَعلِهِمُ بِذَميم فِعلي إِنَّني وَغدُ
أَجمِل إِذا طالبتَ في طَلَبٍ فَالجِدُّ يُغني عَنكَ لا الجَدُّ
وإذا صَبَرتَ لجهد نازلةٍ فكأنّه ما مَسَّكَ الجَهدُ
وَطَريدِ لَيلٍ قادهُ سَغَبٌ وَهناً إِلَيَّ وَساقَهُ بَردُ
أَوسَعتُ جُهدَ بَشاشَةٍ وَقِرىً وَعَلى الكَريمِ لِضَيفِهِ الجُهدُ
فَتَصَرَّمَ المَشتي وَمَنزِلُهُ رَحبٌ لَدَيَّ وَعَيشُهُ رَغدُ
ثُمَّ انثنى وَرِداوُّهُ نِعَمٌ أَسدَيتُها وَرِدائِيَ الحَمدُ
لِيَكُن لَدَيكَ لِسائِلٍ فَرَجٌ إِن لِم يَكُن فَليَحسُن الرَدُّ
يا لَيتَ شِعري بَعدَ ذَلِكُمُ ومحارُ كُلِّ مُؤَمِّلٍ لَحدُ
أَصَريعُ كَلمٍ أَم صَريعُ ضنى أَودى فَلَيسَ مِنَ الرَدى بُدُّ.
1- في البنية الفنِّيَّة: تبدو بنية القصيدة غير متماسكة، حيث أنَّها تبدأ بالوقوف على الأطلال (12 بيتاً)، ثمَّ تنتقل إلى التغزُّل بدعد (23 بيتاً)، فالحديث عن الوجد والحبّ (10 أبيات)، فالفخر بالذات (14 بيتاً)، فموضوع تمنِّي اللقاء (بيت واحد) وأخيراً الموت (بيتان). وهذا التنوُع في المواضيع كان شائعاً في العصر الجاهليّ، وانتقل إلى الشعر في العصر الأمويّ. وعندما ثار الشعراء في العصر العبَّاسيّ على نمطيَّة القصيدة القديمة، ومنهم بشَّار بن برد، ومسلم بن الوليد، وأبو نوَّاس، ظلَّ قليل منهم يبدأ بالوقوف على الأطلال، كما فعل البحتريّ في قصيدته التي مطلعها:
كم من وقوفٍ على الأطلال والدمَنِ لم يُشفِ من بُرحاء الشوقِ ذا شجَنِ.
أمَّا لغة اليتيمة فليست فريدة من نوعها، ونحن نخالف أغلب الدارسين الذين اعتبروا أنَّ اليتيمة سمِّيت بهذا الاسم لأنَّها يتيمة في جماليَّتها ولطافة تراكيبها. وتشكيكنا في هذه الجماليَّة ينطلق من عاملين اثنين:
-لأنَّ الوصف مادِّيٌّ في الغالب، تنقصه حرارة العواطف، ومسحة الحبِّ الصادق، كقوله:
وَالتَفَّ فَخذاها وَفَوقَهُما كَفَلٌ كدِعصِ الرمل مُشتَدُّ
-ولأنَّ الشاعر كتب عن امرأة لم يعرفها، ولم يرها، فجاء شعره تمثيليّاً باهتاً، غير إيحائيّ، كقوله:
وَزَعَمتِ أَنَّكِ تضمُرينَ لَنا وُدّاً فَهَلّا يَنفَعُ الوُدّ؟
والمعروف أنَّ دعد لم تزعم قطُّ أنَّها تضمر الودَّ للشاعر، فكيف يطالبها بالحفاظ على وعدها؟
وقد تكون جماليَّة القصيدة في مواضع محدَّدة متأتِّية من دقَّة الوصف الذي استخدمه الشاعر في وصف دعد من رأسها حتَّى أخمص قدميها، حتَّى أنَّه وصف أعضاءَها الخفيَّة:
ولها هنٌ راب مجسَّته وعر المسالك، حشوه وقـْد
فإذا طعنتَ، طعنت في لبدٍ وإذا نزعت يكاد ينسدُّ.
وكذلك تأتي الجماليَّة من بعض الأبيات الأخرى التي حفظها الناس على مرِّ العصور:
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا والضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدّ.
أمَّا الركاكة فتبدو في مواضع أخرى، كقوله:
فَالسَيفُ يَقطَعُ وَهُوَ ذو صَدَأٍ وَالنَصلُ يَفري الهامَ لا الغِمدُ
فماذا قال الشاعر من جديد في هذا؟ وهل من أحد لا يعلم أنَّ السيف يقطع وهو ذو صدإ؟ وهل غريب القول: إنَّ السيف يقطع الرأس من الجسد، بينما الغمد لا يقطع؟ وفي رأينا المتواضع إنَّ هذا الكلام غير مستملح، ولا يحتمل التكذيب، ولا يحرِّك المخيِّلة. والأمر نفسه في قول الشاعر:
وَمَشَت عَلى قَدمَينِ خُصِّرتا واُلينَتا فَتَكامَلَ القَدُّ. فالقول: "مشت على قدمين" حشو لفظيٌّ لا طائل منه، إذ من المعروف أنَّ الإنسان السويَّ يمشي على قدمين وليس على أقدام أربع.
أمَّا قوله:
أَوسَعتُ جُهدَ بَشاشَةٍ وَقِرىً وَعَلى الكَريمِ لِضَيفِهِ الجُهدُ
فَتَصَرَّمَ المَشتي وَمَنزِلُهُ رَحبٌ لَدَيَّ وَعَيشُهُ رَغدُ... ففيه تكرار ممجوج لإحدى القيَم الشائعة في العصر الجاهليّ، وهي حسن الضيافة، من غير إضافة أو تحسين أو تجميل، فمثله مثل قول طرفة في معلَّقته:
ولست بحلاّل التلاع مخافة ولكن إذا يسترفد القوم أرفد.
غير أنَّ كلام طرفة أكثر تركيزاً، وقد استطاع أن يقول في بيت واحد ما قاله شاعرنا في بيتين اثنين.
2-نقاط الضعف في القصَّة المرتبطة بالقصيدة: يبدو لنا أنَّ القصَّة المرتبطة بالقصيدة تحتوي على كثير من نقاط الضعف، بحيث أنَّها لا تصدَّق، فمَّن هي دعد الملكة في اليمن التي لم نعرف عنها شيئاً، مع أنَّ التراث العربيَّ حافل بالقصص عن اليمن وملوكها، وأخبارها، وغرائب سكَّانها، والكوارث التي حلَّت بها منذ الجاهليَّة الأولى؟ وما قصَّة "سدّ مأرب" وقصَّة "بلقيس ملكة سبأ" إلاَّ من الدلائل الواضحة على اهتمام المؤرِّخين العرب بأحوال اليمن وقصصه. ثمَّ كيف يجرؤ شاعر على أن يصف ملكة من الملكات بهذا الوصف الفاضح:
ولها هنٌ رابٍ مجسته وعر المسالك، حشوه وقـْد
فإذا طعنتَ، طعنت في لبدٍ وإذا نزعت يكاد ينسد
وَالتَفَّ فَخذاها وَفَوقَهُما كَفَلٌ كدِعصِ الرمل مُشتَدّ...؟
إنَّ الشاعر يعرف أنَّ وصف العضو التناسليّ للمرأة، وفخذيها العاريتين، ومؤخِّرتها الشديدة التي كدعص الرمل، لن يقوده إلى الزواج منها، بل سيقوده إلى الهلاك، كما حدث مع العديد من الشعراء الماجنين.
إضافة إلى ذلك، كيف استطاع الرجل الذي سرق القصيدة أن يحفظها بهذه السرعة وهي من ستِّين بيتاً؟ ولنفترض أنَّ الشاعر ألقاها ثلاث مرَّات أمام مضيفه، فهل ذلك يكفي لكي يحفظها؟ ولماذا يخبر الشاعر مضيفه عن أمر يخصُّه، وهو يعرف أنَّ ذلك قد يكلِّفه حياته؟ وأخيراً وليس آخراً، كيف عرف الشاعر أنَّ الرجل الآخر سيقتله، فأضاف أبياتاً ليفضحه؟ ولماذا لم يهرب بعد أن اكتشف ما يخبِّئه الرجل له؟
أمَّا النقطة الأهمّ فهي قول الشاعر:
إن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني أَو تُنجِدي إنَّ الهَوى نجدُ...
إنَّ ذكر تهامة ونجد لا يفيد في التعريف بهويَّة المنبجيّ، فتهامة ونجد منطقتان في الجزيرة العربيَّة، بينما الشاعر المفترض (دوقلة المنبجيّ) هو من حلب في الشام. وكان يمكنه أن يقول في القصيدة:
إن تشأمي، فالشام لي وطنٌ... إلخ.
أو
إن تشأمي، فالشام أرض أبي...
إنَّ شاعراً أجاد في وصف المرأة لن يكون صعباً عليه أن يضيف إلى القصيدة ما يدلُّ عليه أو على المكان الذي جاء منه، بدلاً من أن يضع نسبتين (تهامة ونجد) لا تدلاَّن عليه مطلقاً. ونحن نعرف أنَّ دوقلة عاش في منبج ودمشق ثمَّ في بغداد، ولا تروي المصادر القليلة التي تحدَّثت عنه أنَّه عاش في تهامة أو نجد.
وفي اعتقادنا أنَّ الرجل الذي سرق القصيدة كان يمكنه أن يحذف منها الأبيات التي قد توقعه في مأزق، فمن لديه قدر من العقل ليحفظ قصيدة من ستِّين بيتاً في فترة وجيزة، لن يكون صعباً عليه أن يحذف البيت الذي يدلُّ على أنَّه ليس من العراق (وهو من العراق).
3-في نسبة القصيدة: تبدو نسبة القصيدة إلى دوقلة المنبجي ضعيفة أيضاً، والقصيدة نُسبت إلى أكثر من أربعين شاعراً، منهم العكّوك، وأبو الشيص، وديك الجنّ الحمصيّ، وذو الرمَّة، فمَن هم هؤلاء الشعراء؟ وماذا نعرف عنهم؟
العكّوك هو شاعر عبّاسيّ أعمى، أسود البشرة، انصرف إلى المديح، ويقال إنَّ الخليفة المأمون قتله أو مات بطريقة طبيعيَّة. ولم نقع في ديوان العكّوك إلاَّ على النزر القليل من الغزل.
فإذا كان صحيحاً أنَّ دعد كانت موجودة في العصر العبَّاسيّ، وهو أمر مستبعد جدّاً، فإنَّ من غير المألوف أن يذهب إليها العكّوك، ليطلب يدها بناء على قصيدة في مدحها ووصف جمالها، والمعروف أنَّ العكّوك قتل على يد المأمون أو مات حتف أنفه.
لنقرأ من قصيدة العكّوك الهجائيَّة: يا بائع الزيت:
يا بائع الزيت عرِّج غير مرموقِ لتشغلنَّ عن الأرطالِ والسوقِ
من رام شتمك لم ينزع إلى كذبٍ في مُنتماك وأبداهُ بتحقيقِ
أبوك عبدٌ، وللأمِّ التي فلقت عن أمِّ رأسك هَنٌّ غير محلوقِ
إن أنتَ عدَّدتَ أصلاً لا تُسَبُّ به يوماً، فأمُّك منِّي ذاتُ تطليقِ...
الله أنشاك من نَوكٍ ومن كذبٍ لا تُعطفنَّ إلى لؤمٍ لمخلوقِ
ماذا يقول امرؤٌ غشَّاك مِدحتُه إلاَّ ابن زانيةٍ أو فرخُ زنديقِ؟
على الرغم من أنَّ لغة العكّوك مقذعة شاتمة، فإنَّ فيها من السهولة اللفظيَّة ما يُغني عن القواميس، بينما لغة "اليتيمة" فصعبة نافرة: ريطة، عرصات، نقانق، ربد، دعص، خرعبة، أدرم...
أمَّا أبو الشيص، فهو شاعر عبّاسيّ أيضاً، عاصر أبا نوَّاس، ومدح وتغزَّل فأجاد، وقد عَمي في آخر حياته. قال عنه الجاحظ:كان أحسن خلق الله إنشاداً، ما رأيت مثله بدويّاً ولا حضريّاً. قتله المأمون وكان عجوزاً، ومن شعره:
وقفَ الهوى بي حيث أنت فليس لي متـأخّـرٌعـنـه ولا مـتـقـدّمُ
أجد المـلامة فـي هـواك لـذيذةً حُبّاً لذكرك، فليلـمْـنـي الـلُـوَّم
أشبهت أعدائي فصرتُ أحـبـُّهـم إذ كان حظِّي منك حظِّي منـهـمُ...
بهذه اللغة العذبة يتكلَّم أبو الشيص، حتَّى قيل إنَّ أبا نوَّاس سرق منه وصارحه بذلك. ومن المعروف أنَّ الشعر العبَّاسيَّ اشتهر برقَّته وعذوبة ألفاظه، وطلاوة معانيه، فأين منه شعر "اليتيمة" وأغلبه حوشيّ مستغرب؟
ومن المستهجن فعلاً نسبة اليتيمة إلى ديك الجنّ الحمصيّ، وهو شاعر عبّاسيٌّ ماجن، عشق امرأة مسيحيَّة تدعى ورد حتَّى الجنون، ثمَّ تزوَّجها وذبحها بحدّ السيف لشدّة غيرته عليها، فضرب به المثل في الغيرة على المرأة.
أمَّا ذو الرمَّة فشاعر أمويٌّ بدويّ عاصر الفرزدق وجرير، وكان من عشَّاق العرب المشهورين، حيث أخَذتْ فتاة تدعى ميَّة بنت مقاتل عقله، وكان دميماً، قصير القامة، ومات في الأربعين من عمره، ومن يقرأ قصيدته الرائعة التي مطلعها: ما بال عينيك منها الماء ينسكب؟ يجد فيها وصفاً دقيقاً لميَّة يكاد يُقارب وصف شاعرنا لدعد، فنسبة اليتيمة إلى ذي الرمَّة أقرب إلى المنطق من نسبتها لأيِّ شاعر آخر. والمعروف أنَّ لغة ذي الرمَّة وحشيَّة جاهليَّة جافَّة، لا تختلف عن اللغة المستخدَمة في "اليتيمة".
ويبقى أن نحلِّل نسبة اليتيمة إلى دوقلة المنبجيّ، وقد نسبها إليه ابن خير الأندلسيّ في كتابه الفهرست، كما نسبها إليه ابن ثعلب. ودوقلة هو الحسين بن محمَّد المنبجي، أو هو في مصادر أخرى يحيى بن نزار بن سويد المنبجي، وكنيته أبو الفضل. ولد سنة 486 للهجرة، ثمَّ انتقل إلى دمشق فعاش فيها فترة، ثمَّ عاش في بغداد حتَّى وفاته في العام 554 للهجرة.
ولسنا نعرف عن هذا الشاعر أيَّ شيء آخر، سوى اتّصاله بالأمير نور الدين زنكي ومدحه له، ولكنَّنا لم نقع له على أيِّ قصيدة سوى "اليتيمة" التي نشكِّك في نسبتها إليه، للأسباب الآتية:
-إنَّ دوقلة المنبجيّ عاش في بداية القرن الحادي عشر الميلادي، الذي تؤرَّخ به بواكير عصر الإنحطاط، ولسنا نسمع شيئاً عن ملكة في اليمن في ذلك الزمن غير البعيد عن زمننا، فلو كانت دعد موجودة، لكان المؤرِّخون العرب كتبوا عنها، إذ أنَّ التدوين بدأ في العصر العبّاسيّ ولم ينتهِ في عصر الانحطاط.
-إنَّ دوقلة المنبجيّ لم يكتب سوى اليتيمة كما يقول المؤرِّخون، فأين قصائده الأخرى التي مدح بها نور الدين زنكي؟ إنَّنا نشكُّ في أنَّ تلك القصائد لم تصل إلينا أبداً لا عن طريق التدوين ولا عن طريق الرواية أيضاً.
-نشكُّ أيضاً في أنَّ شاعراً عاش في عصر الانحطاط قد كتب شعراً ينتمي إلى العصر الجاهليّ، وخصوصاً في موضوع الوقوف على الأطلال، حيث بدأ هذا النوع يتلاشى في العصر العبّاسيّ، ما عدا قلَّة من شعراء البادية، الذين اختصروا في بكائهم على الأطلال في بيت أو بيتين، أمَّا دوقلة، فقد خصَّص 12 بيتاً للوقوف على الأطلال، وكأنَّه شاعر جاهليّ، أو أمويٌّ في أبعد تقدير. وقد ذهب الألوسيّ في "بلوغ الأرب" إلى أنَّ اليتيمة قيلت في العصر الجاهليّ، ومثله فعل جرجي زيدان في مجلَّة "الهلال".
وفي المحصِّلة، يبدو من المستبعد جدّاً أن يكون دوقلة المنبجيّ هو الذي قال اليتيمة، أمَّا نسبتها إلى العصر الأمويّ، وإلى ذي الرمّة بالذات، فهي أقرب إلى التصديق، حيث أنَّ قصيدة ذي الرمّة: ما بال عينيك منها الدمع ينسكب؟ هي أكثر القصائد قرباً من اليتيمة، فالتشابه بينهما صارخ سواء من حيث استخدام الألفاظ الحوشيَّة الصعبة، أو من حيث الوصف الدقيق للمرأة:
برّاقةُ الجيدِ واللَبّات واضحة ٌ كأنَّها ظبيةٌ أفضى بها لببُ
بين النَّهارِ وبينَ اللّيلِ من عقدٍ عَلَى جَوَانِبِهِ الأْسْبَاطُ وَالْهَدَبْ
عَجْزَاءُ مَمْكُورَة ٌ خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ عَنْهَا الْوِشَاحُ وَتَمَّ الْجسْمُ وَالْقَصَبُ
زينُ الثّيابِ وإنْ أثوابُها استُلبتْ فوقَ الحشيَّةِ يوماً زانها السَّلبُ
تريكَ سُنَّةَ وجهٍ غيرَ مقرفةٍ مَلْسَاءَ لَيْس بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ
إذا أخو لذَّةِ الدَّنيا تبطـَّنها والبيتُ فوقهما باللَّيلِ محتجبُ
سافتْ بطيِّبةِ العرنينِ مارنُها بِالْمِسْكِ والْعَنْبرِ الْهِنْدِيّ مُخْتَضِبُ
تَزْدَادُ لِلْعَيْنِ إِبْهَاجاً إِذَا سَفَرَتْ وتحرجُ العينُ فيها حينَ تنتقبُ
لمياءُ في شفتيها حوَّةٌ لعسٌ وفي اللِّثاتِ وفي أنيابِها شنبُ
كَحْلآءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي نَعَجٍ كأنَّها فضَّة ٌ قدْ مسَّها ذهبُ
وَالْقُرْطُ فِي حُرَّةِ الذّفْرَى مُعَلَّقَة ٌ تباعدَ الحبلُ منهُ فهوَ يضطربُ...
والمعروف أنَّ ذا الرمّة كان شاعراً أمويّاً جاهليَّ المذهب والصناعة، وقد عابه الكثيرون لتأخُّره عن اللحاق بركاب العصر، وعودته المتكرِّرة إلى طريقة الجاهليِّين. على أنَّنا نؤكِّد على أنَّ ذا الرمَّة لا علاقة له بدعد لا من قريب ولا من بعيد، فعصر الملوك انتهى في بداءة العصر الإسلاميّ. وقد يكون ذو الرمَّة أنشد القصيدة في محبوبته ميَّة، واستبدل الاسم بدعد، لما في "اليتيمة" من الغزل الإباحيّ. وما يوحي لنا بهذا هو عدم وجود أيّ إشارة في القصيدة تدلّ على أنّ دعد هي ملكة أو أميرة أو ذات جاه. ومن عادة الشعراء المادحين أو يضمِّنوا في قصائدهم ما يدلُّ على عظمة الممدوح، خصوصاً إذا كان ملكاً أو أميراً. فقد اختفى من القصيدة موضوع المديح، فإذا بالشاعر يفتخر بنفسه، ولا يقول شيئاً عن صفات الممدوح، وهذا الأمر غير مألوف في القصائد الموجَّهة إلى عظماء القوم. ومن الناحية النفسيَّة، يبدو أمراً طبيعيّاً ان يستخدم المرء طريقة المديح لاجتذاب الممدوح إليه، فكيف إذا كان قاصداً الزواج؟
وإذا كان دوقلة المنبجيّ هو الذي نظم اليتيمة، فقد يكون شاعراً مغموراً فعلاً، أعجب بطريقة الجاهليِّين، فأراد السير على نهجهم، أو أعجبته قصيدة ذي الرمَّة، فقلَّدها في زمن متأخِّر، كما يفعل أيُّ شاعر معجب بالمتنبِّي أو أبي نوَّاس في عصرنا هذا. وقد تكون اليتيمة نُظمت في العصر الجاهليّ، حيث أنَّ وجود ملكة في اليمن، قبل عصور الخلافة، أمر ممكن، أو لعلَّ أحداً غير معروف نظم "اليتيمة" في أيِّ عصر من العصور الأدبيَّة، وربطها بقصَّة خياليَّة عن الملكة "دعد" كما في قصص "ألف ليلة وليلة".
المدينة والقرية في أدب فؤاد سليمان
الدكتور جميل الدويهي
توطئة- أسباب الهجرة من القرية إلى المدينة:
تُعتبر الهجرة من القرية إلى المدينة شكلاً من أشكال الانتقال الداخليِّ أو الهجرة الداخليَّة، وهي هجرة لا تتخطَّى حدود الوطن الواحد. وفي لبنان تتمركز أغلب المدن الكبيرة على الساحل، كبيروت، طرابلس، وصيدا وصور، ولذلك كانت هذه المدن مركز استقطاب لوفود المهاجرين من القُرى، لأسباب وظروف كثيرة، أهمُّها الظروف الاقتصاديَّة، التي تتمثَّل بالفقر وضيق اليد، فالقرية في الغالب ذات إنتاج ضئيل، لا يكاد يكفي المزارع الفلاَّح ليقوم بواجب إعالة الأسرة، فيضطرُّ إلى مغادرة أرضه أو مهنته التقليديَّة إلى المدينة، بحثاً عن وسائل أفضل للحياة، كالعمل في المصانع، أو البناء، أو التجارة. ويمكن أن نذكر إلى جانب الظروف الاقتصاديَّة الضاغطة ظروفاً أخرى ومنها "اعتبارات الهروب من وضاعة الحال، والتطلُّع إلى إظهار التفوُّق الاجتماعيِّ، واللحاق باللذين سبقوا." (عطا لله، 1973، ص 53)، فأسباب الهجرة اللبنانيَّة "اقتصاديَّة وديموغرافيَّة واجتماعيَّة (عطا لله، 1973، ص 51)
وبما أنَّ مدينة بيروت هي عاصمة لبنان، ومركز الثقل الاقتصاديِّ والسياسيِّ والماليِّ فيه، فقد كان بديهيّاً أن تتوجَّه أنظار المهاجرين من القرى إلى هذه المدينة الكبيرة، أملاً في تحقيق طموحات لم يتمكَّنوا من تحقيقها في الأرياف. ومن جرَّاء هذا الواقع، تدهورت القرية اللبنانيَّة، كما تدهورت بعض المدن الصغيرة التي تقع في داخل لبنان، وأصبحت بيروت والمدن الساحليَّة الأصغر مساحة ونشاطاً تستوعب تدريجيّاً أعداداً متزايدة من المهاجرين.
ولا يمكن فصل طائفة المتعلِّمين في القرى عن طائفة غير المتعلِّمين، في سعيهم الدؤوب للخروج من شرنقة الفقر، ومحدوديَّة الإنتاج، إلى فضاء أوسع هو فضاء المدينة. ويعتقد المتعلِّم أنَّ المدينة قد توفِّر له مجالاً أوسع للحصول على تعليم أفضل، بحيث أنَّ مدارس القرية ابتدائيَّة في الغالب، كما يعتقد بأنَّ الإقامة في مدينة قد تهيِّئ له سبل الحصول على لقمة العيش الكريمة، إذ يمكنه أن يعمل كمظَّف في الدوائر الحكوميَّة، أو في القطاع الخاصِّ، أو في المطابع، أو في الصحافة. وهذا ما حدث للعديد من الكتَّاب اللبنانيِّين الذين لم تتسنَّ لهم مغادرة لبنان إلى الدول القريبة أو البعيدة، ففضَّلوا الهجرة الداخليَّة نحو المدينة، ومنهم أمين نخله الذي "انسلخ عن جوِّه الريفيِّ الذي تغنَّى به فيما بعد (شعراً ونثراً) كما بالحبيبة، ليقيم في بيروت ويُكمل دراسته الثانويَّة في الكلِّيَّة البطريركيَّة، بعد نهاية الحرب العالميَّة الأولى." (جبر، 2006، ص 8). ومثل أمين نخله فعل سعيد عقل الذي ترك زحلة متوجِّهاً إلى بيروت في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي، وأمين تقيِّ الدين الذي انتقل من الشوف إلى بيروت لكي يتابع دراسته في مدرسة الحكمة، وكان له من العمر تسع سنوات فقط. أمَّا أديبنا فؤاد سليمان، فقد غادر قريته فيع في شمال لبنان إلى طرابلس، عام 1923، وكان في الثانية عشرة من عمره، حيث تابع دراسته في معهد "الفرير"، ومن ثمَّ انتقل إلى بيروت، ليدرِّس الأدب العربيَّ في المعهد الشرقيِّ. وبعد ذلك آثر البقاء في بيروت، لتوفُّر فرص العمل، فقد عمل مدرِّساً في الجامعة الأميركيَّة حتَّى وفاته، كما كتب في العديد من الصحف والمجلاَّت، كجريدة "النهار"، ومجلَّة "صوت المرأة".
لقد وفَّرت بيروت لأديبنا المناخ الثقافيَّ، والظروف العمليَّة التي مكَّنته من تحقيق ذاته كأديب وشاعر، وناشط سياسيٍّ واجتماعيّ، ولكنَّه ظلَّ يحنُّ إلى قريته فيع، وكانت هجرته بمثابة جرح بليغ في أعماق نفسه، فهو بعيد عن ملاعب الطفولة بجسده فقط، ولكنَّه قريب منها بالروح والعقل، إذ لا تفارق خياله تلك الأمكنة الرحبة التي عاش فيها طفولته، فظلَّ يستعيدها، ويناجيها، وينقلها إلينا حيَّة ناطقة في أدبه.
وعندما نبحث في أدب فؤاد سليمان، لا بدَّ لنا من أن نشعر بمعاناته كمهاجر، وبشوقه إلى الريف الذي فارقه في ريعان الصبا. ونحن في بحثنا سنحاول إلقاء الضوء على التعارض العميق بين القرية والمدينة في أدب فؤاد سليمان، وعلى الأزمة النفسيَّة العميقة التي نتجت عن الغربة، معتمدين على النقد الاجتماعيِّ، الذي يركِّز على الروابط الوثيقة بين النصِّ والمجتمع، وعلى "روية الأدب على أنَّه انعكاس للظروف الاجتماعيَّة للأديب" (هويدي، 1426 هـ، ص97). وقد قسمنا بحثنا إلى قسمين هما: تصادم المعالم في القرية والمدينة، وانعكاس الغربة على الذات الشاعرة- المنحى الرومنسيّ.
1-تصادم المعالم في القرية والمدينة:
لا شكَّ في أنَّ الهجرة من مكان إلى آخر تصدم الذات، إذ تختلف المعالم، والأمكنة، والأسماء، والمشاهد، والصور، وأساليب الحياة والسلوك، ويعمل الواقع جاهداً من أجل تفريغ الذاكرة من عناصرها الموروثة، لتحلَّ محلَّها عناصر جديدة. لكنَّ هذه العمليَّة التغييريَّة الهادمة لا تنجح إلى حدٍّ بعيد، فالإنسان لا يستطيع أن يغادر ذاكرته نهائيّاً، ولذلك تبقى الموروثات محفورة في الذات، ولا يقوى عليها الزمن. وهذه الحقيقة هي التي أشار إليها علماء النفس عندما تحدَّثوا عن العقل الباطنيِّ، الذي يخزِّن الأشياء، ويوضِّبها بطريقة متينة، بحيث تصمد في مكانها أمام رياح التغيير، والظروف الضاغطة، وقد النسيان بعض هذه الأشياء، غير أنَّ تلك ذكريات أخرى تبقى عالقة في اللاشعور، فـ"الأفكار تروح وتجيء في الوعي، بحيث توصف أنَّها في حالة انتقاليَّة، إلاَّ أنَّ كثيراً من أفكارنا يمكنها في ظروف خاصَّة أن تعود فتصبح مادَّة للعقل الواعي." (مْلاهي، 1962، ص 24)، وقد أدَّت شخصيَّة المدينة، بأبنيتها العالية، وشوارعها الكبيرة، وحركتها، وضجيجها، وآلاتها إلى تحريك الذاكرة عند فؤاد سليمان، وإلى ردَّة فعله العكسيَّة المناقضة لما يراه ويعيشه، فكان عليه أن ينتقل بين الحين والآخر للعيش في نطاق الأفكار الماضية، ويحاول جاهداً تشويه صورة المدينة التي شوَّهته، وكأنَّه يثأر من ذاته لذاته، ويعيد التأكيد على إيمانه بهويَّته الريفيَّة. فكيف رسم أديبنا هذا التناقض العميق بين مكانين مختلفين، واحد ينتمي إليه جغرافيّاً، والآخر ينتمي إليه ذهنيّاً، ويشدِّد على الارتباط به إلى النهاية؟
يعبِّر فؤاد سليمان في كتابيه "درب القمر" و"تمُّوزيَّات" عن الفوارق الهائلة بين عالمين: عالم القرية- البراءة، وعالم المدينة - الشرّ. وتطالعنا في كتاباته صور القرية الجميلة في مقابل صور ضبابيَّة من المدينة؛ ففي مستهلِّ كتابه "درب القمر" يحشد الكاتب مجموعة من العناصر القرويَّة البسيطة: الجرار الحمر، الخدود الحمر بلون التفَّاح، الغناء والحداء، القمر، الدروب، والصبيَّة الحلوة... (سليمان، درب القمر، ص 1-2)، ثمَّ ينتقل إلى ألفاظ وتراكيب مناقضة لها تماماً مثل: درب القمر حفيت درب القمر فيها، مرآة تنطفئ، حجارة، تراب (درب القمر، ص 5)... فإذا تمعَّنَّا في دلالات الألفاظ وجدنا أنَّ المجموعة الأولى المعبِّرة عن حبِّه للقرية، إنَّما تعبِّر في الوقت ذاته عن الخير، والجمال، والسعادة، والنور، بينما تعبِّر ألفاظ الغربة عن الفقر، والانطفاء، والركام.
ويتكرَّر التعارض كلَّما قرأنا نصّاً لفؤاد سليمان يتناول فيه القرية والمدينة، ففي مقالة بعنوان "طفولتي"، يبدأ سليمان كلامه بالإشارة إلى الاختلاف بينه وبين الآخرين: "تذكرون من طفولتكم أيُّها الناس درباً ضيِّقة مكتنفة بالضباب "مغبَّشة"... وأنا أذكر من طفولتي فسحة من الزمن، عميقة كالزمن، ما زلت حتَّى اليوم ألعب في جنباتها مع أترابي." (درب القمر، ص 13)
إنَّ الناس الذين يتوجَّه إليهم بالحديث هنا ليسوا إلاَّ أناس المدينة، وهو إنسان القرية، والدروب في المدينة ذات لون ضبابيٍّ "مغبَّش"، فهي مادَّة مرئيَّة، ولها مظهر ملموس، أمَّا دربه في القرية فهي فسحة من الزمن، والزمن لا شكل له ولا لون، هو روح تمتدُّ عميقاً في الذات، فيتوحَّد الإنسان مع المكان والزمان معاً. ولذلك عندما يعود الكاتب (مجازاً) إلى قريته كهارب من كلاليب المدينة، تعود إليه حياته التي يحبُّها، وكنوزه المخبوءة منذ عهد طويل: اللوز، التفَّاح، الزعرور، البيت، الأمّ والمدرسة. غير أنَّه يستفيق فجأة من أحلامه الكاذبة، فيكتشف أنَّه في المدينة يعيش ويعاني. وفي خضمِّ هذا الضياع بين الأمس واليوم، يبدو فؤاد سليمان "شبيهاً بجيل الشباب الحائر بين مكانين وزمانين، أي شاهداً على نهاية مرحلة ما ومعترفاً بها وبعجزه عن إحداث أيِّ تغيير في مسار الأمور." (القصَّيفي، 2012، ص 1)
مَن يراقب الألفاظ التي يستخدمها الكاتب في موضوع المدينة، لا بدَّ وأن يرى فيها كثيراً من الجفاف، والسواد، والألم، ففي نصّ "طفولتي" (درب القمر، ص 13)، نقع على ألفاظ قاتمة: إسفلت، قرش، كلاليب، ظلمات... وفي الوقت نفسه يكتشف المتمعِّن في النصّ أنَّ هناك إنساناً آخر مجهولاً يمشي معه في المدينة، على الطريق ذاتها، فمن يكون يا ترى؟ ولماذا يرافقه؟ وماذا يريد منه؟ إنَّه بالتأكيد الطفل الذي كان هو بالأمس البعيد، وما زال يصرخ في داخله، فما هو الآن في الحقيقة إلاَّ طفل كبير انسلخ عن طفولته الحقيقيَّة، وخسر كثيراً من سعادته وآماله. وبكلمة أخرى، إنَّ الطفل الذي يسير إلى جانبه، هو روحه المشتاقة إلى مكان الولادة، التوَّاقة للعودة إلى الجذور والأصل. وفي هذا المعنى يقول رفيق المعلوف: "إنَّه الشاعر الطفل الذي وجد نفسه في زحمة المدينة، وزيف المدينة، فحنَّ إلى مواطن الطهر، ومراتع السلام والأمن." (درب القمر، ص 121، قسم: أقوال في فؤاد سليمان)
وتكثر في أدب فؤاد سليمان صورة "الدرب": "دروبنا في الجبل حكايات... واحدة للجرار الحمر"(درب القمر، ص 1)، و "الدروب لا بحَّة فيها ولا غنَّة فتى قويّ." (درب القمر، ص 31)، وعلى الرغم من انَّه لا يقارن بطريقة مباشرة بين دروب القرية، ودروب المدينة، فإنَّ المتلقِّي يعمد إلى هذه المقارنة بصورة آليَّة، فالدرب في القرية هي رمز للبياض، والطريق في المدينة سوداء... والدرب في الريف صغيرة يعبرها الفلاَّحون والرعاة والبسطاء من الناس، بينما الطريق بعيدة وواسعة تعبرها العربات المسرعة. الدرب هي البراءة والطفولة والذكريات، والطريق هي الزمن الراهن المليء بالعذاب والقلق. والدرب في القرية توصل إلى الحبيبة والأمِّ والجدَّة والبيت، أمَّا الطريق السوداء المعبَّدة فلا تؤدِّي سوى للواقع المرير. وهكذا تنتقل الدرب من كيانها الجغرافيٍّ إلى كيان رامز لكثير من المعاني: الطبيعة، جماعة الناس، التاريخ، الولادة، البراءة، البياض والطهر، والوصول إلى المرتجى، في مقابل كيان أسود ينذر بالويل والخوف، ويحمل صاحبه إلى الأزمنة الصعبة.
ويمضي الكاتب في تصوير تمزُّقه الموجع بين واقعين يعيشهما في آن واحد، ففي مقالة بعنوان "موكب التائهين" يصوِّر نفسه ضائعاً في مدينة السراديب المعتمة، فيحشد ألفاظاً متقاربة، تؤكِّد على التنازع الصارخ بين القرية والمدينة: "ما زالت نفسي تضحك يا أخي، تضحك وتبكي، تجدُّ وتهزل، تولول وتغنِّي" (درب القمر، ص 51).
إنَّ الضحك والبكاء، والجدُّ والهزل، والولولة والغناء ما هي إلاَّ المشاعر المتناقضة التي تشدُّ بالكاتب صعوداً ونزولاً، فيعيش في ازدواجيَّة مقلقة، وانفصام نفسيٍّ مؤلم... فالألفاظ هنا تخدم المعنى، وتجعل المتلقِّي يدرك تلقائيّاً إلى أيِّ مدى يتمزَّق فؤاد سليمان في غربته، وتصطرع في نفسه الأحاسيس والهموم، ولعلَّنا إذا أخرجنا تلك الألفاظ من سياقها في الجُمل، ووضعناها في مجموعتين متقابلتين، لا نفقد المعنى الذي تعبِّر عنه... وهو ألم الكاتب في الغربة حتَّى يصل به الأمر إلى التطرُّف، فينـزل اللعنة على الضحكة والبكاء معاً: "ألا لعنة الله على الضحكة في شفتي وعلى الدمعة في عيني، ألا لعنة الله على الضاحكين والضاحكات، والباكين والباكيات من هؤلاء المائتين والمائتات." (درب القمر، ص 52)
ولا ريب في أنَّ هذه اللعنة هي ترجمة لفظيَّة لاستهجان فؤاد سليمان بجميع المشاعر التي تنتاب المرء في المدينة العمياء، سواء أكانت هذه المشاعر حزناً أم فرحاً. ويجنح في تشاؤمه إلى حدِّ اعتبار جميع الناس في المدينة موتى، ويحتاجون إلى من يدفنهم، تماماً كما في "حفَّار القبور" عند جبران خليل جبران. فاسمعه يقول في مكان آخر: "أنا هنا في مدينة الأموات، أموت وأفنى تحت دواليب هذه البشريَّة السائرة على دواليب إلى القبر."(درب القمر، ص 53). ولكنَّ المقارنة بين فؤاد سليمان وجبران خليل جبران في موضوع قتل الناس" أو "موت الناس" لا يجب أن تكون مقارنة عشوائيَّة وغير مدروسة، فالأديبان يختلفان أيضاً، إذ نرى سليمان غاضباً على أهل المدينة الموتى، أمَّا جبران فعدميٌّ وغاضب على العالم برمَّته.
ولكي يظهر فؤاد سليمان التناقض الكبير بين القرية والمدينة، يستحضر في عدد من نصوصه جوقة من بلابل كانت تعيش في القرية، فيتحدَّث إليها في رمزيَّة عميقة. والبلبل تحديداً هو رمز للغناء العذب، والجمال، والانطلاق في فضاء الحرِّيَّة، بل هو جزء صغير من تلك القرية الجميلة التي غادرها، ورسول يأتي منها، فيقف عند شبَّاك الكاتب، وينثر عن جناحيه بعض أطيابها ورياحينها. ففي "البلابل الحمراء" ينـزل البلبل من القرية إلى المدينة، ومعه النور، والسنديان، والورد، والنرجس، والفتاة ذات الفستان الزهريِّ..."(درب القمر، ص 23)، ويصطدم ذلك البلبل بأشياء من المدينة لم يألفها: البكاء، الرفيف الموجع، حديد النافذة، المرايا المنطفئة... (درب القمر، ص 23 وما بعدها). ومرَّة أخرى يتوحَّد الآخر في الأنا، فيكون هذا البلبل الرسول الآتي من الريف هو نفسه الكاتب المتمزِّق، الذي يتحدَّث إلى ذاته العالقة في القرية، فيزور نفسه معاتباً، وسائلاً، ومحاوراً. ويتبدَّى في نهاية النصِّ أنَّ البلبل هو فعلاً الكاتب، فاسمعه يقول: "تكون البلابل الحمراء في ضيعتكم قد رحلت إلى أمكنة بعيدة بعيدة."(درب القمر، ص 25). فالكاتب هو البلبل الأحمر الذي رحل إلى مكان بعيد بعيد، وتوقَّف غناؤه، لأنَّ لا شيء في المدينة يوحي بالغناء والفرح.
ويعود البلبل نفسه إلى الظهور في نصوص أخرى، مثل: "شقائق النعمان"، فيقف على حديد النافذة، ويتحدَّث إلى الكاتب: "هذا البلبل على شبَّاك نافذتي، عرفته أمس... لقد فرَّ من ضيعتنا في الجبل."(تمُّوزيَّات، ص70). وفي نصّ بعنوان "خبَر من البلابل" يروي الكاتب أنَّ البلبل جاءه مع سنونوٍّ من الضيعة (تمُّوزيَّات، ص 71). وفي هذه النصوص جميعاً يكون البلبل رمزاً مفضَّلاً عند فؤاد سليمان، لأنَّه يحمل إليه الأخبار من أرض الطفولة، ويعزِّيه في لحظات الحزن، ويكون ذاته المقهورة التي تتحدَّث إليه أثناء غيابه عن الأرض الطيِّبة.
بهذه المشاعر المتناقضة يواجه فؤاد سليمان نفسه، فجميع الأشياء الثمينة التي كانت في متناول يده ضاعت منه: العناقيد، الزهور، الحقول، الدروب، وخيرات الأرض، والناس المباركون... كلُّهم رحلوا إلى غير رجعة، وسكنوا في مدينة سوداء، قاحلة، وليس فيها إلاَّ ضجيج المادَّة الذي لا يغني عن كنوز الروح.
وهكذا نجح أديبنا في توظيف اللغة، من ألفاظ متعارضة، ورموز معبِّرة، وتراكيب عميقة، ليضعنا في قلب المعنى الذي أرادنا أن نصل إليه، من غير جهد وتكلُّف، أو تحليل عميق، فأقام توازناً بين الشكل والمضمون، ليبلغ إلينا رسالة مفادها أنَّ الأرض أصبحت قاحلة في غيابه، وأنَّ قلبه مشتَّت في صحراء الدموع، حيث لا طريق للعودة، ولا دروب كدروب الريف يمكن أن تحمله إلى السعادة التي فقدها، فأصبح مهاجراً ومهجَّراً إلى نهاية الحياة، بل أصبح مهجوراً كتلك الأرض التي تركها، لا يزوره إلاَّ الفراغ، ولا يطفئ جروحه إلاَّ حفنة غالية من الذكريات.
2- انعكاس الغربة على الذات الشاعرة-المنحى الرومنسيّ:
نقصد بالروح الشاعرة تلك الروح المتأثِّرة، أو الذات المنفعلة أمام مشهد أو في مواجهة الواقع الصعب. ومن يقرأ فؤاد سليمان في نصوصه النثريَّة، يكتشف بسرعة أنَّه إنسان متألِّم وشفَّاف، ورقيق الفؤاد، إذ سرعان ما ينفعل في مواجهة الواقع. وقد وجد سليمان في المدينة مجالاً للعلم والوظيفة، وفي المقابل فقد كثيراً من القيَم التي نشأ عليها، فكان الفراق عنها بمثابة انكسار موجع، فعل فعله في الذات الشاعرة، أي الذات الغريبة عن المكان والزمان. ويصف أنطوان قازان فؤاد سليمان بالغريب: "وددت لو نذهب اليوم إلى فيع، لنتأكَّد من أرض هذا الغريب." (قازان، 1998،ص 74). وهذا الشعور بالغرابة يتأتَّى من حالة نفسيَّة تتصارع فيها مشاهد الماضي وأناسه وأدواته مع مشاهد غير مألوفة، وأناس جدد، يصفهم بأقبح النعوت، فهم التائهون، وهو يسير في موكبهم (درب القمر، ص 51)، وهم المائتون (درب القمر، ص 53)، وهو يضحك من سخافة هؤلاء (درب القمر، ص 52). وفي ذروة هذه المعاناة تفيض نصوص فؤاد سليمان بالدموع، فيبكي، ويستبكي: "أرى دمعة تجري فتجري دمعتي، ويصل إلى مسمعي ندب الحزانى فأندب."(درب القمر، ص 53).
وكأنَّ كاتبنا، في رحيله المتواصل، هو واحد من شعراء العرب القدامى الذين يقفون على أطلال الحبيبة، فتفيض مدامعهم، ويحملهم الشوق على أجنحة من نار. والحبيبة هنا هي القرية، وناسها، ومعالمها المحفورة في كيانه: "البيت الذي فوقها سكَّرت شبابيكه، راح أهله ولم يعودوا حتَّى اليوم." (درب القمر، ص 5) فمَن هم أهل البيت الذين راحوا؟ أليسوا هم الكاتب نفسه الذي يحمل خطايا الراحلين؟
هذا الشوق إلى القرية يقضُّ مضجعه، ويقابله في الوقت نفسه غضب على المدينة، هو غضب الانتقام من المكان، بل هو انتقام من الذات وتعذيب لها، عقاباً على ما فعلته في غربتها، حتَّى أنَّ أشياء المدينة وأشكالها تبدو مستهجنة ومقبوحة في نظره: كلاليب، مقبرة الأحياء (درب القمر، ص 14-15)، والإسفلت المحموم، وسراديب الحياة المعتمة، مدينة الأموات، الخمَّارات والأوكار، ودواليب هذه البشريَّة (درب القمر، ص 51-53)، والمدينة العمياء، والقرش البغيّ، والرغيف الأسود (درب القمر، ص 27)
هذه النظرة السوداويَّة والرفضيَّة إلى أشياء المدينة تتوافق مع رفضيَّة الرومنسيِّين لمظاهر المدينة الزائفة، فهم يفضِّلون الغابات والقفار والبراري والأماكن المهجورة على الحياة الصاخبة والشوارع المزدحمة. وقد ذهب بعضهم إلى رفض وسائل التقدُّم بشكل صريح وصادم، فها هو جان جاك روسُّو، المهِّد الأوَّل للمذهب الرومنسيِّ ينعت الإنسان بأبشع النعوت بعد أن ترك الغابة وتوجَّه إلى المدينة، مدَّعياً أنَّ الأرض له: "إنَّ الإنسان الأوَّل الذي صادر قطعة من الأرض، وأخذها ملكاً له، قائلاً: هذه الأرض لي، كان هو المؤسِّس الحقيقيُّ لمجتمع المدينة... كونوا متأكِّدين من أنَّكم لن تصدِّقوا هذا المدَّعي الكاذب."
(Hanfling, 2006, p. 71)
وألفرد دوفينيي، أحد كبار الرومنسيِّين الفرنسيِّين، يروِّج في قصيدته "بيت الراعي" La Maison du Berger للحياة البدائيَّة البسيطة، ويرفض فكرة وجود القطار، لأنَّ هذه الآلة المزعجة تمثِّل التقدُّم، وتعارض الهدوء والاستقرار والعودة إلى الطبيعة (Simmano, 2008, p. 89).
ومن عناصر المدينة التي يطرحها فؤاد سليمان أمامنا، بشكل صادم، الانسان المدوَّد، الذي يراه كلَّ يوم في أفخم شوارع بيروت، "يمدُّ رجله المدوَّدة للناس، فيها جورة عميقة يجفل منها القلب، وتستحي العين، رجل مورَّمة، ثقيلة، مهترئة..." (تمُّوزيَّات، ص 57)
إنَّ تصوير الإنسان المدوَّد بهذه الطريقة المؤلمة ينمُّ عن شفقة وغضب في الوقت نفسه، شفقة على هذا الرجل المنطرح على التراب، يعاني الألم ولامبالاة العابرين، وغضب على مجتمع المدينة الذي لا يرحم أبناءه، بل يعاملهم بقسوة وفظاعة. فالإنسان المدوَّد ما هو إلاَّ المدينة المهترئة، تماماً كما كان "أحدب نوتردام" فيكتور هيجو رمزاً للإنسان المعاني في مدينة الإنسانيَّة القاسية.
واللافت أنَّ فؤاد سليمان لا يغيب عن أغلب النصوص التي كتبها عن القرية والمدينة، فعلى الرغم من وجود شخصيَّات أخرى، كالأمِّ والأب، والجدَّة، والحبيبة، والفلاَّح... فإنَّ أديبنا يبقى محور النصِّ، في ذاتيَّة عميقة. ولذلك تشيع في نصوصه ضمائر "الأنا"، وهذه "الأنا" هي ذات الرومنطيقيِّ الحالم، الذي لا يتعب من الكلام على ذاته، ومشاعره وصدمته في الحياة؛ فالرومنطيقيُّ هو محور العالم ومحور الكتابة في آن معاً، والـ "أنا أصبحت محور الكتابة التي تحوَّلت إلى ما يشبه البوح الصادق."(بطرس، 2005، ص 303)
وتصرخ الذاتيَّة عند فؤاد سليمان أمام المتلقِّي، وتدعوه لكي يشارك الكاتب معاناته في الغياب، سواء أكان النصُّ مقالة، أم وصفاً، أم سرداً، أم حواراً: " أنا أبكي كما أضحك... أسمع شهيقاً فأشهق، وأرى دمعة تجري فتجري دمعتي، ويصل إلى مسمعي ندب الحزانى فأندب" (درب القمر، ص 52)، و"سألني السنونوُّ: ماذا تفعل؟ لماذا لا تطير مع سنونوَّات ضيعتكم؟ وسألني البلبل الأحمر: ماذا تفعل؟ قلت: أكتب حروفاً سوداء! فقال البلبل: لماذا لا تغنِّي غناء، وتكتب حروفاً من نور؟" (تمُّوزيَّات، ص 71)
وللدلالة على ذاتيَّة الكاتب المفرطة نشير هنا إلى وجود تسعة ضمائر "أنا" في حوار بسيط لا يتعدَّى الأسطر الثلاثة، وهذا يؤشِّر على مدى اهتمام الكاتب بالتعبير عن حالته النفسيَّة الخاصَّة، كإنسان محبط في المدينة، وعن تشظِّيه بين عالمين مختلفين.
إنَّه يتمنَّى أن يعود إلى القرية، فترتاح نفسه من الألم الموصول، والشوق اللاهب، وينكفئ من اليوم إلى الأمس على طريقة الرومنسيِّين الذين يقدِّسون الماضي والذكريات، ويعيشون على أمل تجديد الحبِّ الذي انتهى وتلاشى، فاسمعه يقول: "وددت لو رجعت إلى عشِّي، أبني على المطلِّ، عند الدروب البيضاء، فوق العين الصغيرة، عرزالاً في عبِّ الضباب، خيمة راع ينام ملء عينيه في السحرة النديَّة، يفيق مع الوادي على شفتيه بسمة الرضى والطمأنينة، وفي قلبه أغنية، وفي حنجرته أوتار."(درب القمر، ص 52)
هذه العودة إلى القرية وطبيعتها الجميلة، من دروب بيضاء، وعين صغيرة، وضباب ووادٍ، هي عودة الرومنسيِّ إلى الطبيعة، والطبيعة من أهمِّ العناصر التي ينى عليها الرومنطيقيُّون أدبهم، سواء أكانوا غربيِّين أم شرقيِّين، " فقد كان هؤلاء منطوين على ذات أنفسهم، ضائقين ذرعاً بما تضطرب به المجتمعات من حولهم، فغولعوا بترك المدن إلى الطبيعة، وكانت تروقهم الوحدة بين أحضانها." (هلال، 1981، ص 169)
فها هو جبران خليل جبران يدعونا إلى الغابة، لنملأ حياتنا بالنور والجمال: "هل تخذت الغاب مثلي منـزلاً دون القصور؟" (جبران، لا تاريخ، ص 425)، وذاك أبو القاسم الشابّيّ، يروِّج لثقافة الغابة، ويطلب منَّا أن نرافقه إلى أرجائها الحالمة:
"المعبد الحيُّ المقدَّس هــا هنا يا كاهـــن الأحزان والآلام
فاخلع مسوح الحزن تحت ظلاله والبس رداء الشعر والأحلام..." (الشابّيّ، 1988، ص 470)
غير أنَّ فؤاد سليمان يطعِّم رومنسيَّته حيناً بشيء من البدائيَّة البوهيميَّة التي تتنكَّر للمادَّة والمظاهر البرَّاقة: "وددت لو كان لي ليلة قمراء، أنزل بها على دروب الوادي، حفيان، مكشوف الرأس، مملَّع القميص، مبعثر الشعر." (درب القمر، ص 52)؛ فعودة سليمان إلى القرية هي عودة إلى الفوضى الطفوليَّة، حيث لا اهتمام بالثياب والهندام، فالكاتب- الطفل لا يعير اهتماماً بشكله الخارجيِّ، بل يهتمُّ بالروح، رفيقته في السفر إلى الماضي، ونديمه في خلواته وعزلته بين أرجاء الطبيعة القرويَّة.
ويمضي كاتبنا في نجواه وبثِّه الدافئ، فيغمرنا بموجة من أحزانه وهمومه التي ترافقه في المدينة الغريبة: "أفيق من نعاس قليل، مثقلاً بالهموم... وعندما أمشي إلى هموم الحياة، أجرُّ رجلي على الإسفلت." (درب القمر، ص 15) وهذه الصورة العميقة تبعث على التخييل، فنتصوَّر الكاتب متعَباً، محبطاً، مريضاً، لا يقوى على السير في شوارع المدينة المزدحمة، فيجرُّ رجله ككثيرين من العُرج الذين يخبطون على الأرض الصمَّاء. ونشاهد الكاتب نفسه باكياً على رصيف الزمن، فالحاضر يعذِّبه، والماضي يضربه بسوط الذكريات: "ماضيَّ أنا يا صديقي يبعث الغصَّة في قلبي والدمعة في عيني."(درب القمر، ص 51)
ويمكننا أن نسأل هنا: هل نحن نسمع صوت فؤاد سليمان، وهو يئنُّ من الألم في المدينة، وينشد الرجوع إلى القرية؟ أم هو صوت بدر شاكر السيَّاب مصلوباً في بغداد، وتوَّاقاً للعودة إلى جيكور؟
"من يصلب الشاعر في بغداد؟
مَن يشتري كفَّيه أو مقلتيه؟
من يجعل الإكليل شوكاً عليه؟
جيكور يا جيكور
شدَّت خيوط النور أرجوحة الصبح
فأولمي للطيور
والنمل من جرحي."(السيَّاب، 1980، ص 186)
إنَّ الصوت، كما نسمعه، واحد لدى المعذَّبين المتألِّمين على دروب المدينة، والشكوى هي هي في رومنسيَّة الحنين إلى القرية الوادعة المغلَّفة بالنور.
وتتكرَّر مشاهد العذاب في نصوص فؤاد سليمان، فإذا به يشبِّه نفسه بـ "حيوان يمشي مع حيوانات، بهيمة تعيش مع بهائم، ملعون من ملاعين الدنيا يجرُّ جناحه المنتَّف وراءه على الدروب وفي الشوارع." (درب القمر، ص 53). وهذه المشهد المخيف، يعبِّر عمَّا في قلب الكاتب من حزن وأسى، بينما هو يعيش حياة مشوَّهة، يظنُّ أنَّها حياة، ويتحوَّل جميع الناس في نظره إلى ما هو أقلُّ من الإنسانيَّة.
وتضيف صور الموت والفناء مزيداً من السوداويَّة على هذا الجوِّ الكئيب، ففي "العنقود الأخير" (درب القمر، ص 17) يموت الفلاَّح أبو وهيب، وتموت معه الكروم والعناقيد، وتهجر العصافير أوكارها، وفي "البلابل الحمراء" (درب القمر، ص 23)، تموت الحياة في القرية، ولا يبقى غير الخراب والبيوت المهجورة، و "لو أنَّ للقبور أن تقول لهتفت القبور: عودوا أيُّها الغرباء إلى ترابي... فلن تطمئنَّ عظامكم في أرض غريبة." (درب القمر، ص 37)
ويصيب الموتُ الكاتب نفسه عندما يسير في موكب التائهين، ويعيش في مدينة الأموات، يموت ويفنى تحت دواليب هذه البشريَّة السائرة على دواليب الموت إلى القبر. (درب القمر، ص 53).
لقد بلغ به اليأس كلَّ مبلغ، فصوَّر نفسه على أنَّه ميت حيٌّ، فهو هنا يشبه لامرتين الذي تخيَّل موته في الحياة، عندما قال: "أموت أنا، وفي لحظة الوداع، تفيض روحي كموسيقى حزينة." (الدويهي، وعيد، 2011، ص 46)
وتشغل صورة الحبيبة- الفتاة القرويَّة حيِّزاً مهمّاً في ذكريات الكاتب الرومنسيِّ، فالحبُّ "شغل في أدب الرومنتيكيِّين جانباً هامّاً لم يقتصر على إشادتهم بعواطفهم، بل شمل جانباً هامّاً من فلسفتهم ومعتقداتهم." (هلال، 1981، ص 193). وكم تتكرَّر في نصوص فؤاد سليمان قصَّة الحبِّ لصاحبة الفستان الزهريّ! حتَّى أنَّنا لنعتقد أنَّه لم يعرف في حياته سوى تلك الصبيَّة، بينما لا يجد له حبّاً في المدينة: "وفي الدرب عندنا، نلمح الصبيَّة الحلوة في شبابيك بيتها، تمسح البلّور بالبلّور، أو تشمُّ أطباق الحبق في الشرفة، بأنف حلو يعرف الشمَّ، أو تنفض الحصير الأسمر ليوم العيد." (درب القمر، ص 2)
الحبُّ لامرأة واحدة هو الحبُّ الرومنطيقيُّ الذي يثير العجب، بل هو حبٌّ عذريٌّ سامٍ يفوق الرغبات والمشاعر الزائلة. وقد مضى زمن طويل على قصَّته مع صاحبة الفستان الزهريِّ، وعلى الرغم من الغبار والدخان في المدينة، فما زالت صورتها تستيقظ في أفكاره، وتقرع بيدين مشتاقتين على صدره: "يومها عرفت "درب القمر" في ضيعتنا. كانت الدرب من قبل طريقاً تؤدِّي بي إلى البيت، إلى أحضان أمِّي، في عودتي من عند جدَّتي، في الضيعة المجاورة، فصارت الدرب يومذاك، يوم لوَّحت لي من فوق، شيئاً لا أوَّل له ولا آخر. شيء مربوط إلى قلبي."(درب القمر، ص 3)
يتََّضح أنَّ الفتاة التي أحبُُّها في الزمن الغابر قد غيَّرت معالم الطريق، وجغرافيَّتها، وموقعها، والمكان الذي تصل إليه، بل جعلت الطفل الصغير يكبر، ويستبدل الأنثى القريبة: الأمّ والجدَّة، بأنثى أكثر التصاقاً بالقلب، وأعمق حضوراً في الذات الشاعرة. حتَّى أنَّ كاتبنا يتألَّه في الحبّ، فيصوِّر نفسه تمُّوز نازلاً من بين النجوم، ليختار عشتاره في بلاد الجبل، ينـحدران معاً درب الوادي في ضوء القمر، ويسهر الليل تحت شبابيك غرفتها (تمُّوزيّات، ص 77). إنَّ هذين العاشقين الصغيرين هما أدونيس وعشتروت في حبِّهما العظيم، يشبكان الأيدي في وادي الحبِّ والبراءة.
ومرَّة ثانية، يتحوَّل فؤاد سليمان إلى راعٍ يعزف على مزماره ألحان الحبِّ والوفاء، بينما حبيبته تنتظره بلهفة ليأتي إليها حاملاً هدايا الروح، وجارتها الحسودة تريد أن تعرف مَن هو الحبيب المجهول (تمُّوزيَّات، ص 52). وأغلب الظنِّ أنَّ فؤاد سليمان يستوحي هنا من نشيد الأناشيد للنبيِّ سليمان، لـِمـا في النصَّين من تشابه كبير، إذ تقول الحبيبة في نشيد الأناشيد: "هذا صوت حبِيبِي! ها هو آتٍ طافرًا على الجبال، واثباً فوْق الآكام... هوذا واقف وراء حائطنا، يتطلع من النوافذِ، ويسترق النظر من الشبابِيك..." (نشيد الأنشاد، 2: 8-9)
خاتمة:
هكذا نرى أنَّ فؤاد سليمان تناول موضوع القرية والمدينة من منطلق ذاتيٍّ اجتماعيّ، وصبَّ في هذا الموضوع معاناته الشخصيَّة، فانطوى أدبه على نقد لاذع للمدينة وأشيائها، ومعالمها، وأهلها. وفي المقابل أظهر جمالات القرية بلغة ساحرة، فكانت القرية أيقونة ذكريات تطالعه في كلِّ طرفة عين، فيعود من خلالها إلى الاحبَّة والأهل والمباركين، بل إلى تلك الطفولة السعيدة التي عاشها في الماضي.
ولقد أقذع فؤاد سليمان في هجاء المدينة، وفي هجاء نفسه أيضاً، بوصفة ميتاً مع الموتى وبهيمة مع بهائم، فمال إلى التطرُّف الرومنسيِّ الذي يكره بقوَّة ويحبُّ بعنف. ولقد تمكَّن أديبنا، بلغته المعبِّرة، وطرائقه في الوصف والمقارنة والسرد والنقد اللاذع أن يوصل إلينا صورتين متعارضتين تماماً، ويجعلنا نشاركه من حيث ندري أو لا ندري في تفضيل تلك الصورة ورفض الصورة الأخرى.
وقد حذا كاتبنا حذو الرومنطيقيِّين، سواء في التعبير عن غضبه من المدينة أم في تصويره لجمال القرية، فأجاد في وصف الطبيعة، ونقل إلينا أحاسيسه ومشاعره بصدق، ورسم لنا أحزانه وهمومه، كما رسم صورة موت الآخر وصورة موت نفسه، وعاد إلى حبِّه الطفوليِّ وذكرياته البريئة، فكان أصيلاً في عشقه الحميم، بل كان واحداً من كبار الأدباء الرومنسيِّين، الذين طبعوا القرن الماضي بأدبهم، وما تزال تجاربهم الصادقة تترجَّع كرجع الصدى كلَّما قرأنا لهم، وكلَّما عشنا في ظلال أدبهم الراقي.
المصادر والمراجع
بطرس، أنطونيوس (2005). الأدب. طرابلس -لبنان: المؤسَّسة الحديثة للكتاب.
جبر، جميل (2006). أمين نخله. بيروت: مؤسَّسة نوفل.
جبران، جبران خليل (لا تاريخ). المجموعة الكاملة لمؤلَّفات جبران خليل جبران العربيَّة. بيروت:دار الجيل.
جيدة، عبد الحميد (1980). الاتِّجاهات الجديدة في الشعر العربيّ المعاصر. بيروت: مؤسَّسة نوفل.
الدويهي، جميل وعيد، منصور(2011). التذوّق الأدبيّ. زوق مصبح: منشورات جامعة سيِّدة اللويزة.
سليمان، فؤاد (1987). تموزيَّات. بيروت: الشركة العالميَّة للكتاب.
(1971). درب القمر. بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ.
الشابيّ، أبو القاسم (1988). ديوان أبي القاسم الشابّيّ. بيروت: دار العودة.
عطا لله، محمَّد (1973). الاغتراب وأثره في التركيب الاقتصادي والاجتماعي في لبنان. في كتاب: الهجرة: مسألة لبنانيَّة؟ الكسليك: جامعة الروح القدس.
قازان، أنطوان (1998). المجموعة الكاملة-أدب وأدباء. ج 2. بيروت: دار المراد.
القصَّيفي، ماري (2012). فؤاد سليمان الكاتب الحاضر برؤيته النافذة. alhayat.com
مْلاهي، باتريك (1962). عقدة أوديب في الأسطورة وعلم النفس. ترجمة جميل سعيد. بيروت: مكتبة المعارف.
هلال، محمَّد غنيمي (1981. الرومانتيكيَّة. بيروت: دار العودة .
هويدي، صالح (1426 هـ.). النقد الأدبيّ الحديث، الزاوية-ليبيا: منشورات جامعة السابع من أبريل.
Hanfling, Oswald (2006). Rights and Human Rights. in Political Philosophy. Ed: O'hear, Anthony, Cambridge University Press.
Simmano, Patrick (2008). Francais-Le detour. Paris: Breal.
هل كلمة "الله" ملك لأحد؟ المنشأ والأصول في عصور قبل الاسلام/ د. جميل الدويهي
وصل الجدال حول ملكيَّة كلمة الله (عزّ وجلّ) إلى حدود لا تُصدِّق، بل هي أقرب إلى الخيال والكوميديا، حيث دخلت الكلمة إلى قوس المحاكم، وتبارى في الدفاع عنها المحامون وجهابذة القانون، بل سقط قتلى وجرحى، ودُمِّرت ممتلكات بسببها، فهل كلمة الله موضوع قانونيّ؟ وهل يمكن لفئة من الناس أن تدَّعي أنَّ استخدام لفظ الجلالة منوط بها دون سواها؟
إنَّ مصادرة كلمة الله ولو بالطرق القانونيَّة، إنَّما تخالف أبسط قواعد المنطق والتاريخ، أمَّا الأحكام الصادرة بخصوصها فمن شأنها أن تعرِّض الحقيقة للخطر، وتعيدنا إلى عصور الظلام والاستبداد وحصريّة الحقوق العامّة، كأن يقال مثلاً إنّ اسم العلم "موسى" ملك لطائفة معينة، فليس للطوائف الأخرى الحقّ في استخدامه، أو يقال إنَّ الإنجيل المقدّس ملك حصريّ للطوائف المسيحيّة، ولا يحقّ لغيرهم اقتناؤه أو قراءته، أو أن يقال إنَّ الوصايا العشر إنَّما هي فقط من مقتنيات إسرائيل ولا يمكن لغير الإسرائيليِّين التقيّد بها.
لقد كانت كلمة الله معروفة في الديانات القديمة، ولكنَّها كانت تُلفظ بشكل آخر، تبعاً للغة المتداولة في العصور الغابرة، فكلمة "إيل" عند الفينيقيِّين كانت تعني الإله الأكبر، وكذلك عند جيرانهم العبرانيّين. وكانت لفظة "إيل" في المدن الفينيقيّة كصور وصيدا وأوغاريت تشير إلى عظيم الآلهة في مجتمع متعدّد الآلهة، فالفرق بيننا وبين الفينيقيّين أنّ إيل هو إله متسلّط وقادر بين مجموعة من الآلهة، بينما الله عندنا فواحد أحد لا شريك له في الألوهة.
المعنى إذن تغيَّر لكنّ اللفظة لم تتغيّر، وقد جاء في قاموس "لسان العرب" أنّ إيل اسم الله تعالى بالعبرانيّة أو السريانيّة، كما جاء في "القاموس المحيط" أنّ إيل بالكسر اسم الله تعالى.
ومن الأسماء المرتبطة بكلمة "إيل" جبرائيل (في القرآن الكريم جبريل)، ومعناها رجل الله أو قوَّة الله وجبروته، وميخائيل (في القرآن الكريم ميكائيل) ومعناها من مثل الله؟ وإسرائيل ومعناها عبد الله، ويُقصد بها يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام، وإيلات، واللات (صنم عند عرب الجاهليّة). وكانت المعابد في فينيقيا تُدعى "بيت إيل" أي منزل الإله. وجاء في قصيدة فينيقيّة عُثر عليها في أوغاريت:
إذّاك نزل الإله اللطيف الرحيم إيل/ عن سدّة عرشه/ وجلس على الأرض...
فكما يبدو من النصّ المقتضب أنّ الإله إيل كان إلهاً لطيفاً، ورحيماً، وله عرش. وهذه الصفات الثلاث (اللطف، والرحمة، والجلوس على العرش) هي من الصفات التي ما نزال نعرفها إلى يومنا هذا.
ومن الصفات الأخرى التي كان الفينيقيّون يؤمنون بأنّ الإله إيل يتميّز بها: أبو البشر، إله الدهر، ربّ الزمن، إله الآلهة أو كبير الآلهة أو خالق الآلهة، خالق الأرض، الحكيم، العاقل، المحبّ... إلخ.
ولا ريب في أنّ لفظة "إيل" هي ذاتها لفظة "إنليل" في الديانة السومريّة القديمة، ومعنى "إنليل" السماوي الذي يسكن في أعالي الكون. وكان الفينيقيّون والسومريّون يتشاركون في العديد من السمات التي يختصّ بها كبير الآلهة سواء أكان إيل أو إنليل.
ولكي لا يُقال إنَّنا نعتمد فقط على اثنتين من أقدم الديانات المعروفة لكي نبرهن أنَّ أصل كلمة الله هو "إيل"، لا بدّ لنا من أن نعتمد على الديانة اليهوديَّة التي وردت فيها ألفاظ كثيرة تشير إلى إيل تحديداً ومن غير تردّد، فـ"إيل إيلواه" في اللغة العبريّة تُرجمت إلى العربيّة: الله القدير والقويّ، و"إيلوهيم" تُرجمت: الله الخالق القدير، و"إيل شدّاي" تُرجمت الله القدير، و"يهوه إيلوهيم" تُرجمت: الربّ الإله، و"إيل إيليون" تُرجمت: الله العالي، و"إيل روي" تُرجمت: إله الرؤية، و"إيل عولام" تُرجمت: الله الأزليّ، و"إيل جبهور" تُرجمت: الله القدير.
وإذا ذهبنا إلى الجزيرة العربيّة وعصر ما قبل الإسلام (يُسمّى اصطلاحاً بالعصر الجاهليّ)، نجد أنَّ لفظة "الله" كانت منتشرة بكثرة في أسماء الأعلام، وفي الشعر، وفي أحاديث العامّة بطبيعة الحال. وليس جديداً أن يُقال إنّ اللفظة ذاتها المحرّفة من "إيل" كانت معروفة في أوساط المسيحيِّين، واليهود، والصابئة والحنفيّة والوثنيّين على حدّ سواء. ولم يكن الإسلام معروفاً في تلك المرحلة. وقد عثرنا في أسماء الشعراء الذين عاشوا قبل الإسلام على نِسب وردت فيها كلمة "الله"، فأميّة بن أبي الصلت، وهو شاعر معروف ينتسب إلى جدّه عبد الله بن أبي ربيعة، والنابغة الجعدي هو قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة، وأعشى باهلة هو عامر بن الحارث بن رياح بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن سلامة... ومن الشعراء الآخرين الذين وردت كلمة الله في أسمائهم: الأصمّ الكلبي، جذيمة الأبرش، ذو الكفّ الأشلّ، زهير بن جناب بن عبدالله بن كنانة، ويزيد بن عبد الله بن سفيان، وحاتم الطائيّ المشهور بكرمه وشعره هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج، وأخو حاتم الطائيّ من الرضاعة هو عبد الله الثقفي، وزوجة حاتم هي ماوية بنت عبد الله.
جميع الأسماء التي ذكرنا تدلّ على أنّ لفظة "الله" كانت معروفة بل شائعة في عصر ما قبل الإسلام. وليس غريباً أن يكون اسم والد النبي محمد (صلعم) عبد الله بن عبد المطلب.
كما وردت لفظة الله في كثير من الشعر الذي قيل قبل الإسلام، فها هو زهير بن أبي سلمى يقول في معلّقته الشهيرة:
ولا تكتمنّ الله ما في نفوسكم ليخفى، ومهما يكتم الله يعلمِ
يؤخَّر فيوضَع في كتاب، فيّدّخر ليوم الحساب، أو يعجّل فينقمِ...
ويصف زهير رجلاً كريماً يُدعى هرم بن سنان فيقول:
فلو لم يكن في كفِّه غير نفسه لجادَ بها، فليتّقِ الله سائله...
إنَّ شاعر الحوليّات يستخدم كلمة "الله" بدلالتها المعروفة في عصره، كما يشير إلى حقائق دينيّة مفادها أنّ الإنسان لا يستطيع أن يخفي شيئاً عن الله، لأنّ الله يعلم الخفايا، والله يسجِّل في كتاب ما يفعله الإنسان، فيحاسبه في يوم الحساب، أو ينتقم منه في الحال. وهذه المفاهيم الدينيّة التي يذكرها زهير ما زالت معرفة لدى الناس إلى يومنا هذا.
والملك الضلّيل امرؤ القيس يذكر كلمة الله في شعره فيقول:
أرى إبَلي والحمد لله أصبحت ثقالاً إذا ما استقبلتْها صعودُها
ويقول النابغة الذبياني:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
ويقول حاتم الطائيّ:
لحى الله صعلوكاً مُناه وهمُّه من العيش أن يلقى لبوساً ومَطعما
ويقول أيضاً:
أأفضح جارتي وأخون جاري؟ معاذ الله أفعل ما حييتُ.
من الواضح إذن أنّ كلمة الله كانت كثيرة التداول في أزمنة سبقت الإسلام، وقد تكون تسرّبت إلى المجتمع آنذاك من الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، أو أنَّها كانت متوارَثة من عصور سبقت الديانتين، وبقي الناس يستخدمونها إلى جانب عبادتهم للأصنام. ونحن نعرف أنَّ الشاعر زهير بن أبي سلمى كان وثنيّاً (البعض يعتقد أنَّه حنفيّ من أتباع ابراهيم عليه السلام)*، وقصّة إسلام ابنه كعب مشهورة في التاريخ، فقد فضَّل كعب أن يظلّ طويلاً على دين أبيه (الوثنيّة)، قبل أن يعلن إسلامه. فكيف يكون زهير قد جمع إلى جانب وثنيّته اعتقاده بأنَّ الله يعلم كلّ شيء وأنّ لديه كتاباً يسجّل فيه ما يفعله الناس لكي يحاسبهم آجلاً أم عاجلاً؟
بعد هذا العرض التاريخيّ لاستخدام كلمة الله، بدءاً بالديانات القديمة، وانتهاء بعصر ما قبل الإسلام، يبدو لنا أنَّ لفظة "الله" هي لفظة عالميَّة Universal، غير محدّدة في إطار تاريخيّ أو جغرافيّ، وليست مسجّلة حصريّاً كمُلك لأيّ طائفة أو اتّجاه. وقد تتغيّر اللفظة: God أو Dieu، لكنّ الأساس هو أن يظلّ استخدامها حقّاً مشروعاً لجميع الناس، وإلاّ فنحن على حافّة عصر استبداديّ قد تُصادَر فيه الشمس أو يُحجَب الهواء.
______________________
*نرى أنّ زهيراً بن أبي سلمى لم يكن حنفيّاً، بل كان وثنيّاً، اعتماداً على أبيات بعث بها ابنه بجير (وكان قد أسلم) إلى ابنه الآخر كعب الذي رفض أن يُسلم، فقال:
من مُبْلغٌ كعباً فهل لك في التي تلوم عليها باطلاً وهي أحزمُ
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يومِ لا ينجو وليس بمُفلتٍ من الناس إلاَّ طاهرُ القلب مُسلم
فدين زهيرٍ وهو لا شيء دينُه ودينُ أبي سلمى عليَّ محرَّم.
يتّضح من الأبيات أنّ دين زهير بن أبي سلمى كان لا شيء في نظر ابنه المسلم، ويَذكر اللات والعزّى وهما صنمان معروفان قبل الإسلام، وذكرهما في المناسبة يتناقض مع إحتمال أن يكون زهير حنفيّاً. لكنَّنا لا ننكر إطلاقاً أن يكون زهير قد عرف الحنفيّة في حياته الطويلة.
____
تعليقات على المقال:
محمد اسماعيل ـ صنعاء اليمن يقول...
يسلم قلمك.. مقال رائع جداً، واكاديمي جداً، ومقنع جداً، ويجب ترجمته الى الماليزية بغية استخدامه كحجة دامغة في محكمة الاستئناف التي ستنظر بالدعوى المقامة من أقليات مسيحية ضد الأغلبية المسلمة التي لا أتمنى، لا أنا ولا غيري من المسلمين الشرفاء، أن ننتمي اليها. هي ضالة وتقود الكون الى ضلال.
د. جميل الدويهي. أكرر يسلم قلمك
سهيلة المصطفى ـ الاسكندرية ـ مصر يقول...
مقال رصين ومقنع، نقلته الى صفحتي على الفايس بوك لتعم المعرفة بين الوجوه الكالحة من ماليزيين وغيرهم.
د. جميل الدويهي عرف كيف يكون محامي دفاع ناجح ليس عن الأقليات المسيحية، بل عن الله نفسه، جل جلاله، وعمّت محبته. له مني التحية.
د. جميل الدويهي يقول...
الأخ العزيز محمّد اسماعيل،
شكراً لك على رسالتك الطيّبة، وليس غريباً عنك هذا الانفتاح الفكريّ، وأنت ابن اليمن السعيد، المجيد في التاريخ، ومنبع الفروسيّة والشعر. أمّا الدين يا أخي، فهو ديننا جميعاً، ونحن لا نفرّق، فالله خلقنا من شعوب وقبائل، ولو شاء لجعلنا أمّة واحدة. نحن ندافع عن الحقيقة والحقّ، ونرفض التعصّب من أيّ جهة أتى.
لك منِّي أجمل تحيّة. وإلى أصدقائنا في اليمن: حيّاكم الله.
جميل
د. جميل الدويهي يقول...
الأخت العزيزة سهيلة المصطفى،
شكراً لكِ على رسالتك اللطيفة، وكم أنا سعيد لأنَّكِ شاركتني في نظرتي العادلة إلى القضيّة، فنحن جميعاً أبناء الله، وهناك مَن يسعون للتفريق بيننا من أجل خراب العالم، وهم من جميع الطوائف. وإنَّني في مقالتي أدافع عن الحقّ والحقيقة، وأرجو من الله عزّ وجلّ أن يحفظك، ويحفظ مصر الغالية علينا جميعاً من كلِّ شرّ.
لكِ أجمل تحيّة، وللحبيبة مصر سلام من لبنان الذي يحبّها ويحبُّكم إلى الأبد.
جميل
فيصل جلول يطارد سعيد عقل إلى مثواه
ودينا جابر اكتشفت أنّ الشاعر الكبير "بلا عقل"
بقلم د. جميل الدويهي
ينطلق فيصل جلول في مقالته "سعيد عقل مات عنصريا يحتقر العرب ولسانهم ويحلم بإبادة الفلسطينيين فعلام تضيروه (الصحيح تضيرونه) في مرقده الاخير؟" (صحيفة رأي اليوم، عدد 5 كانون الأول 2014) من جملة أفكار مسبقة كوّنها عن الشاعر الكبير سعيد عقل، وأيضاً من منطلق أيديولوجي وسياسي، ما يُظهر نأي جلول نأياً تاماً عن طبيعة النقد العلمي الذي لا يختلط فيه الحابل بالنابل، فالموقف السياسي والاجتماعي والديني لا يتعارض مع شعرية الشاعر، ولنا في التاريخ أمثلة عديدة على صحّة ما نقول، فكون امرئ القيس خليعاً متهتّكاً ومطارداً للنساء لا يلغي عنه أنه شاعر مبدع، بل هو أوّل الفحول وأعلاهم مقاماً، وأرهبهم سطوة، وكون أبي نواس ماجناً وزنديقاً (في التعريف الديني الضيق)، لا ينفي عنه أنه من كبار الشعراء، وما قصيدته "دع عنك لومي" إلا تحفة فنية نادرة، تحتوي على شذرات من علوم الاجتماع والكيمياء والفيزياء وعلم النفس. وكان أبو نواس كارهاً للعرب، محتقراً لهم، ولا يرضى العيش في خيامهم: "ليس الاعاريب عند الله من أحد" يقول. وفي قصيدته التي ذكرناها يقول: "حاشا لدرّة أن تبنى الخيام لها وأن تروح عليها الإبل والشاء". أي إنه يرفض أن تدخل الخمرة إلى الخيمة العربية حيث ينام الأعراب إلى جانب الإبل والأغنام. وكان الكثير من الشعراء العرب في العصر العباسي يوصفون بالشعوبية أي باحتقار العرب، واعتبار أصولهم أرقى من الأصل العربي.
ولكي لا نُفهم خطأ ويقال إننا ندافع عن هؤلاء الشعوبيين، نسارع إلى القول: إن التمييز بين الشعوب والأعراق أمر في منتهى القبح، فليس لأحد فضل على أحد، لكنّ العنصريّة موجودة في كل أرض ومهما وُضعت قوانين لمنعها فإنها ستبقى بنسب متفاوتة هنا وهناك. وفي الوقت نفسه نصرّ على فكرة أنّ السلوك الشخصي للشاعر ومواقفه لا تعني أنه ليس بشاعر، وأن تحقيره في موته ليس فضيلة إلا لدى من لا يحترمون الميت في لحده، وأن الحطّ من قدره ليس واجباً مقدّساً إلا لدى قصيري النظر، فكم من شاعر ماركسي دُرِّس في جامعات أوروبا، وكم من عازف موسيقي يميل إلى النازية الهتلريّة ما تزال أعماله مشعة في العصور، فها هو مكسيم غوركي الأديب البلشفي الأول حاضر في كل مكتبة، في الشرق والغرب، وها هو أرثر ريمبو، على ما ألصق به من تهم أخلاقيّة، صوت صارخ في ضمير الشعر، وها هو اللورد بايرون المعادي للعثمانيين يدرّس في جامعات أنقرة واسطنبول, وها هو عزرا باوند الشاعر العملاق المناصر لفاشيّة موسوليني يكرّم في الغرب، ولكن عندنا في الشرق، فطائر الهامة يصيح في كثير من النفوس على مر السنوات: اسقوني اسقوني، فالثأر من القاتل والقتيل على حد سواء، ومسلسل الرعب مستمرّ إلى ما لا نهاية، وعندما نثأر للدم البالي فنحن لا نغادر المآتم.
نعم، كرِه سعيد عقل اللغة العربية، وقد يكون لم يحبّ العرب، وبشّر بالحرف اللاتيني، وأحب ذات يوم إسرائيل، وأعلن حربه على الفلسطينيين، ولكنه لم يصافح الإسرائيليين ولا عقدَ معهم معاهدات سلام، ولا جالسَهم ولا شرب القهوة معهم. وهو ينطلق من فكر سياسيّ كونه الرجل خلال حياته الطويلة. وكان يقول جهاراً نهاراً: "ما بحبّش العرب". ولكن الشعر شيء والانتماء السياسي شيء آخر.
ويرفض جلول مسامحة الرجل، بل يصر على عدم الفصل بين موقفه السياسي وشعره، فيقول: إن الفصل بين مواقف سعيد عقل وشعره تشبه "بأن يعفو قاض على مجرم لأنه عازف بيانو جيد أو ناظم أشعار جميلة". ويتضح من هذا الكلام أن جلول يسعى إلى محاكمة سعيد عقل في قبره، وهنا نسأله: لماذا لم يتوجّه إلى بيروت ويرفع قضية ضد سعيد عقل وهو حي بتهمة التحريض العنصري؟ ولماذا انتظر الرجل حتى يموت لكي ينقض عليه ويهشمه؟ ونحن لم نرَ جلول يكتب مقالة واحدة في زمن سعيد عقل ضد سعيد عقل، فهل كان أطرش وأصم، وفجأة تفتحت أذناه وانطلق لسانه بعد وفاة سعيد عقل؟
وينتقد جلول الصحف التي تدّعي الدفاع عن "المقاومة اللبنانية" في وصفها لسعيد عقل بأنه "كريستال الصالون، أناقته لا تضاهى، قطعة الزمرد، لم يلتوِ له غصن... إلخ". وفي رأينا كان على تلك الصحف أن توضح لجلول أن كتابها محترفون، ويفهمون الأدب والشعر، ولا يحكمون على الوردة من خلال شوكها بل من خلال عطرها ورونقها. جميع اللبنانيين يعرفون سعيد عقل واتجاهاته الفكرية، والرجل ليس جباناً بل كان يقول كلمته بصوت عال وفي وضح النهار، واللبنانيون لا يثأرون من الموتى. وهكذا كنا نشتهي أن يفعل السيد جلول، فالأعداء في المآتم يتصالحون، والأحياء لا يدينون لكي لا يُدانوا ذات يوم.
ويستشهد جلول بأقوال لسعيد عقل تبدو أغلبها مأخوذة من فترة الحرب اللبنانية، وبعنصريته ضد الفلسطينيين، وسعيد عقل كما هو معروف الأب الروحي لحزب "حراس الأرز" الذي كان يعادي الفلسطينيين (في لبنان فقط). وما أدراك ما الحرب وما فيها من فواحش: "وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجَّم". وقد عفا اتفاق الطائف عما مضى، فلماذا لا يعفو جلول ويريد أن يطارد سعيد عقل ذي المئتين واثنين من الأعوام إلى مثواه الأخير؟
وينتقد فيصل جلول كلام الشاعر طلال حيدر الذي طالب بأن يُعلن العالم العربي الحداد على سعيد عقل. وطلال حيدر شاعر شفّاف أنيق، متسامح، لا يمثل بالجثث، ويرفض طعن الموتى بالسكاكين وهم في أكفانهم... وطلال حيدر شاعر يتخطى مشاعر العداء والنفور ليقف بجلال أمام هيبة الموت، وطلال حيدر يفهم فقط سعيد عقل شاعراً ولا يحكم عليه إلا من خلال شعره، وشتّان بين أحاسيس طلال حيدر ومن هم مثل طلال حيدر وبين إنسان مملوء حقداً وانتقاماً ورغبة في التشفي.
ويتعمد جلول استخدام لغة أدبية لكي يدغدغ المشاعر ويحرّض على الشاعر الميت: "في الحدائق العنصرية والفاشية والنازية تروى النباتات بدماء الضحايا وآلامهم وصراخهم. وفي "حديقة" سعيد عقل، نبتت شقائق النعمان على دم طفل فلسطيني قتله شعار "ادفع دولارا تقتل فلسطينيا" وعلى دموع امرأة لبنانية فقيرة ذبحت ميليشيا الشاعر عائلتها في صبرا وشاتيلا". ونحن نترك للقارئ اللبيب أن يكشف مقدار الإفراط في تصوير الشاعر سعيد عقل، وبلغة أدبية ضعيفة، وكأنه مسؤول عن المجازر والكوارث جميعاً. كما نترك للقارئ أيضاً أن يكتشف "الحيدية" في كلام جلول، حيث لا يريد أن يعطي أي انطباع بأن مجازر أخرى غير صبرا وشاتيلا قد ارتُكبت.
وكم كنا نتمنى أن يبرهن لنا جلول مواطن الضعف والركاكة في شعر سعيد عقل، وأن يكتب لنا مقالة عن سرقات سعيد عقل (مثلاً)، بدلاً من أن يدفعنا إلى الغثيان بحقد أعمى، وانتقام فظيع...
ومثل جلول فعلت دينا جابر، التي كتبت مقالاً بعنوان: "الجنازة حامية والميت "بلا عقل"" (شبكة قدس، 30 تشرين الثاني 2014)، وجميع العرب يعرفون كيف حوّرت جابر، حاملة الماجستير، مثلاً شائعاً يُحقّر الميت لتطلقه عنواناً لمقالتها. وتنطلق لينا أيضاً من مجزرة صبرا وشاتيلا، وهي كما يعرف جميع الناس ليست مجزَرة يتيمة في تاريخ الحرب اللبنانية لكي يتم التركيز عليها باستمرار، و"تحييد" الأنظار عن غيرها من المآسي والمآتم، فالروح البشرية هي روح إلى أي جهة انتمت، وليس في الأرواح تفضيل.
وماذا إذا كان سعيد عقل يؤمن بالقومية اللبنانية؟ إنّ أحزاباً عربية قامت على فكرة الفينيقيّة التي تستثني دولاً عربية من إطار الوحدة. وأيّ وحدة؟! وهناك فئات تطالب بأن تكون القومية إسلامية لا عروبية، وفئات في مصر طالبت وتطالب بالفرعونية, ولسنا في حاجة إلى أمثلة على صحة ما نقول.
ثم هل عند جابر مقياس للعقل شبيه بمقياس ريختر لكي تميز بين العقل النيّر والعقل الضعيف؟ وهل هي أكاديمية فعلاً لتقول عن إنسان إنه بغير عقل؟ وهل ثقافتها ومعرفتها أعمق من معرفة سعيد عقل؟ وهل شعريّتها رائدة ونثرها جليل؟ وهل تستطيع أن تحاضر في العلوم والحضارة والدين والفكر ارتجالاً كسعيد عقل؟ إنني أراهن بأن جابر لم تنظم بيتاً من الشعر في حياتها، وإن كتبت بيتاً فهو ركيك.
لقد أعمى بصرها الحقد على الرجل، ولكن ويبقى سعيد عقل فوق الفوق - كما قلت في قصيدتي عنه- فمهما لعلعت الرياح يظلّ الجبل واقفاً ولا يموت. وإذا كان جلول وجابر يريدان نبش القبور والعودة إلى الماضي، فمن حقّ اللبنانيين أن يطالبوهما بصفاء الذاكرة، والحكم بالعدل الذي هو سيّد الأحكام.
وتطلب جابر في النهاية أن ندخل إلى محرِّك غوغل لنعرف من هو شاعر الأمة العربية، سعيد عقل أم محمود درويش؟ وهذا الطلب لا يعنينا لا كمثقّفين ولا أكاديميين ولا أناس عاديين، بل هو يدل على سذاجة لدى من تطلبه، فهل التفضيل بين إدغار ألن بو ومحمود درويش يجب أن يقوم على الترويج للقومية العربية؟ إنّ سعيد عقل لم يبنِ عمارته الشعرية لا على القومية العربية ولا على القومية اللبنانية. لقد بناها بشعر راقٍ، هو فعلاً "كريستال الصالون، وأناقته لا تضاهى، وهو قطعة الزمرد، ولم يلتوِ له غصن"... وبلغة عالية لا يبلغ شأنها لا القليلون.
الأسطورة في أدب سعيد عقل
د. جميل الدويهي
بحث أكاديمي ألقي في حلقة دراسية بعنوان "سعيد عقل الإرث والمبتكر "- 2012
نشرت في كتاب "سعيد عقل الإرث والمبتكر" منشورات جامعة سيدة اللويزة-بيروت- 2012 ص 17-42
مقدِّمة:
لا نكاد نعثر على أيِّ أثر للأسطورة في شعر سعيد عقل، ما عدا في مسرحيَّة شعريَّة واحدة هي "قدموس" (1937)، ومجموعة أقاصيص هي "لبنان إن حكى"(1960). وكلا الكتابين يتناول مواضيع ذات علاقة وطيدة بالنبوغ اللبنانيِّ، ودور لبنان القديم في إغناء الحضارات، ونشر الثقافة والسلام في العالم.
وقد نشر سعيد عقل مسرحيَّة شعريَّة بعنوان "المجدليَّة" (1944). واعتبرها البعض ذات منحى أسطوريٍّ، كما فعل الباحث جوزيف لبُّس في بحث له بعنوان: "سعيد عقل كاتباً أسطوريّاً في المجدليَّة وقدموس "لبُّس، جوزيف (لبُّس، 2012، ص 132). ونحن لا نرى أنَّ قصَّة المجدليَّة هي قصَّة أسطوريَّة، ليس من منطلق إيمانيٍّ مسيحيٍّ، إنَّما انطلاقاً من التعريف العلميِّ الثابت للأسطورة، حيث أنَّها حكايات غـير معقولة، خاصَّــة بالآلهة وبأنصــاف الآلهة، وبالأبطال الخارقــين في ديانة وثنيَّة (Dictionnaire Quillet de la Langue Francaise, V.2, 1959, p.1250)، أو هي في تعريف آخر "قصَّة خياليَّة، قوامها الخوارق والأعاجيب، التي لم تقع في التاريخ، ولا يقبلها العقل." (زكي، 1979، ص 107)
وهناك تعريفات أخرى كثيرة تتناول الأسطورة من حيث أنَّها حكاية خارقة للطبيعة، تقوم على حوادث غير معقولة ولا يقبلها العقل، وأبطالها من عالم ما ورائيٍّ، أو أبطال يقومون بأعمال لا يمكن أن يقوم بها الناس العاديُّون. فالأسطورة في هذا المعنى هي "وليدة انسلاخ عقليٍّ عن الواقع، ولكنَّ هذا الانسلاخ يتمُّ بمشاركة بشريَّة جماعيَّة." (مونتاجيو، 1965، ص 314)
وقد ورد في معجم تاج العروس :"الأساطير: الأباطيل، والأكاذيب، والأحاديث لا نظام لها."(الزبيدي، لا تاريخ، ص 267)
نريد ممَّا سبق من التعريفات بشأن الأسطورة أن نصل إلى هدفين:
الهدف الأوَّل هو نفي الصبغة الأسطوريَّة عن مسرحيَّة "المجدليَّة"، لعدم وجود إثبات تاريخيٍّ قاطع على أنَّها من الخوارق التي لا يقبلها العقل، أو أنَّها من الأحاديث التي وضعها الناس لتفسير الظواهر غير المألوفة. ففي التاريخ أنَّ المجدليَّة هي امرأة من الواقع، وقد قابلت المسيح ورأته، ورافقته في رحلة الصلب والقيامة (ينظر متَّى 27: 55- 61). وقد يعتبر البعض أنَّ حكاية المجدليَّة مع المسيح تتضمَّن بعض الملامح الأسطوريَّة، مثل الشياطين السبعة التي أخرجها المسيح من المرأة الخاطئة. وقد جاء في الكتاب المقدَّس: "وَبَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ."(لوقا 2:8)، ولكنَّ هذا لا يكفي لنعتبر أنَّ قصَّة المجدليَّة القدِّيسة هي نوع من الأسطورة، فالمسيح نفسه قابل الشيطان، وتحدَّث إليه (لوقا 4: 1- 2).
وقد لفتنا أنَّ الباحث لبُّس حين يعالج موضوع الأسطورة في مسرحيَّة "المجدليَّة"، لا يلتفت إلى أيِّ موضوع أسطوريٍّ بعينه، بل يتناول مواضيع ذكرها الكتاب المقدَّس والمؤرِّخون، وهي: المرأة الزانية، وموقف سعيد عقل منها، "إذ لمح فيها كائناً سماويّاً يساوي يسوع روعة وجمالاً وصفاء." (لبُّس، 2012، ص 133). كما يتناول الباحث حبَّ يسوع للمجدليَّة، وتوبة المرأة (لبُّس، 2012، الصفحات 132حتَّى 138).
الهدف الثاني هو تبرير عدم تناولنا لمسرحيَّة "المجدليَّة" في بحثنا، والاقتصار على كتابين لسعيد عقل فقط، هما "قدموس"، و"لبنان إن حكى". فإنَّ إدراج "المجدليَّة" تحت مسمَّى الأسطورة سيفرض علينا أيضاً إدراج مسرحيَّة "بنت يفتاح" (1935) التي استقى سعيد عقل موضوعها من القَصص التوراتيِّ، وهي تروي حكاية يفتاح الجلعاديِّ الذي طرده إخوته من بينهم لكونه وُلد من امرأة بغيّ. وبعد أن تعرَّض قومه للذلِّ على أيدي الأعداء، طلبوا مساعدته، فنذر أنَّه إذا انتصر في الحرب سيقدِّم أوَّل مَن يخرج من بيته كذبيحة للإله. وتنتهي الحرب بانتصار يفتاح، وتكون ابنته التي يحبُّها كثيراً هي ضحيَّة ذلك النذر المشؤوم (ينظر سفر القضاة 11: 1-40). ولسنا نرى في هذه القصَّة ما يخالف الواقع أو ما ينفي أن تكون حدثت حقيقة في التاريخ. أمَّا سعيد عقل نفسه، ففي مقدِّمة "بنت يفتاح" يذكر أنَّه استقى هــذه المسرحيَّة من "العهد القديم" والتاريخ، ولا يذكر شيئاً عـن كونها أسطورة (عقل، 1991، ص 16).
وفي بحثنا هذا، سنحاول إلقاء الضوء على القصَص الأسطوريِّ في "قدموس" و"لبنان إن حكى"، وهدف الكاتب من استخدام الأسطورة، فالأسطورة ليست حكاية تروى فحسب، على سبيل الإمتاع وجذب المتلقِّي، إنَّما هي أيضاً رافد رمزيٌّ، له أبعاد ودلالات. وأسطورة سعيد عقل هي أسطورة تاريخيَّة يستعيد الكاتب من خلالها صوَر الأبطال الأقدمين ومآثرهم، ويمكن في الوقت نفسه قراءتها بصورة أعمق ممَّا تُظهره في الواقع، فصورة الصراع مثلاً بين البطل وعدوِّه قد تظهر الخلاف التاريخيَّ المستحكم بين شعبين، أو بين قوَّتين. ولا يستطيع الأدب، بدون استغلال الأسطورة، تحقيق الصورة التي يريد أن يرسمها بتلك السهولة والتركيز والثراء (الكفراوي، 1971، ص 387).
وقد قسمنا بحثنا إلى قسمين: 1- مصادر الأسطورة في "قدموس" و"لبنان إن حكى"، 2- ودراسة تحليليَّة للقَصص الأسطوريِّ عند سعيد عقل (دلالات الأسطورة ورموزها).
1- مصادر الأسطورة في "قدموس" "ولبنان إن حكى":
يتَّخذ سعيد عقل في أساطيره مجموعة من المصادر المختلفة، كمصادر التراث الفينيقيِّ، واليونانيِّ القديم، والمصريِّ والتوراتيِّ والمسيحيِّ. فمسرحيَّة "قدموس" مأخوذة من قصَّة يونانيَّة - فينيقيَّة قديمة، يعرفها الكثير من اللبنانيِّين، لما لها من ارتباط بتاريخهم، ولكونها تُظهر فضل فينيقيا على الغرب، خصوصاً من ناحية نشر الحروف الهجائيَّة وثقافة السلام. وقد وردت هذه الأسطورة في كتب التاريخ المدرسيَّة التي يتعلَّمها الصغار في المدارس، كما يعرفها الكبار من غير المثقَّفين. يقول جوَّاد بولس: "وقد أقرَّ الإغريق القدامى أنفسهم بأنَّ الفينيقيِّين هم روَّاد نهضة البلاد الهلِّينيَّة الحضاريَّة. وإذا عدنا إلى قصصهم الأكثر شهرة وأمانة، نجد قدموس Cadmus ابن أغينور Agenor، الذي ذهب للتفتيش عن أخته أوربَّا Europa التي خطفها الإله زفس Zeus، قد أسَّس مدينة "طيبة" Thebes ، في بلاد الإغريق، ونشر الأبجديَّة، وعلَّم الإغريق فنَّ حراثة الأرض واستغلال المناجم، وصهر المعادن." (بولس، 1972، ص 159 - 160)
وقد وردت قصَّة قدموس وأوروب في الميثولوجيا اليونانيَّة، فقد رأى زوش أوروبَّا ابنة الفينيق، تقطف الأزهار من حقل، مع أتراب لها، فوقع في غرامها، وحوَّل نفسه إلى ثورٍ جميل، ونفخ من فمه عطراً سحريّاً جاذباً، وهكذا خدع أوروبَّا، فوضعها على ظهره ثمَّ عبر البحر إلى كريت .(Gommers, 2001, p. 44)
وبالإضافة إلى أصل الأسطورة الفينيِّ - يونانيّ، فهناك عناصر أخرى فيها تقرِّبها أكثر إلى اليونانيَّة منها إلى الفينيقيَّة، كصورة التنِّين الذي يحاربه قدموس وينتصر عليه، ثمَّ يجعل من أسنانه مدينة. وقد شاعت صورة التنِّين في التراث اليونانيِّ، وكان بأشكال متعدِّدة أهمُّها المنطور Minotaur. فأريادنا Ariadne ابنة مينوس Minos ملك كريت ساعدت ثيزيوس Theseus على قتل المنطور .(Barber, 1979, p. 23)
كما أنَّ الأسطورة اليونانيَّة تصوِّر أندروميدا Andromeda مقيَّدة إلى صخرة لتكون ضحيَّة لوحش مفترس يخرج مــن البحر. لكنَّ بيرسيوس Perseus يأتـي فـي الـوقت المناسب ليقتل الوحش الهــائــل Grimal, 1996, p.p. 42 - 43)).
كما أنَّ هناك عنصراً آخر في أسطورة قدموس قد يكون مستوحى من الميثولوجيا اليونانيَّة، وهو عنصر الخطف من قِبل الآلهة، فغانيميد Ganymede على سبيل المثال كان صبيّاً فاختُطف مـن قبل الآلهة، ليصبح نادلاً يقدِّم لهـم كؤوس الشراب (Grimal, 1996, p. 169).
أمَّا العنصر الثالث الذي يدلُّ على ارتباط أسطورة قدموس بالأساطير الإغريقيَّة، فهو زواج أوروب من الإله زفس،
فهناك الكثير من الزيجات في ميثولوجيا اليونان تقع بين الأنس والآلهة، ومنها الزواج بين زوش نفسه وامرأة أخرى
مــن الناس تدعــى ألكمين Alcmene، وأنجب منها البطل الأسطوريَّ هـرقــل Hercules .(Barber, 1979, p. 11)
وتظهر الأساطير الإغريقيَّة أنَّ كبير الآلهة زوش كان يتخفَّى في أشكال متعدِّدة لكي يقيم علاقات مع نساء من البشر .(www.mythencyclopedia.com)
أمَّا العلاقة بين قدموس وبناء مدينة طيبة، فتشبه إلى حدٍّ بعيد العلاقة بين أمفيون Amphion ومدينة طيبة نفسها، إذ كان أمفيون أيضاً أحد أبناء زوش، وكان أمفيون موسيقيّاً بارعاً، وقد بنى مع أخيه زيتوس Zethus أسوار طيبة، وكان أمفيون يعزف بأعجوبة، فتهبُّ الحجارة من مقالعها لترتفع جدراناً (Grimal, 1996, p. 38).
وفي "لبنان إن حكى"، يستخدم سعيد عقل مجموعة من الأساطير الفينيقيَّة واليونانيَّة والمصريَّة والمسيحيَّة، فعلى الرغم من الواقعيَّة التأريخيَّة في أقصوصة "مأساة فيثاغورس" نجده يختتمها بصورة شعريَّة رقيقة، تمتزج فيها الأسطورة مع الواقع في تزاوج خلاَّق، حيث يجعل دامو(Damo) ، ابنة فيثاغورس(Pythagoras) ، تنتقل إلى لبنان لتنشئ مدرسة، فتموت في البحر أثناء الرحلة، وتدفن فوق رابية مشرفة على البحر سمَّاها أحد الربابنة دامو، وغرس فوق القبر سنديانة لتكون العلامة التي يُهتدى بها إلى قبر البنت، "ويقال إنَّه في العام التالي زار الربَّان قبر الجميلة الجميلة، فإذا غرسة السنديان قد كبرت كما لو كان انقضى عليها مئات السنين." (عقل، 1984، ص 25) إنَّ صورة الشجرة فوق القبر هي صورة ميثولوجيَّة تعود إلى جذور قديمة جدّاً، فقد كانت الشجرة تزرع على قبور الآلهة، وتسمَّـى الشجـرة المقدَّسة(Sacred Tree) ، وهــذه الشجرة تنمو وتكبر مــن دماء الضحيَّة .(Allen, 2000, p. 59)
وفي أقصوصة "أرض الأبطال"، يمزج سعيد عقل بين التاريخ الحقيقيِّ والأسطورة، فهي ترتكز في الأساس على قصَّة الحُبِّ بين أنطونيو Antonios (*) وكليواباترا Cleopatra(**)، وعندما تلتقي كليوباترا بحبيبها أنطونيو في لبنان، تروح تنشد له:
"عندما كان أطلس،
أطلس أخو بروميثيوس، ذاك الذي لاشتراكه في القتال
بين جبابرة وآلهة،
كان قد استحقَّ غضب زوش، فحكم عليه بأن يحمل على منكبيه قبَّة السماء،
عندما كان أبو الثوَّار
يختال بحمله المكوكب الجميل،
تراءيت له، يا حبيبي أنطونيو،
قبل أن تولد بكرَّات من السنين،
تراءيت له بهيكلك العملاق الأنيق.
وكان؟
كان أن ضاع أطلس، كمن أخذ بحميَّا الكأس،
فزحلت السماء قليلاً عن كتفه
وانهار منها على الأرض
بعضٌ من تراب!
هذا المكان الذي من زحلةِ السماء." (عقل، 1984، ص 28)
يبدو جليّاً أنَّ عقل بقيم ترابطاً عضويّاً بين ثلاثة عناصر: قصَّة حبِّ أنطونيو لكليوباترا، وهي قصَّة من التاريخ الرومانيِّ- المصريِّ، وقصَّة حمل أطلس للسماء على كتفه، وهي قصَّة يونانيَّة، مفادها أنَّ أطلس هو واحدٌ من العمالقة الأشرار، وقد حارب ضدَّ زوش في معركة الآلهة مع الطياطن (Titans)، وبعدما انتصر الآلهة في المعركة، عاقب زوش أطلس بأن يحمل عبء السموات على كتفيه إلى الأبد (Ditocco, 2005, p. 14) ، والعنصر الثالث هو ظهور أنطونيو على أطلس، وهذا اللقاء بين البطل أنطونيو والرمز الميثولوجيِّ أطلس هو من غير أدنى شكٍّ من ابتداع سعيد عقل، ولا وجود له في أيِّ نصٍّ قديم، خصوصاً أنَّ أطلس هو شخصيَّة أسطوريَّة إغريقيَّة، بينما أنطونيو محارب رومانيٌّ. وهدف سعيد عقل من هذا الجمع بين الرمزين هو أن تؤدِّي المفاجأة التي شعر بها أطلس إلى سقوط بعض التراب من السموات على الأرض، فتنشأ عليه مدينة زحلة، وتكون ابنة السماء.
وفي الأقصوصة نفسها يجعل سعيد عقل الحطَّابة، وهي إحدى الشخصيَّات الأسطوريَّة من ذوات الحكمة والعقل، تموت وهي في عمر مئة وأربع سنوات، ولكنَّها "لا تزال تظهر من وقت لآخر. وهي إنَّما تُشاهد ليلاً. لا يشاهدها إلاَّ الطاهرات القلب، من أولئك الحسان المرحات اللواتي يتنـزَّهن على الضفاف." (عقل، 1984، ص 32-33) ولا ريب في أنَّ هــذا الظهور للمرأة العجوز ينطوي على أصول مسيحيَّة مشرقيَّة، حيث يكثر الإيمان بالعجائب والكرامات وظهور القدِّيسين على العامَّة.
ويتابع عقل رحلته في معين التراث الأسطوريِّ، فيكتب "التي غنَّاها شكسبير"، وفيها أنَّ مارينا الصوريَّة تعود إلى الحياة على يد الإلهة الرومانيَّة ديانا Diana (عقل، 1984، ص 38- 39). ومن الواضح أنَّ العودة من الموت تتكرَّر كثيراً في القصص الميثولوجيِّ اليونانيِّ والفينيقيِّ، فأورفه (Orpheus) يذهب إلى العالم السفليِّ ليستعيد زوجته من الموت، فيعزف للآلهة التي ترضى عنه وتعيد امرأته إلى الحياة (Bell, 1982, p.p. 262-264). وأدونيس Adonis في الأسطورة الفينيقيَّة يعود إلى الحياة بصورة مجازيَّة مع الربيع وتدفُّق النهر، كما أنَّ طائر الفينيق Phoenix يعود إلى الحياة بعد احتراقه.
أمَّا في "النفس بعد الموت"، فينحو سعيد عقل منحىً فينيقيّاً، حيث أنَّ العصفورة التي تسكن في برج الفيدار منذ ألوف السنين، وتغادره كلَّما عرفت الأرض حبّاً عظيماً، هي عصفورة لا تموت (عقل، 1984، ص 49) فالعصفورة هنا هي نسخة أنثويَّة مطابقة لطائر الفينيق. وقد أدخل عقل إلى هذه الأسطورة عنصراً من الميثولوجيا المصريَّة، فيوم قتل سيثSet مصر أخاه أوزيريس Osiris، قصدت أيزيس Isis إلى جبيل، دون سواها، تستردُّ الحبيب من الموت، فطلب منها الكاهن الجبيليُّ أن تبكي بغزارة، وقد ساعدها نهر الفيدار في البكاء حتَّى كاد أن يجفَّ، وعاد حبيب أيزيس إلى الحياة." (عقل، 1984، ص 51) وقد جاء في الأساطير المصريَّة: "كان أوزيريس موسيقيّاً بارعاً أحبَّه الناس، فحقد عليه أخوه سِت، وتآمر مع آخرين حتَّى صنع صندوقاً بحجم أوزيريس الذي كان طويل القامة جدّاً، وأغلق سِت الصندوق بمعونة أنصاره وألقاه في النيل بعدما أحكم إغلاقه. وجدَّت إيزيس زوجته في البحث عن جثَّته، حتَّى عثرت عليها داخـل شجرة أزر فـي جبيل "بيبلوس" كان الملك قد قطعها وأقامها عموداً ودعامة في قصره." (موسوعة الأديان في العالم- الديانات القديمة، 2000، ص 15)
وفي الأقصوصة نفسها يظهِّر سعيد عقل مدينة جبيل كمَقصد لأناس موجعين، أو فقدوا أحبَّاءهم، يستشفون بالإيمان، من نوميديِّين وهنود وصينيِّين وحضارمة وبابليِّين ومصريِّين (عقل، 1984، ص 50)، وذلك في إشارة إلى أنّ جبيل كانت مركزاً دينيّاً مهمَّاً في العصور الفينيقيَّة ومعبداً للأله، "يتوجَّه إليها المؤمنون بخلود الأرواح من كلِّ صوب." (جبر، 2001، ص 7)
وفي "هوميروس الذي من لبنان" يستند عقل على الميثولوجيا اليونانيَّة مجدَّداً، حيث أنَّ كريتيس Kretheis والدة هوميروسHomer (واسمه الأصليُّ ميليسِّجين (Melesigenes ، تتوجَّه إلى نهر الميليس Meles، وهو إله أيضا، ليبارك ابنها (عقل، 1984، ص 53- 54) وفي الأسطورة اليونانيَّة أنَّ هوميروس سُمِّي ميليسجين (ومعنى الاسم: ابن النهر ميليس)، وكـان هــذا النهر والد هوميروس، إذ وضعته أمُّــه إلى جــانب النهر .(Beecroft, 2010, p. 74)
وفي "قبلة أفروديت" يروي سعيد عقل قصَّة الحرب بين الأرض والسماء، بين تيفيا Typhosالشرِّير من جهة وزوش وأثِنا Athena ربَّة الحكمة من جهة أخرى. ومن المؤكَّد أنَّ هذه الحرب قد ورد ذكرها في الميثولوجيا الإغـريقيَّة، وكــان النصــر فيها حليفاً لزوش الذي ساعــده الآلهــة الصالحــون.(www.greek-mythology-gods.com)
ويمزج سعيد عقل هذه الأسطورة بعناصر فينيقيَّة، حيث يجعل إلهة الحبِّ والجمال اليونانيَّة أفروديت(Aphrodite) تختبئ في بحيرة اليموُّنة من وجه الشرِّ، وتقع في غرام قدموس، فتعده بقبلة منها إذا ساعدها في استعادة عضلات زوش التي تحرسها التنِّينة دلفينا(Delphina) (عقل، 1984، ص 70). هذا مع العلم أنَّ أفروديت ذات علاقة أوطد بأدونيس، حيث أنَّها في الترجمة الرومانيَّة هي ديانا، وفي الترجمة الفينيقيَّة هي عشتروت. كما يضمِّن عقل حكايته قصَّة طريفة مفادها أنَّ باريس ابن الملك فريام رمى بالتفَّاحة إلى أفروديت، مختاراً لها كأجمل النساء، ومفضِّلاً إيَّاها على هيرا(Hera) زوجة زوش وعلى أثِنا ربَّة الحكمة (عقل، 1984، ص 71). وقد وردت هذه القصَّة أيضاً في الميثولوجيا اليونانيَّة، فعندما قدم باريسParis الطروادي إلى أفروديت التفاحه الذهبية التي اختلفت عليها الربَّات، كافأته على ذلك بأن وهبته أجمل امرأه في الكون، وهي هيلينا (Helena) التى من أجلها نشبت حرب طروادة.
(Colombia Encyclopedia (2011). 6th Edition. http://www.encyclopedia.com)
ويروي سعيد عقل في أقصوصة "يرفع الأرض إلى السماء" قصَّة الفتاة الجميلة تيروس Tyrus التي سمِّيت صور باسمها:
"كانت تيروس تتنـزَّه على سيف البحر، فبصر بها الإله ملكرت Melqart، وإذا بكلبها مقبل، وقد عضَّت نواجذه على حيوان بحريٍّ مصدَّف يقطر منه دم ذو حمرة تأخذ بالألباب، فالتفتت تيروس إلى إله البطولة وقالت: أكون لك إن صبعتَ لي بهذا الأحمر البهيِّ ثوباً أخطُر به بين الآلهة. وأقسم ملكرت ليفعلنَّ. وراح رجاله، بحَّارة صور الشجعان، يغوصون في اليمِّ، مواجهين ألف خطر وخطر، ومنقِّبين عن الحيوان المصدَّف النادر. إنَّه المورِكْس." (عقل، 1984، صفحة 76). وتقول الأسطورة اليونانيَّة إنَّ هرقل Hercules كان واقعاً في حبِّ تيروس. وذات يوم كانت تتنـزَّه مع كلبها على شاطئ البحر، فعاد الكلب وعلى فمه صباغ أحمر من صدفة الموركس، فطلبت تيروس من هرقل أن يهديها ثوباً بهذا اللون، وإلاَّ فإنَّه سيخسر حبَّها، فعمل هرقل جاهداً للعثور على اللون الأرجوانيِّ الذي يمثِّل مجد صور (Grimal, 1996, p. 462).
ومن الواضح أنَّ سعيد عقل يستبدل شخصيَّة هيراكليس بشخصيَّة ملكرت، وهو إله فينيقيٌّ. وقد كان شائعاً المزج بين الآلهـة عند اليونان والفينيقيِّين، فالأسطورة الفينيقيَّة تذكر أنَّ حبيب تيروس هــو الإله ملكرت وليس هرقل
(Tarnowsky, 1997, p.p. 18-19).
وفي أقصوصة "زارنا التاريخ" يعرِّج عقل على أسطورة فينيقيَّة، فيعتبر أنَّ جبيل هي "أولى بنات إيل - إله الزمن- تجرَّأت وانحدرت عن أصابعه بينما كانت شقيقاتها المدن وجلات مرتجفات من برد." (عقل، 1984، ص 116) فاسم جبيل قد يكون مركَّباً من "جُبّ" و"إيل"، أي ينبوع الإله أو بيت الله (جبر، 2001، ص 10).
وقد كثرت الأساطير بشأن ولادة جبيل المدينة، و"ذكرت إحداها أنَّ كرونوس Cronusإله الزمان هو الذي بناها. وروت أسطورة أخرى أنَّ الكوكب زحل هو الذي بناها. وجاء في كتاب "نشأة الكون" لسنكن يتن: إنَّ إيل بن إيليا أو عليون، أوَّل ملوك جبيل هـو من أنشأها." (جبر، 2001، ص 11)، ويبدو أنَّ إيل كان ملكاً ثمَّ تحوَّل إلى إله معبود في وقت لاحق.
ويعتمد سعيد عقل على نصٍّ توراتيٍّ ليكتب أقصوصة "قلب الله"، وهي قصَّة أربعة نسور فتحت براثنها، وبذرت في الأرض بذور شجرات لا عهد للأرض بمثلها، وترجَّلت عن أجنحة النسور فتاة كقلب الصبح تدعى ددتَّا (عقل، 1984، ص 121 - 123).
ولا شكَّ في أنَّ سعيد عقل يعود إلى سفر حزقيال: 17، وقد ورد فيه: "... نسر عظيم كبير الجناحين طويل القوادم واسع المناكب ذو تهاويل جاء إلى لبنان وأخذ فرع الارز. قصف رأس خراعيبه وجاء به إلى أرض كنعان وجعله في مدينة التجَّار. و أخذ من زرع الأرض وألقاه في حقل الزرع وجعله على مياه كثيرة أقامه كالصفصاف. فنبت وصار كرمة منتشرة قصيرة الساق انعطفت عليه زراجينها وكانت أصولها تحته فصارت كرمة وأنبتت فروعاً وأفرخت أغصانا. وكان نسر آخر عظيم كبير الجناحين واسع المنكب، فاذا بهذه الكرمة عطفت عليه أصولها وأنبتت نحوه زراجينها ليسقيها في خمائل غرسها. في حقل جيِّد على مياه كثيرة هي مغروسة لتنبت أغصاناً وتحمل ثمراً فتكون كرمة واسعة..." (حزقيال 17: 1-8) "هكذا قال السيِّد الربُّ وآخذ أنا من فرع الأرز العالي وأغرسه وأقطف من رأس خراعيبه غصناً وأغرسه على جبل عال وشامخ. في جبل إسرائيل العالي أغرسه فينبت أغصاناً ويحمل ثمراً ويكون أرزاً واسعاً فيسكن تحته كلُّ طائر كل ذي جناح يسكن في ظلِّ أغصانه. فتعلم جميع أشجار الحقل أنِّي أنا الربُّ وضعت الشجرة الرفيعة ورفعت الشجرة الوضيعة ويبَّست الشجرة الخضراء وأفرخت الشجرة اليابسة..." (حزقيال 17: 22-24)
لكنَّ عقل يخالف النصَّ التوراتيَّ بشكل واضح، فالنسر الأوَّل العظيم، كبير الجناحين، لا يُقصَد به في التوراة الطائر الذي نعرفه، بل المقصود به ملك بابل، والأرز يُقصَد به ملوك آل داود الذين قُتل آخرهم، صدقيا، على يد نبوخذ نصَّر.
والنسر العظيم الآخر في التوراة هو فرعون مصر. أمَّا الأرز العالي الذي سيأخذ منه الربُّ غصناً ويغرسه على جبل شامخ هو من غير شكٍّ يسوع المسيح، الذي سيسكن تحته كلُّ طائر أي كلُّ إنسان، بصفته الله المتجسِّد.
نكتشف هنا إذن أنَّ سعيد عقل أخذ الكلام من التوراة بشكله اللفظيِّ، وليس بمعناه الرمزيِّ العميق، كما أنَّه جعل ددتَّا، التي لا يعرف أحد مَن هي، سابقة للرجل في الولادة. ففي التوراة أنَّ آدم هو أبو الخلق، وحوَّاء من ضلعه، أمَّا ددتَّا، فقد أوحشها أنَّ لا أنس في أرجاء غابة الأرز، فتطير النسور إلى بعض النحوم لتجيئها بالأمير الفتَّان، فيبنيان معاً أجمل ممالك الإنسان (عقل، 1984، ص 124)
وفي "الطائر العجيب" يستعيد سعيد عقل أسطورة طائر الفينيق المعروفة، وهي أسطورة فينيقيَّة، عن طائر يحترق ثمَّ يعود إلى الحياة من رماده (عقل، 1984، ص 138)، وقد شاعت هذه الأسطورة في جميع أنحاء العالم القديم.
وأخيراً تأتي أقصوصة "بلتيسى ذات الغدائر الشقر" لتصوِّر قدرة النغم الإلهيِّ من فم سيدرا على استعادة بلتيسى إلى الحياة بعد أن تحوَّلت إلى نبعة ماء، وهي لا تعود إلى سيرتها البشريَّة إلاَّ مرَّة كلَّ ألف عام (عقل، 1984، ص 286 وما بعدها). وليس غريباً تحوُّل المرأة إلى نبعة ماء في الأسطورة، حيث أنَّ المرأة ترمز إلى الولادة، وكذلك الماء. وفي الأسطورة الرومانيَّة، تتحوَّل إيجيريا Igeria ربَّة الليل إلى ينبوع، لتصبح الإلهة المهيمنة على الولادات (عثمان، والأصفر، 1982، ص 127).
يبدو ممَّا سبق أنَّ سعيد عقل يستقي مواضيعه من التراث الأسطوريِّ المتعدِّد، وهو قد يتصرَّف في الأساطير أو يعدِّلها، كما فعل في أقصوصة "النفس بعد الموت"، حيث جعل عصفورة البرج مرادفة لطائر الفينيق، وكذلك في أقصوصة "قبلة أفروديت"، حيث جعل أفروديت تختبئ في بحيرة اليمُّونة وتختار قدموس ليحارب الشرَّ. أو كما فعل في حكاية "يرفع الأرض إلى السماء"، حين استبدل هيراكليس في الأسطورة اليونانيَّة بملكرت في الأساطير الفينيقيَّة، وكذلك في أقصوصة "قلب الله" إذ جعل من ددتَّا باكورة الخلق الإلهيِّ. وبشكل عامٍّ، فإنَّ الكاتب يحترم إلى حدٍّ كبير الأصول الموروثة للأسطورة، وهذا لا يعني أنَّه ينقل نقلاً تاريخيّاً حرفيّاً، فهو ليس مؤرِّخاً في الأساس، بل هو أديب قصَّاص، يجعل من الأسطورة قاعدة ينطلق منها إلى الفضاء الأرحب، فضاء الأدب الجماليِّ الجاذب، الذي يمتزج فيه الموضوع الكلاسيكيُّ بلغة رمزيَّة عميقة، تحمل أبعاداً ودلالات سنتطرَّق إليها في القسم التالي من بحثنا.
2- دراسة تحليليَّة للقصص الأسطوريِّ عند سعيد عقل (دلالات الأسطورة ورموزها):
يستخدم سعيد عقل الأسطورة لهدف جماليَّ، فالأسطورة بما تحمله من المفاجأة، والمتعة، والكذب الفنِّيِّ، والرمز، وتخييل المتلقِّي، تضيف قيمة جماليَّة إلى الأدب، غير أنَّ الكاتب يضع في المقام الأوَّل مضمون العمل الفنِّيِّ والهدف الذي كُتب من أجله. فهو يريد التأكيد على مجموعة من القيَم، التي يتطلَّبها النصُّ الكلاسيكيُّ. فقدموس يمثِّل الشجاعة الفائقة لأنَّه مغامر في البحر، يتحدَّى الإله زوش أعظم الآلهة، محاولاً استعادة أخته أوروب، ومحارباً التنِّين الشرِّير الذي لا يقهَره بطل عاديٌّ، فهو تنّينٌ هائلٌ، ومن صفاته أنَّه:
"... أمرُّ من إنسانٍ
مغلقٌ، إن يَبِنْ، فأظفارَ ليثٍ وجناحَـي نسرٍ على أفعوان
وحش وحش الوجود، سرُّ الغباوات....
ينفث النار من حديد لسان ويفتُّ الصخر الأصـمَّ بنابه
إن ينفض جناحه يُنتِن الورد ويَسْودُّ زنبقٌ فــي شبابه." (عقل، 1961، ص 43-44)
إنَّ تصوير التنِّين بهذا الشكل يجعله ذا قوَّة عصيَّة على الأبطال، غير أنَّ هذه القوَّة لا تلبث أن تتفتَّت أمام عزم البطل اللبنانيِّ قدموس، وهمَّته العالية، وبراعته في القتال:
"لا، وروعُ التنِّين يغلي وعينـاه مهاوٍ مـــن القِلى ومهامِه
يتمطَّى تهيُّؤ الحامـل الضـاري وتجواب طيِّع الجسم، ضامـر
يضرب الأرض بالجناح وبالذيل، كما يقحم المُحال مكابــر.
قال قدموس: "ها أنا" واحتواه بذراعيه..." (عقل، 1961، ص 129-130(
ويكرِّر عقل صورة البطل الفينيقيِّ في "لبنان إن حكى"، فيجعل من بطل فينيقيٍّ يُدعى ناهار بطلاً أسطوريّاً، يقاتل ببسالة لا تُوصف، ويقفز من على سارية، ويجابه الأعداء صدراً لصدر... وعندما يأمر الملك الفارسيُّ أكزرسيس بصلب البحَّارة اللبنانيِّين إثر هزيمته في سلامين، ينجو ناهار، ثمَّ يعود إلى بلاده، فيعلم أنَّ زوجته ماتت قتيلة الفراق، فيقتل عصفورة بسهمه وهي طائرة، متصوِّراً أنَّها زوجته التي كانت تطلب منه أن يقتلها بيديه قبل أن يذهب إلى الحرب. (عقل، 1984، ص 181 وما بعدها). ففي هذه الأقصوصة، يظهر البطل الأسطوريُّ خارقاً في شجاعته وبطولته، فهو يتخطَّى المخاطر وينجو في ظروف صعبة، وفي قمَّة براعته، يصيب عصفورة صغيرة بسهمه وهي طائرة، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ لمن يحوز على قدرة في رمي السهام لا مثيل لها.
لكنَّ لبنان ليس قوَّة محارِبة، تسعى إلى الفتوح والتوسُّع، شأن الشعوب القديمـة كاليونـان والـرومـان والفرس
والأشوريِّين. وهو لا يمضي إلى الحرب مبادراً إليها، بل لأنَّها تُفرض عليه فرضاً:
"صادقٌ أنت، ليست الحرب في صيـ ــدونَ قـصـداً مُقَصَّـداً أو جِنَّه
غير أنَّا إذا نُضام نجـــي الموت." (عقل، 1961، ص 59)
ويستغلُّ عقل مثل هذه الأساطير، ليصيب هدفاً إنسانيّاً مهمّاً، وهو تصوير النـزاع الأبديِّ بين الخير والشرِّ، فالتنِّين
في "قدموس" مثلاً، بما له من صفات بشعة، ورغبة في القتل والتدمير، هو وجه مخيف للشرِّ، بينما يمثِّل قدموس إرادة الخير التي تنتصر في النهاية.
ويقوم قدموس بدور مشابه في "لبنان إن حكى"، ليقدِّم صورة زاهية عن لبنان الشجاعة، ولبنان المحبِّ للخير، فتتخطَّى الأسطورة طابع الفرد إلى الطابع الأسمى، حيث تختار أفروديت رجلاً من لبنان ليقوم بالمهمَّة المستحيلة، مفضِّلة إيَّاه على أبطال الإغريق وآلهتهم الجبَّارة. فيقوم قدموس بقتل الحارسة الشرِّيرة، ويستعيد عضلات زوش، بعد صراع مرير مع قوى الشرِّ والظلام.
لقد جمع سعيد عقل أفروديت وقدموس وزوش في بوتقة واحدة تمثِّل الخير والإنسانيَّة النبيلة، بينما وضع الطيطَن والحارسة في جهة مقابلة هي الشرُّ بعينه. وهذا الصراع بين الخير والشرِّ هو من الأسس الثابتة التي تبنى عليها القصَّة الكلاسيكيَّة في الغالب.
ولا يكتفي عقل بالحديث عن شجاعة البطل الفينيقيِّ، فلبنان ليس قوَّة فقط، بل هو جمال آسر، يتمثَّل في مجموعة كبيرة من النساء، كمارينا الصوريَّة في أقصوصة "التي غنَّاها شكسبير"، وهي تمثِّل الشرف عند المرأة الفينيقيَّة (عقل، 1984، ص 38)، وددتَّا في أقصوصة "قلب الله"، إذ تكون الجميلة ددتَّا أوَّل امرأة في الوجود بعد أن ألقت النسور ببذرة الأرز الأولى، ثمَّ تأتي النسور برجل من الكواكب البعيدة ليكون زوجاً وحبيباً لددتَّا. وهنا تظهر علاقة لبنان بالولادة والخلق، ففي التوراة أنَّ الرجل ولِد أوَّلاً، وعند عقل تولد المرأة أوَّلاً ومن ثَمَّ يكون الرجل زوجاً لها.
وتظهر أوروب عند سعيد عقل كرسولة للجمال اللبنانيِّ في العالم القديم، "وأوروب تقول إنَّها كانت في كلِّ يوم تلهو في أترابها على الشاطئ، فيراها بحَّارة المملمة فيجنُّون... وأوروب سمع بها إله الآلهة في الغرب..." (عقل، 1984، ص 116-117)، فأوروب هي مثال المرأة التي تجتذب كبير الآلهة، وتجعله يتحوَّل إلى ثور لكي يختطفها، وهنا يتناغم جمال المرأة مع جمال لبنان، الذي يريد الغرب أن يأخذ ما عنده من قيَم وثقافة وحضارة. وعندما تموت أوروب في النهاية، تكون الضحيَّة في صراع كبير لا طاقة لها على تحمُّله، تماماً كما لبنان الصغير في خضمِّ الصراعات قديماً وحديثاً، يخرج منها مجروحاً، ودامي الفؤاد.
ويسخِّر سعيد عقل الأسطورة أيضاً، لإبراز صورة مضيئة عن فينيقيا في العصور القديمة:
"نحن للظواهـر؟ نحــن الكاتبو صـفـحـــة الحقيقة شعـرا
سفننا الألف مـا تني هيبة الأعصر تفري المجهول بحــراً فبحــرا
عمرتْ جزْركم عمائـــر غنَّاء وفضَّت غــــنى ثراكم مناجمْ
في كريتَ النحاس، في قبرص الصبغ وفي رودس الـقـلاع الجـواثم...
قــل مَــن النازلون قيثيرةً بعدُ وإيطاليا، وجــزْراً جـــزرا؟
يوقظون الدنيا على ضربــة المعول مستعـمــراً، فتنهض سكرى...
قـل مَــن الفاتحون إفريقيا بِكراً يشيدون قمَّةً فــي المغارب..." (عقل، 1961، ص 62 وما بعدها).
الأسطورة هنا ليست رواية تروى فحسب، إنَّما هي وسيلة لإبراز النبوغ اللبنانيِّ في التاريخ، من فتوحات بحريَّة، وتوسُّع، وبناء، وتعدين وصباغ أرجوانيٍّ... إنَّها العولمة الفينيقيَّة في زمن باكر. وفينيقيا أعطت العالم الحرف، وهو ما يُفاخر به أصحاب الفكرة اللبنانيَّة، وفي مقدِّمتهم سعيد عقل:
"جاء قدمــوس بالكتابة، بالعلم إليهم، إلى الأواتي العـصـــور
وغـــداً يعرفون أنَّا على السفْن حملنا الهـــدى إلى المعمـور." (عقل، 1961، ص 38)
ويرتكز سعيد عقل على النصِّ الأسطوريِّ لينطلق منه إلى إظهار تفوُّق الفينيقيِّين في صناعة الصباغ الارجوانيِّ إلى حدِّ الإعجاز الذي يُحيِّر الآلهة (عقل، 1984، ص 76)، كما يظهر تنبوغ الفينيقيِّين في بناء السفن، وفي معرفة الأبعاد البعيدة وراء البحار، عندما كان أهل الحضارات غير الفينيقيَّة يعتقدون أنَّ صفحة الأرض حدُّها الهرقليَّات:
"صفحةُ الأرض حدُّهــا الهرقليَّات وتأبـونــه على الأرض حـَـدَّا
فتفضُّون فــــي المحيط بعيـداً دنيوات كأنَّما الكون مُـــدَّا." (عقل، 1961، ص67).
وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى توسُّع الفينيقيِّين في البحار عندما كان أبناء الحضارات الأخرى يعتقدون أنَّ الأرض تنتهي عند الهرقليَّات، أي أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق اليوم). وفي رأي سعيد عقل أنَّ البحَّارة من صور وصيدون قد وصلوا إلى البرازيل ثلاثة آلاف سنة قبل كولومبوس (عقل، 1984، ص 298).
ويستغلُّ عقل الأسطورة أيضاً ليبيِّن أهمِّيَّة دور فينيقيا في إعمار المُدن العظيمة لدى الحضارات الأخرى، فقدموس يزرع أضراس التنِّين في الأرض لتصبح مدناً (عقل، 1961، ص 157). والمعروف أنَّ الأسطورة القديمة تذكر أنَّ قدموس زرع أغراس التنِّين في الأرض لترتفع منها مدينة، وفي هذا إشارة إلى قدرة الفينيقيِّين على تحويل الحجارة إلى أبنية شاهقة، فقد "شارك عدد من البنَّائين والنحَّاتين الجبيليِّين مع الصوريِّين في بناء هيكل سليمان. "جبر، 2001، ص49)، وجاء في التوراة أنَّ الحرفيِّين لدى سليمان وأحيرام، والعمَّال من بيبلوس قطعوا وهيَّأوا الأخشاب والحجارة من أجل بناء الهيكل (سفر الملوك الأوَّل: 5: 17-18).
كما أنَّ المدن الفينيقيَّة نفسها، لم تكن في نظر سعيد عقل من صنع إنسان، بل هي من عمل الآلهة، فها مدينة زحلة قد هبطت من الأعالي حين مالت كتف أطلس وهو يحمل السماء (عقل، 1984، ص 28)، وها جبيل تنـزلق عن أصابع الإله إيل (عقل، 1984، ص 116). المدن الفينيقيَّة إذن هي أعمال جليلة من إعجاز الآلهة.
ويرتفع سعيد عقل بالفكر الفينيقيِّ إلى ما هو أرفع من المادَّة، من الحجر إلى الروح ومعرفة اللهن فالفينيقيُّون "لم يبنوا أجمل المعابد والملاعب وقباب الغرانيت، وأعمدة المرمر تغنِّي مع الريح والنور والصاعقة، لكنَّهم، فوق ذلك تجرَّأوا على اقتحام مجاهل السرِّ، غامروا داخل النفس، غامروا في قلب الله." (عقل، 1984، ص 116)، كما أنَّه يعزو تسمية الكتاب المقدَّس (Bible) إلى مدينة جبيل (Byblos)، فالفينيقيُّون "ألَّفوا أوَّل كتاب عرفه العالم، فراحت جميع لغات المدنيَّة تدعو الكتاب "بيبلاً" مشتقَّة اسمه من بيبلوس." (عقل، 1984، ص 119)
وينطلق سعيد عقل أيضاً من الأسطورة إلى رحاب الدين، أو ما يُسمَّى بالأسطورة الدينيَّة، فأقصوصة "الطائر العجيب" (عقل، 1984، ص 138 وما بعدها)، تتناول رمزاً مهمّاً من رموز الديانة الفينيقَّة، وسعيد عقل لا يستخدم هذا الطائر - الرمز في إطار التصوير الفنِّيِّ، أو في إطار الخرافة الممتعة، بل يريد منه التأكيد على ريادة فينيقيا في مجال الدين أيضاً، فالفينيقيُّون آمنوا بأنَّ روح الطائر لا تموت، بل هي تعود إلى الحياة من خلال الموت. وقد أشار عقل في الأسطورة نفسها إلى أنَّ طائر الفينيق هو الحقيقة الممهِّدة لحقيقة المسيح الذي يموت ثمَّ يقوم من الموت بعد ثلاثة أيَّام، ليؤكِّد على العلاقة بين المفهوم الفينيقيِّ للقيامة والمفهوم المسيحيِّ لها: "يعيش عيشتنا، ويكدح في الحقل كدحنا، يشقى ويموت ويُدفَن في التراب، وفي اليوم الثالث يقوم." (عقل، 1984، ص 144)
ويصوِّر عقل في أقصوصة بعنوان "يرفع الأرض إلى السماء" الانسجام العميق بين الحضارة الفينيقيَّة والديانة المسيحيَّة، فيجعل من الجميلة تيروس مقدِّمة لمجيء مريم العذراء: "... حتَّى إذا انتهى إلى أسطورة تيروس التمع له خاطر شهم، هو أن يجد في الموركسة رمزاً لأحشاء العذراء. الموركسة، قال، خلعت على تيروس ثوباً تخطر به بين الآلهة، ومريم خلعت على الله جسماً يخطر به بين البشر." (عقل، 1984، ص 77)
لا نبالغ إذن لو قلنا إنَّ الأساطير التي يستخدمها سعيد عقل لا يُقصَد منها الحكاية التي لا يصدِّقها العقل، مجرَّدة من الحقائق، بل إنَّه يمزج مع هذه الحكايات التي لا تُصدَّق مجموعة من الحقائق التاريخيَّة الثابتة لدى العلماء والمؤرِّخين، فقدموس هو الذي نقل الحرف إلى بلاد اليونان في وقت كانت فينيقيا تشعر بالقصور والعجز أمام التفوُّق اليونانيِّ في حقول المعرفة، والفينيقيُّون هم مَن بنوا الهياكل من خشب الأرز والحجارة، وهم مَن خاضوا مجاهيل البحار، وبرعوا في الصناعة. وهذا المزج بين التأريخ والأسطورة يضع النصوص الأسطوريَّة عند سعيد عقل في إطار التاريخسطورة، أي التاريخ والأسطورة معاً، بحيث تتضمَّن الحكاية عناصر تاريخيَّة ومجموعة خوارق في الوقت عينه، مثل "ملحمة جلجامش" و "حرب طروادة" (زكي، 1979، ص 51).
لكن في نصوص أخرى كنصِّ "قبلة أفروديت" يغرق سعيد عقل في المبالغة، فأفروديت وهي إلهة رومانيَّة تختار رجلاً من لبنان لكي يستعيد عضلات زوش المخبوءة. وعقل يريد أن يظهر فضل فينيقيا على آلهة اليونان وتراثهم الحضاريِّ، فـ "إنَّ قدموس في المحصِّلة هو لبنان." (جحا، 1999، ص 342)، ولبنان في نظر سعيد عقل هو قيمة فوقيَّة، تضيع فيها صورة الأرض والوطن في صورة الذات الشاعرة، التي قد تتوسَّع في عظمتها لتتخطَّى حدود الوطن إلى الكونيَّة. وعن هذا يقول أنطوان قازان إنَّ لبنان عند سعيد عقل هو "لهو صيدون بالعزِّ، وإيقاظ المجد في صور وقرطاجة، ومظاهر الشمول في الشاعر، وقد ودَّ لو يضمُّ الكون ويحتوي الأزمنة." (قازان، ج 1، 1998، ص 227)
خاتمة وتقويم:
هكذا نرى أنَّ سعيد عقل في مسرحيَّته "قدموس" وفي مجموعة أقاصيص "لبنان إن حكى"، يأخذ من المعين الخصب للأسطورة، ويستخدمها لأغراض إنسانيَّة ووطنيَّة، كالصراع بين الخير والشرِّ، وتمجيد لبنان القديم في الحاضر. وقد يسأل سائل: ما هي الإضافة التي حقَّقها سعيد عقل في استخدامه للأسطورة؟ وهذا السؤال لا ينبغي أن يُطرَح عشوائيّاً، نتيجةً لاتِّخاذ موقف مسبَق من الكاتب ونظرته إلى الفنِّ والأدب، أو الاختلاف معه في اتِّجاهه اللبنانيِّ المتطرِّف. إنَّ بيار كورناي لا يضيف الكثير على القصَّة المعروفة التي استقاها من التاريخ الأسباني، وأعاد صياغتها في مسرحيَّة " السيِّد"، وأحمد شوقي أيضاً لا يجهد نفسه في ابتداع قصَّة مبتكرة حين يكتب "مصرع كليوباترا"، لأنَّ عنصر المفاجأة يقلُّ تأثيراً حين يُعيد الكاتب صياغة نصٍّ من التاريخ. وليس من المعيب أن يأخذ الكاتب نصّاً تاريخيّاً أو أسطوريّاً ليبني عليه، وإلاَّ كان علينا أن نلغي كلَّ الأدب الكلاسيكيِّ. ولعلَّ موقف الباحثة كاتيا شهاب من مسرحيَّة " قدموس" لسعيد عقل" يدخل في إطار الفهم الخاطئ لطبيعة عمل الكاتب، وأسلوبه، وأهدافه من الكتابة. تقول شهاب: "إنَّ حكاية قدموس وصراعه الدامي مع الوحش، وموضوع الحبِّ والحرب والانتقام، جميعاً تشكِّل أساساً جيِّداً للتفسير الدراميِّ، ولكنَّ عقل الذي لا يكشف عن مقدرة دراميَّة، لا يفلح إلاَّ في ملء مسرحيَّته بقصائد غنائيَّة جميلة، لأنَّ همَّه الرئيس استخدام الموضوع لتمجيد القوميَّة اللبنانيَّة، لكن حتَّى هذه القوميَّة لا تحمل معها إقناعاً كافياً في المسرحيَّة. إنَّ إحياءه لبطل لبنانيٍّ قديم جدّاً قام بجلائل أعمال الشجاعة والرجولة، لم يكن للاحتفال ببطولبة الإنسان عامَّة، في جهده العنيد ضدَّ العدوان والشرِّ ، بل كان من أجل إحياء أسطورة حضارة قديمة." (شهاب، 2010، ص 107-108)
صحيح أنَّ مواضيع الحبِّ والحرب والانتقام هي مواضيع ملهمة للدراما، غير أنَّ الحُكم على سعيد عقل من خلال نصٍّ مسرحيٍّ مكتوب، لا يعطي الرجل حقَّه، فالمسرح يبقى ناقصاً من غير أداء حيٍّ، واللغة الجامدة التي نقرأها في مسرحيَّة مكتوبة تختلف عن لغة المسرح النابضة بالحياة. ففي السينما، والمسرح هناك الكثير من النصوص التي تجلَّت روعتها في الإخراج والتمثيل والمؤثِّرات. فإذا قرأنا مثلاً مسرحيَّة "مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي" و"أندروماك" لجان راسين نجد أنفسنا أمام مشروعين ناقصين، يلزمهما الكثير من العمل لإنتاج النسخة الدراميَّة المؤثِّرة في الناس. ونحن نرى أنَّ سعيد عقل نجح في غنائيَّته، كما نجح في تقديم نصٍّ مسرحيٍّ، ولكنَّه كان مقيَّداً بحقيقة التاريخ التي لا يمكن تغييرها، وهذا أمر يعاني منه جميع الكتَّاب الكلاسيكيِّين، فيفقدون مناخ الحرِّيَّة، ويقتصر عملهم على النقل المباشر، مع تغييرات طفيفة قد لا يلاحظها المتلقِّي، ولا يبقى في يد الكاتب إلاَّ القليل من عناصر الأدب، كالصورة الشعريَّة، والتصوير الجميل، وإضفاء طابع السحر على المَشاهد. وفي نظرنا أنَّ سعيد عقل لم يقصِّر في استخدام هذه العناصر إلى أقصى قدر مكن. أمَّا انتقاد سعيد عقل على تمجيده للقوميَّة اللبنانيَّة، فلا يأتي في إطار النقد الأدبيِّ، إنَّما في إطار النقد السياسيِّ، فالكاتبة نفسها تقول أيضاً: "هو (سعيد عقل) يعلم جيِّداً أنَّ الثقافة الحديثة في لبنان ليست فينيقيَّة، بل ثقافة عربيَّة شديدة الاتِّصال بثقافة العالم العربيِّ - الإسلاميِّ." (شهاب، 2010، ص108). ونحن ننظر إلى كلام شهاب على أنَّه لسان حال العديدة من النقَّاد والباحثين العروبيِّين، الذين يعارضون سعيد عقل في نظرته اللبنانيَّة. غير أنَّ حرِّيَّة الرأي تفرض علينا، سواء أوافقنا سعيد عقل أم عارضناه في أفكاره، أن نحترم مواقفه الفكريَّة الشاملة، ونناقشها في جوٍّ هادئ وبعيد عن الصخب والارتجال. ومن حقِّنا أن نسأل هنا؟ هل يبقى سعيد عقل هو هو لو أنَّه تخلَّى عن الفكرة اللبنانيَّة؟ أولا تشكِّل هذه الفكرة كمَّاً هائلاً من المخزون الثقافيِّ والعقائديِّ والتبشيريِّ للرجل؟ وماذا مثلاً لو تصدَّينا لأحمد شوقي لأنَّه جعل من كليوباترا رمزاً للبطولة المصريَّة في التاريخ القديم، وهي التي كانت تعيش حياة مستهترة، وتتباهى بإيقاع القياصر في حبائلها؟ أو ماذا يبقى من بيار كورناي إذا جعلناه يتخلَّى عن تمجيد البطل الأسبانيِّ رودريغ في مسرحيَّته "السيِّد"؟ وهل يبقى هوميروس في مكانته العالية نفسها لو حذفنا جميع الأساطير التي وردت في الإلياذة والتي يقصد منها تمجيد الأبطال الأغارقة الأقدمين؟
وإنَّنا نرى أنَّ سعيد عقل تجاوز في أبطاله حدود اللبنانيَّة الضيِّقة، فقدموس قد يكون مثلاً أعلى لكلِّ بطل يملك الشجاعة، والمغامرة، والفكر والثقافة. وأوروب يمكن أن تكون رمزاً للمرأة المعانية التي تضحِّي في معركة بين الخير والشرِّ، والتنِّين هو كلُّ قوَّة شرِّيرة تعيث في الأرض فساداً، وتحاول نشر الظلام، لولا قوَّة البطل الذي يصدُّها ويقضي عليها قضاء مبرماً. وهذه الرمزيَّة الشاملة تنصف سعيد عقل فيما لو اتُّهم بأنَّه كان أسيراً في شرنقة الفكرة الفينيقيَّة، ولم يلتفت إلى بطولة الإنسان عامَّة.
وعلى الرغم من الضوابط الكلاسيكيَّة التي تقيَّدت بها مسرحيَّة "قدموس"، وأهمُّها محاكاة نصٍّ قديم، وتمجيد البطل، والدفاع عن القيم المقدَّسة: كالشجاعة، والحبِّ، والوفاء، والفضيلة، والرضوخ لمشيئة القدر (أوروب ضحيَّة القدر الذي أوصلها إلى النهاية المفجعة)، فإنَّنا نلاحظ أنَّ المسرحيَّة حملت كثيراً من الرمزيَّة، فانتصار قدموس على التنِّين وموت أوروب يرمزان إلى انتصار لبنان على الشرِّ في التاريخ، غير أنَّ هذا الانتصار لا بدَّ له لكي يتحقَّق من ضحيَّة عظيمة، وهذه الضحيَّة تتكرَّر في التاريخ الفينيقيِّ من خلال طائر الفينيق، وأدونيس الذي صرعه الشرُّ أيضاً.
أمَّا "لبنان إن حكى" فإنَّه ينطلق أيضاً من قيود الكلاسيكيَّة إلى فضاء الرمزيَّة، ولسنا نعني هنا الرمزيَّة التي تتناول المجهول واللاوعي والعقل الباطن، ويكشف الكاتب من خلالها عن المجهول، فيبيِّن العلاقة التي تربط أعمالنا بحياة داخليَّة لا نستوعبها ولا نعيها (كرم، 2004، ص 102)، بل نعني تلك الرمزيَّة الخفيفة التي تُخرِج النصَّ من جموده التأريخيِّ الكلاسيكيِّ إلى أبعاد جديدة، لا يمكن القبض عليها من خلال الصياغة الحرفيَّة، بل بعد تفكير وقراءة أعمق، ففي "سرِّ العصفورة المنتحرة" (عقل، 1984، ص181 وما بعدها)، يبداً سعيد عقل بنصٍّ تاريخيٍّ موضوعه معركة "سلامين" بين الفينيقيِّين والفرس من جهة، واليونان من جهة أخرى، وينهي الأقصوصة بمقتل العصفورة على يد البطل ناهار، لترمز إلى زوجته، قتيلة الفراق. وفي "النفس بعد الموت" (عقل، 1984، ص 48)، ترمز عصفورة البرج الزرقاء إلى خلود النفس بعد الموت، وهو اعتقاد كان معروفاً في فينيقيا القديمة، قبل نشوء الديانات السماويَّة، وفي "قبلة أفروديت" (عقل، 1984، ص 66 وما بعدها) يرمز القتال بين زوش والطيطن إلى الصراع المستمرِّ بين السماء والأرض، أي بين الإله والمخلوق.
وفي أقصوصة "بلتيسى ذات الغدائر الشقر" تولَد المرأة من النغم المبدِع، لتكون صورة مصغَّرة عن مدن فينيقيا، التي انطلقت من العقل إلى تخطِّي المحسوس، وهي لا تكبر ولا تشيخ، وترفض أن تُحبَّ العازف لكي تحتفظ بكيانها الروحيِّ المنـزَّه عن رغبات القلب والجسد (عقل، 1984، ص 286).
يمكن القول إذن إنَّ نصوص سعيد عقل كلاسيكيَّة مطعَّمة بالرمزيَّة، وقد نجح الكاتب في إقامة التوازن بين المذهبين، فلا يفقد المتلقِّي حقيقة النصِّ التاريخيِّ، ولا يؤسَر في نطاق النصِّ الجامد، فيفوز بمتعة المعلومة الموثَّقة من جهة، ومتعة الجماليَّة الآخذة من جهة ثانية. وسعيد عقل نفسه يرفض أن يكون مأسوراً في مذهب واحد، يقول عن شعره: "في شعري شيء من الرمزيَّة، لكنَّ شعري أكبر من ذلك. يضمُّ كلَّ أنواع الشعر في العالم. هؤلاء الذين يصدِّقون أنَّهم روَّاد مدرسة من المدارس ليسوا شعراء كباراً. الشعراء الكبار هم الذين يجعلون كلَّ أنواع الشعر تصفِّق لهم." (شهاب، 2010، ص 167)
المصادر والمراجع
الكتب الأجنبيَّة:
Allen, Grant (2000). The Evaluation of Idea: An Inquiry into the Origins of Religions. Escondido, CA: Book Tree.
Barber, Richard (1979). A Company to World Mythology. Middlesex England: Kestrel Books.
Beecroft, Alexander (2010). Authorship and Cultural Identity in Early Greece and China. Cambridge: Cambridge University Press.
Bell, Robert (1982). Dictionary of Classical Mythology - Symbols, Attributes and Associations. Oxford: ABC - Clio
Crystal, David (2000). The Cambridge Encyclopedia. 4th Edition. Cambridge: Cambridge University Press.
Dictionnaire Quillet de la Langue Francaise. V.2 (1959). Paris : Librairie Aristide Quillet
Diticco, Robyn & Tony (2005). Atlas’ Revenge: Another Mad Myth Mystery. Pompano Beach Fl.: Brainstorm Publications, Inc.
Gommers, Peter H. (2001). Europe, what’s in Name?. Belgium: Leuven University Press.
Grimal, Pierre (1996) The Dictionary of Classical Mythology, Oxford: Blackwell Publishing.
Tarnowsky, Wafa Stephen (1997). Dances with Gods – Canaanite – Phoenician Mystery and Legends Retold. Nicosia: Rimal Publications.
الكتب العربيَّة:
الإنجيل والتوراة
بولس، جوَّاد (1972). تاريخ لبنان. بيروت: دار النهار.
جبر، جميل (2001). جبيل في التاريخ، بيروت: لا ناشر.
جحا، ميشال خليل (1999). الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش. بيروت: دار العودة ودار الثقافة.
الزبيدي، محمد مرتضى (لا تاريخ). تاج العروس من جواهر القاموس. م 3. بيروت: دار مكتبة الحياة.
زكي، أحمد كمال (1979). الأساطير. بيروت: دار العودة.
شهاب، كاتيا (2010). سعيد عقل - العظمة وجنونها. بيروت: دار المؤلف.
عقل، سعيد (1991). سعيد عقل في شعره والنثر. المجلَّد الأوَّل. بيروت: نوبليس.
عقل، سعيد (1984). لبنان إن حكى. بيروت: مؤسسة نوفل.
عقل، سعيد (1961). قدموس، بيروت: المكتب التجاريُّ للطباعة والتوزيع والنشر.
قازان، أنطوان (1998). آداب وأدباء. ج1 . بيروت: دار المراد.
كرم، أنطوان غطَّاس (2004). الرمزية والأدب العربيُّ الحديث. بيروت: دار النهار للنشر.
الكفراوي، محمد عبد العزيز (1971). تاريخ الشعر العربي. ج 4. القاهرة: دار نهضة مصر للطبع والنشر.
لبُّس، جوزيف (2012). سعيد عقل شاعراً أسطوريّاً في المجدليَّة وقدموس. مجلَّة المشرق. السنة السادسة والثمانون. الجزء الأوَّل. بيروت: دار المشرق.
موسوعة الأديان في العالم- الديانات القديمة (2000). بيروت: Edito Creps. INT.
مونتاجيو، أشلي (1965). المليون سنة الأولى من عمر الإنسان. ترجمة رمسيس لطفي. القاهرة: مؤسسة سجلّ العرب.
مواقع إلكترونيَّة:
الدويهي الذي خالف أمر الكنيسة ودفن جبران خليل جبران
بقلم د. جميل الدويهي
الصورة أعلاه: من يوم مأتم جبران خليل جبران في بوسطن
ويبدو نعشه ملفوفاً بالعلم الأميركي والمونسنيور إسطفان الدويهي إلى يسار الصورة
بين جبران خليل جبران وزغرتا علاقتان وطيدتان يُعتزُّ بهما، الأولى علاقته بمي زيادة (ماري الياس زياده) الأديبة اللبنانيّة التي ولدت في الناصرة وعاشت في مصر ولبنان. مي زيادة إهدنيّة زغرتاويّة من عائلة زياده المعروفة في زغرتا، انتقل أهلها إلى شحتول في كسروان، ثمّ إلى الناصرة. وجبران في رسائله إلى مي وفي أكثر من مكان يشير إلى أنّها ابنة إهدن ونبع مار سركيس. ولا يقول جبران ذلك لو لم تكن مي قد أخبرته بأنّها زغرتاويّة إهدنيّة. أمّا لماذا عُرفت مي بأنّها من شحتول وليس من زغرتا، فهذا ناتج عن إهمال من أهالي زغرتا بالطبع.
أمّا العلاقة الثانية التي كانت لجبران مع أحد أبناء إهدن، فهي العلاقة مع المونسنيور اسطفان أسعد الدويهي الذي ولد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودرس اللاهوت في روما، ثمّ أصبح كاهناً في عام 1905.
في كنيسة الأرز- بوسطن صورة مرسومة بقلم الرصاص معلّقة في البهو وموقّعة باسم جبران، والرجل الذي تمثّله هو المونسنيور إسطفان الدويهي. والدويهي المذكور مؤسّس كنيسة الأرز، فقد شحن خمسة أطنان من حجارة إهدن إلى بوسطن بالباخرة لبناء الكنيسة بمساعدة شقيقه سركيس الدويهي.
وكان جبران خليل جبران صديقاً للمونسنيور الدويهي، وكانا يتبادلان الزيارات، وكان جبران يحترم رجل الدين المارونيّ ويبدي إعجابه به لأنّه "ذو أخلاق عالية وعلوم عالية وزاهد في المال."
وكان منزل جبران خليل جبران في بوسطن مجاوراً للكنيسة، ولكنّ جبران لم يُشاهد مشاركاً في الصلاة.
وينتقل جبران خليل جبران إلى نيويورك، ويكون ما يكون من مواقفه من رجال الدين، وهي مواقف معروفة لا حاجة بنا إلى تكرارها. ويُتّهم جبران بالماسونيّة وبمخالفته للديانة في العديد من المواقف العلنيّة وأهمُّها إيمانه بالتقمُّص سبع مرّات وصولاً إلى التوحّد مع الإله، ففي النصّ الأوّل من كتاب المجنون "كيف صرت مجنوناً" يروي جبران كيف سرق اللصوص أقنعته السبعة التي تقمّص بها في حيواته السبع السابقة وركض في الشوارع يصيح مذعوراً، فرأى الشمس (رمز للإله)، ولم يعد في حاجة إلى أقنعته (أي توحَّدَ مع الله ولم يعد في حاجة إلى حياة ثامنة). وإضافة إلى ذلك كانت لجبران مواقف ثوريّة من موضوع الخير والشرّ، فجبران رأى في كتاب "النبيّ" أنّ الناس خيّرون، وليس هناك شرّ، بل خير متألّم... والإنسان يفعل الشرّ لأنّه يجوع ويعطش. ورأي جبران هذا يناقض ما ذهب إليه في بواكير أعماله وخصوصاً "المواكب" حيث يقول:
والخير فـــي الناس مصنوع إذا جُبروا
والشرُّ فــــي الناس لا يفنى وإن قبروا.
ولا شكّ في أنّ جبران كان من جملة الأدباء الذين استهواهم غوته وعلاقة "فاوست" مع الشيطان، فجعل جبران من الخوري متعاوناً مع الشيطان ويتساعدان على الطريق. كما أنّ جبران برّر للعديد من الخطأة والمجرمين أعمالهم، على طريقة فيكتور هيجو والرومنطيقيّين الفرنسيّين عامّة. وذُكر أنّ جبران وقبل وفاته بقليل بمرض السلّ رفض استقبال الكاهن الذي جاء إلى بيته لكي يتمّم واجباته الدينيّة. وبناء على هذه المواقف مجتمعة اتّخذت الكنيسة قراراً صارماً بحقّ صاحب "النبيّ" وحرّمت دفنه على الطريقة الكنسيّة المعروفة. وتروي بعض المصادر أنّ الجفاء بين الكنيسة وجبران قد حدث في وقت مبكر جدّاً أي عندما كان جبران في بداية رحلته مع القلم.
ويروي روبن واترفيلد في كتابه:
‘Prophet, the Life and Times of Khalil Gibran’,
أنّ كاتب النبيّ رفض أن يتمّمَ واجباتِه الدينيّة، وكاد يُحرَم من رتبة الدفن، غير أنّ كاهناً لبنانيّاً هو المونسنيور إسطفان الدويهي أقام له الرتبة في كنيسة الأرز في بوسطن (ص 273).
وقد اعتبر المونسنيور الدويهي أنّ قرار الكنيسة بحرمان جبران هو قرار خاطئ، فطلب من أسرته ومعارفه أن ينقلوا الجثمان من نيويورك إلى بوسطن، وهناك أقام له رتبة الدفن وأشاد بمزاياه، ثمّ تقدّم المونسنيور وفداً كبيراً إلى مرفأ بوسطن لتوديع جثمان جبران إلى لبنان. وفي عظته التي ألقاها في الكنيسة قال المونسنيور الدويهي: "إذا كنّا نؤمن بالمحبّة الواردة في إنجيل يوحنّا، وإذا كنّا نؤمن بالتوبة والغفران وموت وقيامة المسيح، نتساءل: مَن منّا يضمن أنّ هذا الرجل الكبير(أي جبران) لم يطلب المغفرة قبل موته؟ والذي يرفض الصلاة (أي الكاهن) عليه يقع هو في الخطيئة."
هذا الرجل الذي لم يرضَ بأن يموت جبران كما يموت الكافر المرذول، يعتبر ثائراً على الكنيسة، والكنيسة لم تحاسبه على ثورته... وقد مات شهيداً عندما اندلعت النار في كنيسة الأرز فأصرّ على الدخول إليها لتخليص كأس القربان، وبينما هو خارج منها والكأس في يده سقط ميتاً على الباب.
كلمة في أمير الزجل الراحل يعقوب عبيد
القيت في برلمان الولاية: 25-8-2017
بتخيّلك متل الحَور الواقف قدّام الريح، بتخيّلك عم تدرز خيوط الكلمة تا تْلبّسا للربيع، هونيك مطرح ما الشمس بتلعب عا سطوح عتيقه، قريبه من السما الزرقا. بمتريت الشامخه عا ضهور الصوان، اللي فيها أقارب لإلي، وأصدقاء طيّبين
كنا زغار بالعمر لمّا إنت كنت كبير، وغبت عن هالعالم، وما عرفناك، إلا من خلال كلمتك والصدى، وكلمتك بخّور بمعبد صلا. كلمتك كواكب عا سطور مش من حبر، من عطر وجمال
إنت الذاكرة الما نِسيتْ حدا، ولا يتنّسى، كتاب تاريخ ما بيساع بطولات الإسكندر المقدوني، ولا سطوة هنيبعل، ولا حروب وغزوات، بيساع متل قلبك الكبير، اللي كان بيت للكل. قلبك مزار للحقيقة، وللصورة المرفوعة فوق الحلم
أمير للزجل... مش متل كل الأمرا، بْراجك ما بتنطال وما بتوصل عليها الرماح، وجبينك متل جبل المكمل، وإنت وطن أجيال، والوطن متل الغنيّه، الما بتنمحى ولا بتغيب
يا ريتك كنت هون، تا تشوف جيشنا اللي حبّيتو... عم يهْدي لعروس المجد فستانها الأبيض، كنت قلت كلمه بعرس الوطن لبنان، والكلمه مش هيّنه، هيّي المِن الله، بتخلق كوَن، بتخربط كواكب، بتعمّر قصور من دهب ما بيعتق
يا ريتك شفت هالخمس شُهدا كيف سقطوا وهنّي عم يْضمّوا علم لبنان بيصابيعن، وعم يودّعوا بيوتهن وولادهن تا يلحقوا مواكب المجد والحياة. شهدا عم يطلعوا من الأرض زنبق وسنديان
يا ريتك سمعت هدير الأبطال، كنت كتبت قصيده أحلى من ملكات الجمال، وكنت قلت: الموت ما هوّي نهايه... ومتل ما في كتير ناس بيعيشوا موتى، في ناس بيخْلقو من الموت والشهاده
يا ريتك مع البيحبّوك وهنّي عم يحْتفلو بصدور ديوانك بعد 40 سنه من رحيلك، وهيدا بيأكّد إنّك موجود، وإنّو ما في شاعر بيموت. إنت متل هوميروس، اللي خلّد أثينا، خلِّدت الجاليه، واختصرتا بحروف من شغل الفكر والموهبه الغميقة، وما عاد ينعرف خيالك من خيالات الناس. وصوتك اللي بيرجّ بالمدى... أبعد من الغابات، أجمل من البحر الهادي، وأحلى من البنفسج عا ضفّة غدير
وهلّق إذا بفْتح كتابك، بلاقيك بقلبو، فارس من الفرسان الطوال، نازل من متريت عا بحر بيروت تا تركب السفينة، والمرفأ هوّي َأورفـَليس الغربه، مطرح ما الأنبيا عانقوا المترا، وبشّروا الناس بالخير والمحبّه والفضيله
بسْمعك عم تحكي، غير كلّ الناس، مش حكي جرايد، مش حكي عادي... حكي للخلود، سْكبْتو بخوابي الزمن تا يحلا ويطيب. ونحنا من هاك الخمرة منسكر، لانو ما فيها غير نكهة الأرض والكرامه، واللي عصرها خمّار الإبداع، وساحر الفكره اللي ما حدا بيفكّر فيا
كنت صادق بمسيرتك، وفي بتعاطيك مع الناس، مخلص للوطن وقضيّة شعب. وما غيّرت ولا تغيّرت، متل الجبل الما بتهزّو رياح، وقدّيش نحنا محتاجين لرجال عندن مبادي، لأنّو الحياة ما بتنبَنى عالشعارات، الحياة وقفة حقيقه... والشاعر اللي ما بيعمّر بيوتو عا صخور الحقيقه، بيطير شعرو بالريح وبتصير كلمتو دمعه بِهيكل الزوال
الشاعر يا أمير الزجل، بيتعرّض لتجارب صعبه، هوّي رسول... والرسول يُعاقب، لكنْ قدر الكلمه إنها تنتصر وترتفع... وإنت هلّق عم تنتصر عا جدران الصمت، عم تخلع الجمود تا تُعلن الحياة. وديوان أمير الزجل، هوّي مراية الزمان اللي عشت فيه، وكنت عم تنشر الخير والسلام... وعم بتحرّر كتار من قيود العبوديّه
وهلّق أنا وعم إحكي معك، وصوتي عم بيروح من هون للخلود، اسمحلي قول مرّة تانيه إنّو الشاعر وقت البيموت بتهتزّ الأرض وبترتعش النجوم، لكن هوّي بينقل للحياة في ضمائر الناس، بيتذكّروه، وبيعظّموه، وبيحفَظوا اللي قالوا متل كأنو بعدو موجود بيناتهن. وجود الشاعر ضمير متّصل ومتواصِل، ورحيلو خُرافه ما حدا بيصدّقها. كل كلمه قالها بحر، وكل حرف جزيره، وكل صفحه بكتابو كون مليء بالمجرّات والأبعاد
وإنت يا شاعرنا، يا أمير الزجل، ما كنت صوت متل صوت الريح اللي بيتلاشى وبيزول بعد مدّه. صوتك قصيده عا شفاف الأزمنه، موسيقى ناي حكي عنها جلال الدين الرومي وجبران النبي. امتداد ما بيخلَص ولا بينتهي. إنت نور بيصْرخ من وراء القبور. وتحيّه إلك من قلبي لانك أعطيت النور. وعا مطرح اللي مرقت ما عاد في ظلام. شكراً لقلبك الحلو... ولروح يعقوب عبيد المبدع والمحبّ ألف سلام. ألف سلام
مقالة د. جميل الدويهي
أين نحن من هؤلاء؟
بدأت كتابة "الشعر" في سن مبكرة، ولا يزال عندي كتيب صغير كتبت عليه بخط اليد نصوصاً عندما كنت في السادسة عشرة من عمري. ولكن تلك النصوص لا ترقى إلى مستوى الشعر. ونشرت قبل "وقلت أحبك" دواوين في سيدني، وأقول دائماً إن تلك الدواوين هي البدايات ولا تمثلني كشاعر، فقد وجدت نفسي وهويتي في "وقلت :احبّك". وليس سهلاً أن يكون المرء شاعرا
كنت على مقاعد الجامعة، وكان يدرسني مادة "البلاغة والبيان" الدكتور مصطفى الرافعي، وكان يدأب على القول إن هذا البيت: "هل إلى أن تنام عيني سبيلُ؟....... إنّ عهدي بالنوم عهدٌ طويلُ".... هو من أجمل الأبيات التي قيلت في تاريخ العرب. ولم أكن مقتنعاً بجمالية هذا البيت، على الرغم من اطلاعي المحدود على الشعر آنذاك. لكنني كنت أعتقد أن شعراء قالوا أفضل منه، وذات مرة رفعت يدي وطلبت الكلام، فطرحتُ على الدكتور الرافعي، وحوالي 200 طالب في الصالة الكبيرة مجموعة من الأبيات التي أعرفها، وهي بيت لعنترة: "فوددتُ تقبيل السيوف لأنها.... لمعت كبارق ثغرك المتبسّم"، وبيت ليزيد بن معاوية: "وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت...... ورداً، وعضّت على العناب بالبرَدِ"، وبيت آخر لعنترة: " وتخال أنفاسي إذا ردّدتُها.... بين الطلولِ محت خطوط المبردِ"، وبيت لبشار بن برد: "لو كنت أعرف أن الحبّ يقتلني.... أعددتُ لي قبل أن القاكِ أكفانا"... وصرّحت أمام أستاذي الكبير بأن هذه الأبيات أفضل واكثر جمالية، في رأيي، من البيت الذي ذكره، فأجابني بكلمة واحدة: عفارم
وأعود إلي بيت يزيد بن معاوية (وينسبه البعض إلى الوأواء الدمشقي)، فقد كنت أعرضه على طلابي في الجامعة في مادة التذوق الأدبي، وأحاول أن أجد أحداً يستطيع فهمه وشرحه، فلم يحدث ذلك مرة واحدة، وكنت أشرح لطلابي أن المرأة تذرف دموعاً من عينيها اللتين تشبهان زهرتي نرجس، فتسقي ورد خديها، وتعض على شفتيها اللتين كالعنّاب بأسنان بيضاء كأنها البرَد. من هنا جمالية البيت لأنه يحتوي على أسرار (استعارات مكنيّة). وكانت تلك الأبيات بذاتها تعذبني في رحلتي الشعرية، وأحاول أن أكتب مثلها، وكانت أنفاس عنترة بين الأطلال وهي تمحو خطوط المبرد أكثر الأبيات التي تمثل تحدياً لي، حتى كتبت باللهجة العامية: "من كتر منّي بعيشتي مقهور...... دمعي برم دولاب طاحونه"، فانتقمت من عنترة فارس فرسان العرب، أو هكذا ظننت.. واقتنعت، وارتحت من عناء التحدي
هكذا هو الشعر، لعبة أمم. لعبة إبداع راق ومتميز، وليس كل من قال: "يا جمال البوبعة شو محملين؟" هو شاعر كما كان يقول أستاذي الكبير الراحل د. عبد الحميد جيدة. ولكن ليس علينا أن نحبط من عزيمة الناس، ونكسر ظهورهم بفتاوى أدبية جاهزة، وقوالب تحد من محاولاتهم، وأنا شخصياً أبارك كل عمل بشروط: أن يتخلى صاحب الأعمال الهزيلة عن الأدعاء والتشاوف، ولا يواجهني بوجه عابس كلما مرّ بي وكأنني تلميذ عنده، وأن لا يحاول إظهار نفسه بأنه دخل الجنة، فالدخول إلى الشعر يشبه الدخول إلى الجنة من ثقب الإبرة. ولذلك نرى على رفوف المكتبات ملايين الكتب، ولكن ليس الجميع غوته، وجبران، وإدغار ألن بو، وراسين
وليس مهماً أن يكون المرء شاعراً، لكن العرب يحبون هذ الصفة، ويسعى الآلاف من الناس في الشرق إلى تقمص المتنبي ومحمود درويش ونزار قباني، فمهلاً... لا تهرولوا إلى الشعر... فالنثر لا يشكو من شيء. كان جبران أديباً أكثر منه شاعراً، وكان أمين الريحاني كذلك، وميخائيل نعيمة، وغوته وطه حسين. ونجيب محفوظ لم يكتب شعراً... فلماذا هذه الاستماته إلى عالم الشعر، حتى وصل عدد الشعراء في موريتانيا وحدها إلى مليون شاعر؟
جاءني مرة مبتدئ إلى جريدة "صوت المغترب" في التسعينات، وكان يكتب أبياتاً بيد مرتجفة على ورقة، وفوق الأبيات رموز التفاعيل العروضية، فيبدو أنه كان ينظم نظماً، ويسألني أن أصحح له، فكنت أصحح على مضض، لأنني كنت أشعر أنه يفتقر إلى اللمسة الشعرية الساحرة، وقد بدأ في سن متأخرة. ولا يزال إلى الآن ينظم، وما سمعته مرة إلا سمعت مقداراً هائلاً من التصنع والتكلف والجمود. والناس يصفقون له لأنه "شاعر". وجاءني آخر يحمل ورقة صغيرة عليها أبيات زجلية، هي أكواخ متداعية في الحقيقة، وسألني رأيي، فخجلت وكان صعباً أن اقول له إنها لا تشبه الشعر في شيء، وبعد مدة، اهتدى إلى طريقة ملتوية Short Cut، وهي أن يكتب نثراً، ثم "يفرفط" الجمل على أسطر متتالية، فيصبح نثره شعراً، ويصل إلى رتبة شاعر من غير عناء، ويتساوى بغمضة عين مع الذين صرفوا أعواماً طويلة يتقلبون في نار الشعر ويغالبون الليالي لكتابة قصائد
وشاعر ثالث في سيدني تحديداً، يكتب منذ خمسين سنة بالطريقة نفسها، ولا يطور، ولو قرأت له قديمَه لوجدت أنه أفضل من جديده، والناس يصفقون له لأنه يدغدغ مشاعرهم بجرن الكبه والدملجانه والشمشار والفرن والتنور والسنديانه... وهي أشياء تعني لهم الحنين، ولو قلتها نثراً لدغدغت مشاعرهم أيضاً. وهذا الشاعر دخل مرة إلى مجتمع فقال: سعيده (أي مساء الخير)، فصفق له الحضور وأبدوا إعجابهم وكأنه غزا الفضاء
لقد أسميت كتابي "حاولت أن أتبع النهر... النهر لا يذهب إلى مكان" (نثر أو شعر)، لأنه كتاب نثر في الواقع، ولو قسمت جملَه كل جملة على سطر لأصبح شعراً في اعتقاد الكثيرين. وليس مهماً عندي إن كنت أكتب نثراً او شعراً، ولست ممن يلهثون وراء صفة شاعر، فصفة أديب تعنيني أكثر، وكتبي "من أجل الوردة"، "اهل الظلام"، "طائر الهامة"، "في معبد الروح"، "تأملات من صفاء الروح"، و"رجل يرتدي عشب الأرض" هي أهم بكثير من دواويني الشعرية، وأفتخر بها أكثر. لكن الناس يسمونني شاعراً على الرغم من أن أعمالي الشعرية أقل بكثير من أعمالي النثرية
فالعرب يطربون لكلمة شاعر، ويكبرون الشاعر أكثر من الأديب، مع ان الأديب يكتب نثراً وشعراً، والشاعر قد لا يكتب نثراً. وهذا يفسر الشغف بالحصول على لقب شاعر، وما أجمل أن يسير المرء في قريته أو في حيه يتغاوى برداء النابغة الذبياني، ويعلق أعماله على أستار الكعبة مثل امرئ القيس، وتغني له فيروز أو عبد الحليم أو نجاة أو أم كلثوم... وبات على الناقد أن يتأقلم مع فكرة أن الغالبية العظمى من الناس شعراء، ولو قال الحقيقة كعالِم، فإن الاتهامات الجاهزة ستهبط عليه، مثل: مغرور، متشاوف، لا يرى أحداً غير نفسه... إلخ... والحقيقة التي لا يقولونها هي أنه ناقد ويتحدث ويحكم عن علم ودراية، ومن العيب أن يخاف الناقد على نفسه ويختبئ من قولة الحق خوفاً من اللوم والتنكيل
وقد بلغت السخافة بالبعض إلى حد التباهي بالحرية، وكأنها ملك لهم وحدهم، ويعيبون على سواهم أن يمتلكها، وكأنّ نزار قباني كان مستعبَداً ومكبلاً بالقيود، أو كان سعيد عقل في سجن الباستيل، أو كان إدغار ألن بو في قصيدته الرائعة "الغراب" في الزنزانة لا يرى النور... وما هذه النظرية البليدة سوى قناع شفاف يخفي عقدة لا أكثر ولا أقل، ومثل هؤلاء من يحرم صفة شاعر عن الأكاديمي، وكأن الشعر والأكاديمية لبن وسمك لا يجتمعان، أو مَن يجرد المتعلم من الثقافة وينسبها إلى طالب لم يدخل إلى جامعة، وكأنه ممنوع أن يكون الإنسان متعلماً ومثقفاً في الوقت نفسه
أين نحن من هؤلاء؟ هذا السؤال أطرحه على نفسي كلما كتبت نصاً أو قصيدة، فجبران وطاغور وغوته وألبير كامو، وإبسن ودوستويفسكي وبوشكين هم "بعبع" بالنسبة إليّ، وهم التحدي، ودائماً أقارن أعمالي بأعمالهم فأخاف، لكنني أسعى ولا ايأس. وعندما أقول حقيقتي لا أكون مغروراً بل صادقاً، أما أولئك الذين يقولون عن أنفسهم أشياء غير حقيقية فهم المغرورون والمزيّفون والمزوّرون أيضاً. وكم أتمنى لو يفعل الكثيرون مثلي، فيقفون أمام مرآة أنفسهم، ويحكمون على ذواتهم كما هي حقيقة، من غير زيادة ولا نقصان
د. جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابية للأدب المهجري الراقي - سيدني 2018
***
تعليق من رنده رفعت شرارة - كندا
15 حزيران 2018
نحن على ورق الرسائل، رسائل تحمل ما في قلوبنا بصدق وشفافية ووفاء لتصل إلى قلوب تعيش صدق المشاعر وتتفاعل مع المضمون ربما ولدنا وفي خيالنا افكار تسرح بنا الى البعيد وفي يدنا قلم يترجم احاسينا وينقلها بأمانة أذكر من ايام الدراسة الابتدائية استاذ متمرس ضليع بقواعد اللغة والبلاغة، كان يأخذني لأقرأ مواضيع الإنشاء على صفوف المدرسة وكان يقول لي بأنها مواضيع مميزة. هناك كنت وهناك بقيت اكتب ما يرواد خيالي دون ان أنظر حولي او اتشبه بأحد او أفكر حتى بذلك. أحببت جبران ومي زيادة واميلي نصرالله وسعيد عقل، وتعلقت وما زلت بفيلسوف "الشخروب" ميخائيل نعيمة وتعلمت منه الصبر الشعر والنثر هما نبضة قلب، لحظة دهشة، دمعة وجدان، هما خيال يعتمد على واقع. ينسجان بمنوالهما قصصاً فيها من يومياتنا الكثير الشعر كما النثر هو لمسة حنان وبارقة أمل لذا لا يمكن لكاتب أن يتشبه بآخر او يكتب مثله، ولا يستطيع نقل أحاسيس الآخرين. كل فرد منا هو مشروع شاعر او كاتب او حتى فيلسوف، على شرط ان لا يكون الهدف هو التسمية واللقب بل الكتابة للكتابة، وأن تراعى قواعد الكتابة وأسيها مشكلة هذه الأيام ان الأغلبية تسعى للشهرة على حساب القلم والحرف. فليكتب من يكتب لكن فليترك الحكم للآخرين لأن القاريء هو الحكَم نحن في عصر انفلات أدبي في كل الميادين، مشكلتنا عدم وجود رقابة نقدية تضع الأمور في نصابها وتحدد الغث من السمين فتأخذ بيد المبتدئين الموهوبين وتساعدهم وتواجه المتعدّين على اللغة. نحن لا ندعي الأفضلية على غيرنا لكني ومن خلال هذا الرد اعلن جهوزيتي لمساعدة من يؤمن بأنني قادرة على مساعدته للانطلاق في عالم الكتابة أن كان فعلا يؤمن بقدرتي على ذلك أعود لأثني على كلمتك واؤكد عليها، فلنقف امام مرآة أنفسنا ويحكم كل منا على ذاته بكل صدق وشفافية ولا يعطى لنفسه حق الحكم على الآخرين، على ان لا ينسى واجبه في الحفاظ على لغتنا من الشوائب تحية لك انت الأديب والفيلسوف العميق الرؤيا، والكاتب والشاعر والرائد في اعمالك، مع ذلك فان تواضعك وصدقك يمنعانك ان تكتب الا بشفافية وصدق بعيدا عن الغرور والتكلف مقالة شاملة متكاملة سيذكر الزمن القادم تفاصيلها، عندما يبدأ عصر النهضة الأدبية من جديد
تحياتي صديقي الكبير د. جميل الدويهي
جميل الدويهي: أمّة الصدود الفكريّ
نحن أمّة الصدود الفكري. وكيف تريدوننا أن نرتقي بين الأمم؟
ولماذا تحتفل فرنسا وسويسرا وإنكلترا وأميركا وروسيا بعظمائها، ونحن نطردهم من بيننا لنحلّ محلّهم الجاهلين؟
لماذا يعجّ تاريخنا بصور الشعراء والمفكرين والأحرار وقد عُلقوا لتأكل لحومهم الغربان؟
لماذا يُقتل عنترة والمتنبي والحلاّج والسهروردي، ويتشرّد جبران والريحاني ونزار قباني والسياب والبياتي؟
ولماذا نرفض مبدعينا، ونرفض أن نصدّق أنهم مبدعون؟ ولماذا نحاول دائماً أن نجد أعذاراً شيطانية لنمنع كلمة جميلة أن تصدر من فم؟
ولماذا نجاهد في سبيل أن نساوي بين الفحمة المنطفئة والكواكب المضيئة؟
ولماذا يدأب شويعر على تحقير شاعر كبير، وإمطاره بألفاظ التقبيح والهجاء؟ وما هو المرض النفسي الذي يكمن وراء ذلك؟
ولماذا يتراكض المدّاحون والمطبلون والمزمرون ليشيدوا بإنجازات ليس لها وجود، فقط ليغيظوا من لديهم إنجازات؟
لماذا نعطي جائزة رفيعة لكتَاب بعنوان "الكات والكِيت لتعليم العفاريت"، ونمنعها عن كتُب هي معابد، ومزارات للحرّية والعدالة؟
لماذا نحبّر الصفحات الطويلة لنمدح مَن كتبَ جملة مفيدة، حتى إذا وقفنا أمام الفكر المبدع والخلاق، شحبت وجوهنا، وأصابتنا عدوى الصمت، في نكران خليع للفضل والجميل؟
لماذا يتبارى نقّادنا في الترويج لفنّ هابط، وغناء تافه، وقلم مريض يكيل الشتائم واللعنات على النور، وعندما تضع في أيديهم عملاً راقياً، ينسحبون وكأنهم غير معنيين بشيء اسمه الرقي؟
لماذا نوظف في إذاعاتنا وجامعاتنا أناساً يتصدّون لكل صاحب معرفة، ويأتون بمن لا يجيد القراءة ليقرأ، ومن لا يجيد الكتابة ليكتب، ومن لا يعرف الفتحة من الضمة ليصحّح اللغة، ومن ليست عنده لياقة لكي يجري مقابلات مع الناس... أمّا الذي يعرف فلا مكان له إلا في التشرد والمعاناة؟
هناك أناس يصابون بذبحة قلبية إذا سمعوا قصيدة رقيقة، أو شاهدوا رسماً رائعاً، أو وصلت إلى آذانهم أغنية مبدعة، لأنّ المرض أقرب شيء لهم وهم ينظرون إلى الجمال الذي لا يستطيعونههناك أناس يصمتون كأهل الكهف أمام التفوّق الذي لا يعرفون أسراره
هناك أناس يكونون في الكنيسة وأنت تقرأ رسائل مار بولس، فينسون الصلاة والعبادة، ليطلبوا من الله أن تُخطئ أنت وتتلعثم في القراءة، أو تسقط عن الدرج
وهناك أناس أعرفهم، يضعون أيديهم على عيونهم كلّما رأوا زهرة ربيعية، لأن العطر ليس من اختصاصهم... وكلّ ظنهم أن الزهرة لن تدفق عطراً بعد الآن، وقد نسوا أن العطاء ليس خياراً بل هو قدر، أمّا هم فوجودهم وعدم وجودهم سيّان
وهناك أناس أعرفهم يخافون من المحاسبة والملاحقة والتنكيل وقطع الأرزاق إذا خرجوا عن الخطوط المرسومة لهم، والحياة كرامة
وكيف تريدوننا أن نصمت على مذبحة؟ على أكذوبة كبيرة؟ على تزوير في وضح النهار؟
كيف تريدوننا أن نصدّق أن إنساناً يؤخذ بالسخافة إلى درجة السكر هو إنسان سويّ؟
كيف تريدوننا أن نصدّق أن نبعاً رقراقاً هو أقل قيمة من النبع الجاف، وأنّ الكرم الذي يفيض خيراً وغلالاً هو أحقر من الكرم اليابس الذي لا يعطي؟
كيف تريدوننا أن نبصم على حقيقة أن "بُوس الواوا" أجمل من "أنت عمري"، وأن سلّومة الأقرع أكثر ابداعاً من امرئ القيس؟ وأن "ركّبني المرجيحة" تستحق التكريم أكثر من "رسالة من تحت الماء"؟
لقد انطبلت آذاننا بأدب الشتائم، وأدب العامة، وأدب النفخ، وأدب التراب، وأدب سقط المتاع، وأدب الرذيلة، وأدب النهود والأفخاذ، وأدب الجنس... وطارت عقولنا من كثرة المصفّقين للا شيء، إلا لأن هذا صديق، وهذا من عائلة نحبها، وذاك من ضيعة نكرهها... وذلك مبدع حقيقي لا نريده أن يبدع
قارئ الجريدة في بلادنا متّهم بالهوس، والمتعلم متّهم بالجنون، والأكاديمي متّهم بأنه غير مثقف، أما غير الأكاديمي فله الحقّ وحده في أن يكون مثقفاً، وكأن العلم والثقافة لبن وسمك لا يجتمعان
الذي يحمل دكتوراه في بلادنا مغرور جداً، والذي ينتحل صفة بروفسور وهو معلم ابتدائي، ومَن يشتري دكتوراه بـ 500 دولار من مؤسسة وهمية هما المتواضعان مثل يسوع الناصري
الذي يصْدق في بلادنا ويقول الحقيقة عن نفسه يكون خاطئاً ويستحق الرجم كمريم المجدلية، أما الكاذب والمزوّر، والنمّام، والواشي، والمتآمر، والحسود والحقود... فهم رسل الحقّ والمبشّرون بالخير والفضيلة، ولهم تنحني الرؤوس، وإليهم تزحف القبائل
والذي تكون الكلمة الرديئة والبذيئة على لسانه هو القدّيس الذي يشع منه النور وترشح ثيابه زيتاً، أما النقيّ، المهذّب، والراقي فهو المجرم الذي يجب أن يقطع لسانه
الصدود الفكري آفة. وباء. أقبح من مرض الأيدز، وهو غير موجود في الغرب، لأنهم يعترفون بالحقيقة، ونحن أبعد الناس عن الحقيقة، إلا قلة تؤمن بالله، وبالضمير وبالأخلاق
رفعوا تماثيل للعظماء في بلاد الناس، وتماثيل عظمائنا مرابط خيول، وقاذورات
مجدوا شكسبير وقالوا إنه عبقري، وإذا قيل عن واحد منّا إنه عبقري، اشتغلت الهواتف للمنع والرفض والاستنكار، وأرسلوا زبانيتهم إلى الإذاعات، وحرّضوا الجمعيات والمؤسسات، وأقاموا الدنيا وأقعدوها، فقط من أجل أن يمحوا كلمة حقّ من ضمائر الناس
في بلاد العالم يرفعون تماثيل لعظماء غيّروا العصور، وأقاموا الثورات، ونوّروا العقول، وفي بلادنا تماثيل وتكريمات بالأطنان لأناس نجحوا فقط في تغيير ملابسهم الداخليّة، وفي الانتقال من شتيمة إلى شتيمة أكثر قبحاً من الأولى
البريء في بلادنا مدان، ورئيس العصابة الذي تحفل مجالسه بالجواسيس والمريدين والعملاء هو النقيّ الطاهر الورع
أقفلوا علينا باب التفكير، وطلبوا من مخبريهم أن يحرمونا من الصفات التي نحن نرفعها ولا نرتفع بها، لأنّهم رأوا أن لا مجال لهم للتحليق مع النسور
نحن شعب لا يقارن الشيء بالشيء، ولا يعترف بالعلم والقياس، بل بالقبيلة والعائلة والضيعة والزعامة، فمتى كان الحزبي هو العالم، ومتى كان ضيّق الفكر هو الحكَم الصحيح الذي لا يُشكُّ في حكمه؟
لن نقول: يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم، لأنّ في هذه الأمة أناساً متنورين، وعليهم نعقد العزم في معركة الحقيقة، ومهما حدث، فلن نضع شمعة مضيئة تحت مكيال
فعلاً... لماذا نكتب؟
للدكتور جميل الدويهي
يطرح الأستاذ فضل عبد الحيّ سؤالاً: لماذا نكتب؟ وأجيبه: نحن نكتب للفشل والإحباط والشعور بالذنب، ونكتب للفراغ، لأن الفراغ
يسمع والوجود لا يسمع.
لو كنّا نكتب لليوم لكنّا انتهينا من الكتابة، لأنّ اليوم ينتهي والغد لا ينتهي.
ندفع بكتابنا إلى مثقف، فلا يكلّف نفسه كلمة شكر، وفي فكره أنّ علينا نحن أن نشكره لأنه قبـِل أن يأخذ الكتاب، أو أنه إذا شكرنا فسننشر كتاباً آخر، وهو لا يعلم أنّنا سننشر مهما حدث من أمره.
ويسألني الناس: لماذا قصيدتك في مئوية سعيد عقل التي هي 74 بيتاً على قافية واحدة، ومطلعها:
سعيدُ مهلاً إلى أين الرحيلُ بنا وأنت بعد فتيٌّ مثلما الزهَرُ
ليس عليها في مواقع الانترنت سوى تعليق واحد؟ أقول لهم: الجواب عند أرسطو، فهو أعلم منّي بالمنطق. ويسألني آخرون: كتاب مثل "في معبد الروح" لا يُكتب عنه سوى بضع كلمات هنا وهناك، بينما نصوص عاديّة تحوز على مدائح لا تُعدّ ولا تُحصى. كيف هذا؟ فأضحك وأقول: هذا دليل على فشلي وانزوائي كما طائر جريح في غابة. ألا ترون كم نحن نعيش في معابد الروح؟ الحقّ أقول لكم: المشكلة ليست في معبد الروح بل في أماكن أخرى. ومعبد الروح "تقليد"، فلماذا لا نقيس على "وقلت أحبّكِ؟" أو على "طائر الهامة"؟
ويقول أحدهم: أنت تعترض على جبران، والريحاني، وغوته ونيتشه... فمَن أنت منهم؟ أجيب: أنا حيّ مثلما هم أحياء. ويقول آخر: لو استطعنا أن نمحو كتاب "النبيّ" من الوجود، كنّا أصبحنا جميعاً مبدعين، فأجيبه: أنت لا تستطيع أن تمحو الموجود، كما لا تستطيع أن تمحو اللاموجود.
ويقول لي أحد المصوّرين: إجلس هناك لتمدحني، فأجيب: إذا امتدحتُك أحتقر نفسي.
ويقول لي أحدهم: سمعنا وشاهدنا مقابلة لفلان وعلتان ولم نسمعكَ إلا قليلاً تتحدّث في الأدب والفكر، وإصدارك للكتب مناسبات جيّدة للكلام. فأقول: مَن قال هذا؟ أقابل نفسي كلّ يوم على المرآة، وأتحدث مع رجل آخر يسير إلى جانبي لا يراه الناس. الحقّ أقول لكم إنّ ظهوري يثير الذعر.
وأقول لأحدهم: لست شاعراً، الله هو الشاعر، فيقول: إذا كان الله شاعراً، فلماذا تكتب أنت؟
ويقول أحدهم: "في معبد الروح" أقصى ما تستطيع أن تفعله، فأقول: كلّ شيء بداية، ولا خفيّ إلاّ سيُعلم.
على الشاعر أن يعيش وحيداً، مهملاً، وليس عنده جوقة تطبّل له. الشاعر يكتب ولا يلتفت إلى الوراء. يتخبّط في أمواج الزمن والموت يحيط به، ولا يُبالي بشيء، لأنّ الكلمة جبل، والجبل لا ينحني.
نحن نشعر بالخجل عندما يقدّم لنا أحدهم فنجان قهوة، ونكون جائعين فنمرّ بجماعة يأكلون، فنُدْعَى إلى الغداء ونقول: أكلنا للتوّ. ونحن في الحقيقة نشتهي أن نأكل التراب، لكنّنا لا نحبّ أن نأكل من زاد غيرنا. ولذلك يقول لنا كثيرون: سنكتب عمّا كتبتُم، انتظروا حتّى مجيء غودو، فنقول لهم: كتبْنا ولسنا جائعين. كبرياؤنا يمنعنا أن تكتبوا.
ونرى أناساً لا يكتبون إلاّ الفراغ، والفراغ مادّة أيضاً، فتنهمر عليهم النعَم، فلا نتألّم ولا ننزعج، ولكننا نبحث وراء الستائر عن المعلّم أرسطو، ونخاف أن يضيع.
أليست لطخة عار في تاريخنا أن نغضّ النظر عن الجمال ونمتدح البشاعة؟
مدحني أحدهم ذات يوم، فخجلت، وبعد ساعة من الصمت: سألته: هل لديك محام قدير؟ ظنّ أنّني خرجت عن الموضوع، فقال: كيف هذا؟
وأُخبر فضل عبد الحي بأنني منذ جئت إلى أسترالي في الرحلة الأخيرة أكتب مرّتين في كلّ عدد من جريدة "المستقبل"، وأنشر عشرات المقالات والقصائد والأعمال النثريّة في المواقع الإلكترونية، وأطبع 4 كتب في أقل من أربعة أشهر، و6 كتب في 6 أشهر، أنّما التعليقات على أعمالي جميعها فلا تتجاوز أصابع اليد. وقبل أن يفتح فضل عبد الحي فمه ليتكلم أسأله: كيف هذا؟!
الناس الذين من أمثالنا يُكتب عنهم إذا أخطأوا فقط. كلما تفوَّهوا بخطيئة نزلتْ عليهم أجنحة الوطاويط.
وأخبرُ فضل أيضاً أنّ هناك من يتمنّى عودة التاريخ إلى الوراء، لكي لا يرى معبد الروح. وأخبره أيضاً أنّ كتابي أصلاً لا يليق، وقد جاء معبد الروح عن طريق الحظّ، أو ترجمتُه عن الأسبانيّة لكاتب من تشيلي غير معروف، أو... أو هو مخطوطة كانت لكاهن وخبّأها في جدار كوخه، ومات قبل أن يطبعها، فاستوليت عليها بعد وفاته، وجعلتُها كتاباً وضعتُ عليه اسمي. وقبل أن يجيب فضل: أسأله بتعجّب تامّ: كيف هذا؟
وقد يقول فضل: بعض الكتب فيها خطر. فلماذا لا نبلغ الشرطة؟ وقد يقول: لست أدري لماذا هذا الشتاء فيه كثير من الضيق والاضطراب والقلق.
كتبتُ ذات مرّة عن معاناتي، فهاجمني قوم غاضبون. قلت لهم: لماذا تهاجمونني؟ أليس لأنّني تحدّثت عن المعاناة التي سبّبتموها لي؟ وكيف عرفتم أنّني أقصدكم لو لم تكونوا مذنبين؟ وكيف عرفتم أنّني على باطل ولست على حقّ؟ فانسحَبوا وعادوا على أعقابهم صاغرين.
وأراد أحدهم أن يقول: مَن يكتب في معبد الروح لا يكتب غير ذلك. قلت له: ألستَ أنت مفكّراً كبيراً، وقد بلغتْ شهرتك الآفاق؟ فلماذا تكتب "غير ذلك"؟
وقال لي أناس آخرون: أنت كتبت "في معبد الروح"، فكيف تكتب شيئاً أقلّ منه مستوى؟ قلت لهم: لماذا لم تقولوا عن معبد الروح كلمة جيّدة قبل أن تقولوا ما يسيء؟
وحاول أناس آخرون أن يجعلوا من شجاري مع سائق سيّارة الأجرة عذراً لكي يتحدّثوا عنّي بسوء، فقال لهم سائق السيارة: تمهّلوا أيّها الناس، فهذا الرجل هو مَن اشترى لي السيارة وزوّجني ابنته، وأنقذني من الغرق عندما سقطتُ عن ظهر باخرة في وسط المحيط، وكتبَ لي جميع أمواله وثروته، فاشْكروه قبل أن تقتلوه.
لماذا تكتب؟ يطرح فضل عبد الحي سؤالاً، فأقول له: لكي أرى أفواهاً فاغرة، وعيوناً قلقة لا ترى النوم، فمن صغَري أحبّ أن أشاغب، ويسعدني الإصرار على الإصرار، وأن أخيّب ظنّ الآخرين، فهكذا ولدتُ من شجرة سنديان، من خشب لا يتنجّر.
__________________________________________
الحُرّيّة أو الحُرّيّة
إن أسوأ ما ابتلي به شرقنا هو أزمة الحُرّيّة، ولولا تلك الأزمة لما قامت الثورات، وانتفض الناس على الأنظمة، وكيف يقبل الإنسان الحرُّ بأن يُحكم بالقمع والإرهاب وأن يُقاد كما تقاد الحيوانات إلى المزارب؟ وكيف يرضخ لأنظمة السجون التي غصّت بالآلاف فاختنقت وخُنقت؟
لقد هبّت ثورة الربيع العربي في تونس بعد أن ضاقت السبل بالناس، فوجدوا نفسهم مهمّشين على الرصيف، والفقر يأكلهم، بينما كان القادة يكدّسون الثروات ويذيقون الأتباع من المرّ ألواناً. ونجحت أنظمة الاستخبارات الساهرة على كل شاردة وواردة في تصوير الربيع العربي على أنه جحيم، ويا لها من فكرة عجيبة اخترعتها العقول المكلسة، لقمع الثورات في مهدها وتخيير البشر بين نوعين من الحكم: إمّا الحكم المطلق لإرادة الفرد وإمّا حكم الإرهاب المتأتّي من داعش ومشتقاتها، حتى أن العديد من الخبراء والمحلّلين اعتقدوا أنّ ظهور المنظّمات الإرهابية كان عملاً مقصوداً من أجل تخويف الناس، وجعلهم يعتقدون أن "الربيع" ما هو إلا خريف مجلل بالسواد.
ولكنّ الثورة التي حاول الكثيرون تحييدها عن مسارها الصحيح نجحت في تونس، وأكّدت على أن "الربيع" ربيع ولا شيء آخر، كما نجحت في مصر، بعد معاناة ومخاض. وهذا ليس غريباً، فالثورة الفرنسية استغرقت أكثر من ثلاثين عاماً لتعلن انتصارها بتهديم الباستيل عام 1789، وسادتها أخطاء، فأدخَل الثوّار من أتباع ديدارو الملحد امرأة مومساً إلى كنيسة نوتردام وكأنّها قديسة، وبدا في النهاية أن القدّيسة الحقيقية هي الحُرّيّة.
وإن المبشِّرين بالعبوديّة كثيرون، يحملون على ظهورهم إرث الماضي، وينفخون السموم، وكما لاحقت الأنظمة المستبدّة الأحرار إلى أصقاع الأرض، فإنّ هؤلاء المبشّرين يسهرون على الأفواه، ويحللون كل كلمة تقولها، ويستنبطون المعاني من أعماق روحك، ويحوّرون حديثك، ويراقبون مشيتك وهيئتك، ومتى تاكل وتنام؟ ومتى ذهبت إلى الطبيب،؟ ولماذا تحدثت على الهاتف؟ وماذا في جيبك وتحت إبطك؟ فليس عندهم عمل مثمر في حياتهم إلا ما أوكلهم به الواجب المقدس والالتزام السياسي أو الطائفي الذي ولدوا وعاشوا من أجله، فلا تسمعهم مرة واحدة ينتقدون أربابهم، ولا يشيرون إلى عاهة أو مشكلة أو زلّة لسان، فالكمال في نظرهم ليس لله وحده. وهؤلاء يغضّون النظر عن مشاهد الدمار والقتل ويصوّرونها على أنها مشاهد للتسلية من فيلم لوالت ديزني. ويرون أيضاً كيف يتساقط الأبطال والأحرار، ويساقون إلى السجون كما تساق الإبل، فيقولون عن ذلك إنه متعة سماوية... فمَن لم يذُق طعم الحُرّيّة في حياته، كيف يعطيها للآخرين؟
أيُّها الناس،
إذا لم تعرفوا الحُرّيّة فأنتم جاهلون من قبائل الثلج والخمول، وإذا لم تقدسوا الحُرّيّة وتتقدّسوا بها، فإن معابدكم من رماد وأحلامكم من تراب.
سيقولون لكم في المجالس إنّ الحُرّيّة هي لفظة جاءت بها الصُّدفة، وليس لها معنى في القواميس والكتب المقدّسة، وسيقولون أيضاً أمامكم: إذا تحرّرتم من العبوديّة والخنوع، فأنتم تستجيبون لنداء الثورة، والثورة من صنيع الشياطين، والذين يقولون ذلك هم أولئك الذين ينظرون إلى الشمس ولا يرونها لأنّهم يرتدون أقنعة من خيوط الظلام... الذين يكرهون حُرّيّتكم هم عبيد الكتب الصفراء التي جاءت بها الأنظمة، وقد وُلدتم في العواصف الرياح، فلا نظام يقيّدكم ولا موت يأخذ أمكنتكم.
الذين يرفضون أن تتكلموا وتكتبوا وتقرأوا هم حرّاس الزنازين، حيث العتمة الأبديّة ونعيق الغراب. هم أحفاد الشرائع الآثمة التي سطّرتها أيادي الشؤم في العصور البائدة، ولم يزل كتبتُها يولدون ويموتون على أسرّة مخلعة، وينشرون الويل والخراب.
حطِّموا الاقفاص التي علقوها على مداخل القصور وانقضُّوا على التماثيل المجنحة وعلى مدائح الفريسيّين والكذبة، فالخوف لا ينجب طفلاً، الموت لا يعطي حياة، وإن البحيرة الراكدة ليس فيها سوى العدم الذي يتغطّى بالماء... وإذا خيّروكم بين العبوديّة التي تعطيكم الأمان والحُرّيّة التي تعطيكم الخطر، فقولوا إن خياركم واحد من اثنين: إمّا الحُرّيّة وإمّا الحُرّيّة.
جميع الحقوق محفوظة للأديب الدكتور جميل الدويهي
___________
الرجل الذي بكى
بقلم د. جميل الدويهي
أكثر ما يُغبط الشاعر أن يحفظ الناس أعماله ويرددوها. وقد حدثت لي هذه الغبطة مرّات، فذات يوم كنت أقود سيارتي على "بلمور رود"، فرأيت رجلاً أسمر نحيلاً يسير على الرصيف في اتجاه ريفروود. كان الرجل ابراهيم سعد (توفاه الله إلى رحمته) الذي التقيت به قليلاً من المرات قبل ذلك، فتوقفت وطلبت منه أن يصعد إلى سيارتي لأوصله، فما إن فتح باب السيارة وجلس إلى جانبي، وغمرني بالتحية حتى ألقى على مسمعي قصيدة "العدل" كاملة، وهي قصيدة بالفصحى، من غير أن يحذف منها كلمة أو يتلعثم في حرف أو ينسى بيتاً.
ويعيد الكرّة على مسمعي أيضاً الأستاذ محمد حسين العمري الذي لم أكن أعرفه إلا من خلال كتاباته القيمة، فإذا به ذات يوم يدخل إلى مكتبي في جريدة "المستقبل" بوجهه الباسم، وأدبياته الرائعة، ويلقي على مسمعي قصيدة بالعامية كنت نشرتها في الجريدة، يقول مطلعها:
تا قُـــول كيف عشقت بكّيت البِكي ولبّست آخــــر يـــوم بدلِه مجعلكِه
وعــــا مرايتِك إنتي كأنِّك ما حــدا ويا ريت فيي كنت أعرف شو بكي.
أيضاً ألقاها كاملة. وعجبت من ذاكرته، ومن الإطراء الذي أحاط القصيدة به. واعترفت أمامه بأنني لم أحفظ القصيدة كما حفظها هو.
وكثيراً ما يطالعني الشاعر الصديق، والأخ الكبير، الدكتور مروان كسّاب ببيت من قصيدة كتبتها:
"ولقيتْ حالي ضــــايع بغابة صدى عطشان قلبي وفاضيه خوابي الزمان"
ويبدي الدكتور كساب المرهف والرقيق إعجابه بتعبير "ضايع بغابة صدى"، وهذا الإعجاب شهادة من شاعر عريق ألقّبه دائماً بقلعة تنورين.
والدكتور عصام الحوراني، الناقد والأكاديمي البارع، يردّد من قصيدتي "جدي القديم"، وهي قصّة عن رجل عجوز كتبتُها بالفصحى على السطر وعلى طريقة الرواية، لكن على وزن "مستفعلن"، وأدخلت عليها الميجنا:
يـــــا مايله عالعين عينِك مائلِه بحبّك أنا وحبِّك لغيري مـــا إلي
وما زال عندِك بعد نقطة ماء لي كوني كريمـــه وريِّحـي أعصابنا.
لكن الموقف الأكثر تعبيراً عن شغف الناس بالشعر حدث معي مساء الأربعاء الماضي (24-6-2015)، وفي حفل إفطار أقامته بلدية بانكستاون بمناسبة شهر رمضان المبارك. والتقيت في الحفل برجل لا أعرفه، لكنني رأيت في ملامحه رقيّ الإنسان، والآدمية بأبهى صورها. وبعد السلام، فهمت منه أنه يقرأ الصفحة 23 في جريدة "المستقبل" باستمرار، ويتتبع ما أكتبه فيها، إلى أن قال: قصيدتك عن سعيد عقل رائعة، وقصيدتك التي نشرتها في العدد الماضي كانت كذلك أيضاً، فقلت: أيّ قصيدة؟ قال: التي يقول مطلعها:
عالعين يا بو الزلف ما بقيتْ غنّيلو هللي تركني ومشي وضلـّيت ناديلو
من بعد وجّي ما كان بيشبـه التفّاح لونو الحقيقي انمحى واصفرّ منديلو.
وقبل أن يكمل الرجل المطلع رأيته يبكي، وانهمرت دموعه، وكان عدد من الزملاء حاضرين، فتعجب بعضهم، وتعجبت أنا أيضاً، بينما كان الرجل يأخذ منديلاً ويمسح دموعه، فيصفرّ المنديل أيضاً بين يديه.
لم أشأ أن أسأل الرجل عن حاله، ولا لماذا بكى؟ فقد تكون عنده قصّة تجرحه، والقصيدة فعلت فعلها في قلبه. لكنني أكبرت شعوره، وعظمت من ذوقه الأدبي، ومن إحساسه المرهف وإنسانيته التي انفتحت أمامي كما ينفتح البحر أمام الصياد. وانتظرت حتى انتهى الإفطار، فذهبت إليه وسلّمت عليه بحرارة، فعانقني وقبلني، فقلت له: أريد أن أقبّلك في رأسك، فأحنى رأسه وقبلته كما يقبل الابن الصغير والده... كانت تلك الأمسية واحدة من أكثر الأمسيات التي هزّت مشاعري، وعلى الرغم من اعتذاري الشديد لأنني جعلت الرجل يتألم ويبكي، لكنني ما أزال أحتفظ بصورته ولن تفارق عيني، وسأقول له دائماً: يا لك من رجل كبير!
_________________
Women’s Issues in Rihani’s Literature (By Dr. Jamil Douaihi)
The following academic article was presented in an international conference held at Notre Dame University - Louaize in 2012 and published in a book entitled: Ameen Rihani's Arab-American Legacy: From Romanticism to Postmodernism. NDU Press, Zouk Mosbeh, 2012.
Introduction:
Ameen Rihani is one of the most prolific Lebanese writers who defended women’s rights. Rihani is well known for his opposition to old-fashioned traditions and his tremendous support for Oriental women in their fight for a better life. If we profoundly observe Rihani’s literary works that focus on women’s concerns, particularly in the East, like Wajdah (1908 -1909), Zanbakat Al Ghaour (1915), and Kharej Al Harem (1917), we may notice that Rihani was extremely audacious and daring with his approach to women’s critical issues, such as sexual relations, the veil (hijab), and the revolt of women in their traditional communities.
It is necessary to explain why I consider Ameen Rihani the most audacious writer in relation to women’s concerns. In Kharej Al Harem, he delineates the struggle of a Turkish Muslim woman, her opposition to the Hijab, and her sexual relationship with a Christian man. Kharej Al Harem is considered to be the most daring book of its time, in relation to women’s matters. It is the Arabic version of an English script entitled Juhan, that was published in 1917 by Abdul Maseeh Haddad. During that period of time, discussing the revolt of a female against her strict father, and her physical love for a man, were considered strictly taboo. In Wajdah, Rihani refers to the suffering of a Muslim woman during Imam Ali’s era, while in Zanbakat Al Ghaour, he tells the story of a woman named Miriam who lives in a Christian community and suffers under patriarchal authority.
In addition to Wajdah, Zanbakat Al Ghaour and Kharej Al Harem, The Book of Khalid and Arrihaniyat have raised many questions about women’s rights and freedom. Ameen Rihani does not only display the revolt of women and their reactions to the old-fashioned traditions, but he also shows himself as a great defender of women’s rights. For example, he frequently praises Juhan as an example that can be followed by many other women who experience the same agony and suffering in a patriarchal society.
Many books have been published about Ameen Rihani, most of them focusing on his travel literature, political issues and Rihani’s opinions about global peace, harmony, democracy, modernity and human rights. Suhail Bashrou’i does not mention anything about women in his book The English Lebanese Literature(بشروئي، 2000) . Several other researchers who published their papers in Ameen Rihani: Bridging East and West (Funk & Sitka, 2004) have disregarded Ameen Rihani’s addressing of women’s issues.
Meanwhile, only a few papers have discussed Rihani’s concerns with women’s issues. In a conference held in 1999, under the title “Ameen Rihani - Cultural Harmony and Human Unification”, Assad Skaff studies “the realistic narration of Kalb Lobnan characters”. He only sheds light on the different features of the Lebanese mother (سكاف، 1999). Another researcher, Mohammad Ali Moussa, studies some of Ameen Rihani’s views towards women’s issues in his article, “Ameen Rihani – Issues of Liberation and Democracy” (موسى، 1988), but does not explore the most important books that Rihani wrote especially to support women’s causes, like Wajdah, Zanbakat Al Ghaour and Kharej Al Harem.
In my proposed paper, I will observe the most significant topics concerning women that Rihani addresses including the principles of patriarchal authority, like the veil and tabooed love, and also the struggle of women to achieve their freedom. By examining Rihani’s portrait of the Oriental woman and his great support for their struggle to play a vital role in a new and better society, I will prove that Rihani’s approach to women’s concerns is a part of his humane call for worldwide revolution and change. The article will be divided into two parts. The first part will discuss Rihani’s portrait of the Oriental woman and the second part will illustrate Rihani’s approach to women’s rights.
Rihani’s Portrait of the Oriental Woman:
There is no doubt that the Oriental woman has suffered throughout the centuries. Many attempts to grant her freedom and human rights have failed, for many Oriental societies strongly believe in the superiority of men. Hence, women in the Orient are viewed as subsidiaries and not leaders. In Wajdah, the female protagonist asks: “When was woman master of her house?” (Rihani, 2001, p.39) Here, Rihani refers to the fact that women in the Orient do not have the right to decide about their situation in their own home, for men are regarded as the superior leaders and women as subordinates. Wajdah’s question reflects the bitter social situation that Oriental women face. Wajdah also asks another sour question: “Am I but a prisoner in this house? A slave indeed?” (Rihani, 2001, p. 48) This question reflects Wajdah’s complaints about the discrimination between men and women in the Oriental society, where women are treated as followers and as slaves by males, who consider themselves as the masters of their houses.
Wajdah lives as a confused princess in a man’s world. After losing her son in a battle she lives with Quais, a boy whom she wrongly thought was her own son. Rihani portrays Wajdah as a victim who is oppressed by men and a subject of malicious rumors regarding her love for her son: “And that thou lovest thine own son.”(Rihani, 2001, p. 60) Wajdah uses her strength to overcome her trials and tribulations. Her real son reappears at the end of the play only to kill Quais. Wajdah slaughters the killer without knowing that he was her long lost son. This act of revenge symbolizes Wajdah’s revolt against the patriarchal society. Then she vows to kill herself, but changes her mind and decides not to die. Here, Wajdah expresses herself as a strong and committed woman who refuses to give up under the pressure of harsh circumstances.
In Zanbakat Al Ghaour, Rihani introduces Miriam, a female character who is victimized by several men. Miriam flees an orphanage to work as a servant in a house. She then flees that house after having a relationship with A’aref, her master’s son, and becoming pregnant. She gives birth to a boy who later is kidnapped. She moves to Paris where she works as a teacher and a belly dancer. After that, she moves to Cairo where she becomes a well-known dancer, but she faces financial difficulties. She loses her job and her house is sold in an auction. She decides to go back to Tabarayya where she finds her kidnapped son and gets married to A’aref. Soon after, she suffers from illness and vows to move to Lebanon to start a new life. According to Ameen Albert Rihani, the Philosopher of Frayke managed to describe the conflict between Miriam and her society: “In her many disappointments, she tries to forget her past and free herself from the many burdens that society had thrown on her back”
(الريحاني، أمين ألبرت، 1978، ص 232)
Miriam is a prey in the midst of a forest. Her master tries to abuse her. She cries and retreats. She falls down to the ground ((الريحاني، غير مؤرَّخ، ص 60. Then, she turns against herself and she falls in love with a number of men such as Najib and Mosbah Afandi. Despite her belief that Mosbah would plot against her, she spends a night with him, then she expels him. He seeks revenge by publishing her story in the media.
Meanwhile, Ameen Rihani represents the confrontation between Miriam and her society as an internal clash within herself. She decides to get revenge from men by hurting her own spirit. Rihani draws a picture of a female who can abuse herself in order to abuse men. One of the novel’s old aged characters says: “If I were a beautiful young girl, I would build an attic on the lake shore, for only love and death. I would absorb the lives of men. Then I would throw them into the lake to be eaten by fish” .(الريحاني، غير مؤرَّخ، ص 101)
Miriam becomes a prostitute who feels ashamed about her life. She describes the past as “a mite that eats into her bones, a fire which erupts in her blood and a crowd of ants that crawls in her body” (الريحاني، غير مؤرَّخ، ص 290). But Rihani blames society for Miriam’s behavior. He argues that “people disrespect the adulteress, but they don’t know the reasons that deform her spirit and destroy her honesty, purity and loyalty, or they don’t care about reasons even when they know them” ((الريحاني، غير مؤرَّخ، ص260-261. This bold opinion about prostitution contradicts what people usually think about a prostitute. People look only at facts and turn their eyes away from reasons that make a woman sell her body in order to stay alive.
The portrait of the Oriental woman also appears in The Book of Khalid. In this book, Rihani focuses on political and humanitarian matters, but he also refers to the love story of Khalid and Najma. Najma is a traditional unsophisticated Lebanese girl and a victim of the patriarchal society that forbids her from marrying the man she loves, Khalid. Her father wants her to marry another man. When Najma once tries to disobey her father, he threatens to kill her: “I will hang you tonight” (Rihani, 1973, P.199) and he prepares the rope in order to hang his daughter: “Najma’s father brings out his rope… and suspends it from the rafter in the ceiling. And when his daughter returns from the spring, he takes her by the arm, shows her the rope, and tells her briefly to choose between his Excellency (the rich man) and this. Poor Najma has not the courage to die.”(Rihani, 1973, P. 200)
The domination of the father is very intense and powerful. In the beginning of the 20th century, a girl being threatened by her own father or brother was common in the Lebanese community. We may find today similar cases in some Lebanese villages, where girls have no say in their destiny. Their fate is enforced by others.
Meanwhile, Najma is a victim of another man, Farouche, the local priest, who hides his hatred towards her lover, Khalid. Farouche accuses Khalid of being an atheist and convinces her father to make the girl marry another rich man: “The young man we recommend is rich, respected in the community, is an official of the government…and is free from all diseases… Consider these advantages. A relation this, which no father would reject, if he loves his daughter…”( Rihani, 1973, P. 198) Forcing a girl to marry a rich man is one of the most common traditional practices in the Lebanese community. Anis Fraiha argues that money was the first factor in many marriage deals in the Lebanese villages (فريحة، 1989، ص 163).
Najma is depicted as naïve. She once said: "Do not blame me then, I am so simple, you know, so foolish.” (Rihani, 1973, P. 181) Her simplicity emerges when she asks Khalid to buy her a dress with ruffles: “I never saw a bride in a plain gown; they all have ruffles and flounces to them…” (Rihani, 1973, P. 181) Najma is a model of the traditional village girl who shows interest in external appearances. Ruffles and flounces on a woman dress are equivalent to ruffles and flounces of Oriental societies. Dunnavent claims that the talk between Khaled and Najma about her wedding dress “inspires Khalid to see that both society and the wedding dress have their ruffles and flounces: laws, customs, philosophies and religion that have developed over the centuries and that control everyone’s life.”(Dunnavent III, 2004, P. 61)
But Najma is loyal to her lover, despite the interference of her father and the priest: “If she were not constant in love, she would not have rejected the many opportunities in the absence of Khalid, and had she not a fine shrewd sense of real worth, she would not have surrendered herself to her poor ostracized cousin.” (Rihani, 1973, P. 178)
When Khalid and Najma become husband and wife, she is obedient and submissive to him and she accepts to move with him to live in a desert, despite her disagreement with his lifestyle. Her stance toward her husband’s desire was similar to other women’s obedience in the habitual Lebanese community. Khalid takes Najma away to the desert, where she becomes distant from her parents: “Poor Najma goes over to his (Khalid’s) mother instead, and mingling their tears and prayers, they beseech the Virgin to enlighten the soul and mind of Khalid. “‘We must be married here before we go to the desert’ says she, ‘for think, O mother, how far away we shall be from the world and the church if anything happens to us’.” (Rihani, 1973, P. 193)
Rihani wants us to see the real picture of a traditional woman. In an article he wrote in 1933, he describes this woman as a real fighter, who hardly knows anything in the world but her house, and does not want anything out of her life except her duty, far away from the illusion of fame and glory. That woman always acts for the great responsibility of the family, love and survival .(الريحاني، 1978، ص 92)
Rihani continues to display the picture of a traditional woman, who is compliant, patient, loyal, and a hard-worker. She has these traits in order to protect her honor, and do what is best for her family. She swings the bed with a steady hand and with a heart full of faith... Her husband betrays her, her sons desert her and her brothers disregard her. Despite that, she stands in the arena of struggle. She does not forget, nor desert, nor betray. Her life is a continual act of giving for love and duty ( (الريحاني، 1978، ص93. One may ask here: Why Rihani, the man with a revolutionary mind, would draw this simple and submissive picture of a woman?
This portrait does not translate Rihani’s call for freedom and liberation of humanity. In fact, he tries to encourage women not to retaliate when people mistreat them. Najma was one of those women who suffered a lot in her own community. We can either accept this suffering or oppose it for being wrong and dreadful. One of the most painful acts of Najma’s life story was when people sent their children to stone her door and circulate rumors about her: "I am so lonesome, so miserable. And at night the boys cast stones at my door. My husband’s relatives put them to it because I would not give them the child. And they circulate all kinds of malicious rumors about me too.” (Rihani, 1973, P. 351) Najma’s ordeal in a close-minded community is in fact an example of many similar experiences of women who deal with harsh ideologies and beliefs.
The domination of men also appears in Kharej Al Harem, where Juhan is a Turkish woman who abandons her husband and falls in love with a German officer, despite her father’s refusal. Juhan’s father orders her not to leave the house. He closes the door in order to prohibit her from meeting the German officer: As from now on, you must not get out unveiled or without the company of a servant. You also should not deliver speeches nor interfere in politics, nor write newspaper articles. Most importantly, you are forbidden from meeting General Von Valnstein and writing letters to him (الريحاني، 1948، ص 13-14). Kharej Al Harem ends when Juhan’s father is accused of opposition to the Germans. He is jailed. Juhan tries to save him by offering her body to the German officer, but after she discovers that her father was killed in prison, she assassinates her lover.
Rihani uses Kharej Al Harem to criticize the religions which discriminate between men and women: What is the benefit of many prophets? They are all similar in relation to women. Love, compassion, justice are all gifted from men to women. They are all acts of charity from a man, whether he is Oriental or Westerner, a prophet, a poet, or a porter. A woman would not be escorted without a whip .(الريحاني، 1948، ص 115)
Juhan is very strong and aggressive, but she becomes weak, only when the German officer detains her father. It seems that her sacrifice to release her father is a negative and bizarre act. Ameen Albet Rihani claims that Juhan possesses constancy, determination and strong resolve. She is also optimistic in regard to the future. These virtues are virtues of supremacy that Juhan manages to achieve, despite the many disappointments she faces
.(الريحاني، أمين ألبرت، 1987، ص 233-234)
2- Rihani and women’s rights:
Ameen Rihani supports the cause of freedom and equality between men and women. He understands that the Oriental woman is unable to play an important role in the advancement of her society. Mohammad Ali Moussa argues that Ameen Rihani realizes that the decline of Oriental society is a result of women’s ignorance, while women constitute half of the population. They turn to be a broken and useless fraction, blocked by artificial obstacles and restrictions ( (موسى ، 1988، ص14. Rihani believes in freedom, but he claims that the Oriental woman could not achieve her freedom and rush to her social responsibilities: Freedom is a stubborn horse. It has been deceived by men but not women (الريحاني، غير مؤرَّخ، ص132).
The Philosopher of Frayke defends free women and praises their self esteem and free will. He describes Juhan as ambitious to freedom. The word ‘freedom’ has been written in eternal books with letters of gold and blood… Juhan was striving to reach her freedom. She wrote this word on her spirit after she erased the old traditions and habits
. (الريحاني، 1948، ص5)
Ameen Rihani utilizes Juhan, for example, as a revolutionary role model. She represents thousands of women who strive for their independence. She once dreamt about thousands of women in black dresses, cringing with chains and handcuffs. Their eyes were looking at her, asking and begging, as if they were pleading her to do something important for them (الريحاني، 1948، ص 34). Juhan launches a war against the infidelity and tyranny of men, in order to gain freedom for her sisters in slavery
.(الريحاني، 1948، ص 6)She refuses to obey the unfairness of a male, whether he is a husband, a brother, a father or a king
(الريحاني، 1948، ص 11)
Rihani also admires Juhan as a social activist. She accomplishes many activities in one day: In the morning, she visits the injured soldiers in a hospital. In the afternoon, she delivers a speech in an all-girls school. In the evening, she sells flowers in a charity market. She also writes an article about Jihad in a newspaper, and reads the book of Zarathustra by
Nietzsche which she is translating into the Turkish language (الريحاني، 1948، ص 11).
Moreover, Rihani describes Juhan as a rebel against the traditional behavior of her father. She calls herself “the Daughter of Revolution.” (الريحاني، 1948، ص 7) She refuses her father’s order to stay caged in her house. She also rejects her father’s wish to marry Shokry Bey. She instead runs to see her beloved one. Juhan’s refusal to marry a man she does not love corresponds with Ameen Rihani’s plan for a Greatest City, where a woman cannot be forced to live with a man she does not love, and a man cannot be forced to live with a woman he does not love ((الريحاني، 1978، ص 189. Marriage, in Rihani’s view, should be based on love not traditions. He asks: What is the difference between a prostitute and a wife who offers her body to her husband and forbids him from her heart? (الريحاني، غير مؤرَّخ، ص 320). Rihani also believes in spiritual bonds between a husband and a wife. He says: “I have no faith in men who conceived in a careless manner, on a pragmatic system, so to speak: The wife receiving her husband in bed as she would a tedious guest at an afternoon tea… I believe in evoking the spirit, in dreaming a little about the gods of the Olympus, and a little too, about the gods of the profound depths, before the bodily communion.” (ٌRihani, 1973, PP. 263-264) For Rihani, any relation between a man and a woman should be established on harmony between love (soul) and sex (body): “The true life, the full life… is that in which all the nobler and higher aspiration of the soul and the body are given full and unlimited capital scope.” (ٌRihani, 1973, P. 263) But Rihani does not deny the wife’s responsibility after her marriage to a man she does not love: The woman, who knows and confirms that marriage is slavery and accepts it, must not complain against slavery (الريحاني، غير مؤرَّخ، ص 132).
Juhan makes every effort to marry a man of her choice. She says: I aim for my happiness, for myself, according to my freedom of choice. If I want to become a mother, choosing the father of my son is my sacred right .( الريحاني، غير مؤرَّخ، ص 59) Juhan’s revolution corresponds with Rihani’s opposition to the radical Ottoman regime in the Middle East. Juhan symbolizes Rihani himself as a rebel who unleashes a real and devastating revolt against the Ottoman occupation. Rihani addressed the immigrants, urging them to offer their money to support the liberation of the region from the Ottoman occupation. Hence he converted himself from a moderate author to an extreme rebel who called people to launch a bloody revolution against the Turks( الراوي، 1958، ص 34-35).
Furthermore, one of the most critical subjects that Rihani addresses is the Hijab. In a letter written by Rihani to Nazira Zain Eddine, he rejects the veil, saying that the world is advancing and the new social, cultural and economic conditions should wipe out religious taboos .(الريحاني، 1991، ص266) In Zanbakat Al Ghaour one woman says: I’m puzzled by a woman who wears the veil against her will, and accepts the injustice of man. Another woman asks: What would you do if you were one of those miserable imprisoned women? The other woman replies: I will tear off the veil with my hands… Ten unveiled women walking on the city street are better than one hundred books written in the quest of their freedom ( .(الريحاني، غير مؤرَّخ، ص 133 Rihani praises Juhan for being the first Turkish lady who walks unveiled on Istanbul’s streets. She is also the first Turkish woman who stands in a public square, splitting her veil and saluting the sun of freedom (الريحاني، 1948، ص 26)
Splitting a veil contradicts some fundamental religious Oriental traditions, but Rihani believes that the development of societies should wipe down the ancient customs, while religions should cope with modernity. He argues that religious regulations freed several generations but enslaved others… The Shari’a that managed to free women from Jahiliya’s rules and habits became today a heavy yoke on women’s shoulders. That Shari’a which was accepted by women during the fifth century is not accepted by them in today’s societies and may be refused again in the future. This is the rule of continual and vital development which deceives the lawmakers, the reformers and the wise men (Rihani, 1978, P.P. 275-276).
Moreover, tearing the veil in Istanbul and embracing the sun of freedom reflect the positive view of Rihani towards women. He was optimistic about women’s future for they will break the traditions that made them instruments for desire, fun and laziness
(الراوي، 1958، ص 102)
In Arrihaniyat, Ameen Rihani expresses his optimism about the destiny of women. He says: I am optimistic about the future of women, who were handcuffed by the control of the rulers, the lawmakers and the rich men, for women will join the rulers, the lawmakers and the economy leaders. Women also will marry the men they love. I am optimistic about women who used to be the sleeping half of the nation. They will raise, get away of their hideouts, and free themselves from the covers of tyranny and oppression. Then, they will share with men their responsibilities and anticipation .(الريحاني، 1978، ص 74)
The optimism of Rihani is also expressed in Wajdah. Ameen Albert Rihani sets a relation between the commitment and struggle of Wajdah and the optimistic attitude of Rihani himself towards life and persistence: This is the posture of Rihani, the optimist who defies wounds and prevails with hope and courage against life’s difficulties. This is the posture of a man who holds firmly the roots of life. As Khalid had suffered from the tragic and cultural contradiction that forced him to dream about a new world, Wajdah also experiences a clash within herself. That clash produces some resolutions that are derived from conflicting values. Wajdah had chosen the resolutions that denounce human defeat and overcome her self-weakness الريحاني، أمين ألبرت، 1987، ص(231)
Ameen Albert Rihani sets parallelisms between Wajdah and Rihani himself, and also between Wajdah and Khalid who refuses to give up. Instead, he vows to defeat his personal weakness and fight for the betterment of himself and his family. Here, we also have proof that Wajdah is a role-model, and her struggle against the odds is, in many ways, a common struggle of every woman and man who seek dignity and prosperity.
Conclusion:
Ameen Rihani uses several of his books to support Oriental women’s call for freedom and equal rights. According to Ameen Albert Rihani, the Philosopher of Frayke seeks the superiority of women. Wajdah, Miriam and Juhan prevail in their glorious struggle against their self weakness and against their societies (الريحاني، أمين ألبرت، 1987، ص 230)
Juhan characterizes the individual struggle against social discrimination and tyranny as Rihani believes that “revolution had to come from within the people, men and women. It should begin at the individual level, at home, ‘in the harem’, at school, in the workplace, in the place of worship and the administration.” (Hajjar, 2010, P. 19) For Rihani, “each individual should think for himself, will for himself, and aspire incessantly for the realization of his ideas and dreams.” (Rihani, 1973, P. 163)
Rihani wants to declare a modern society in which all individuals possess the same rights of civil liberty. Rawi describes Rihani as a social and political leader who stands firm in his resistance to fake tradition and aims relentlessly for a new society. This society should be autocracy-free and filled with love, collaboration and fraternity. (الراوي، 1958 ، ص 34)
Ameen Albert Rihani argues that the rejective social stance of Ameen Rihani is based on his denial of all sorts of class discrimination, religious discrimination and racial discrimination in his native society and the societies he visited. This stance is also founded on his refusal of all traditional aspects which cripple the freedom of speech and belief
.(الريحاني، أمين ألبرت، 1887، ص 158)
Rihani displays the real features of the Oriental women in their grief, suffering and obedience, but on the other hand he utilizes Wajdah, Miriam and Juhan to unleash the social revolution of his own dream, for he believes that human life in silence and calmness seems to be like the running water into the bottom of a valley, without impact or collision. Living a peaceful life far from battles and confrontation is like a bat who hides himself in the silence and obscurity of a cave or like a larva who covers itself under decayed tree leaves
.(الريحاني، 1978، ص 240)
The revolution of a woman is justified in many ways. Hence we see the uprising of Wajda, Miriam and Juhan against their societies, and against the dominance of men and the patriarchal traditional principles. Those women openly declare their desire to change the small world that surrounds them and that limits their ambition for freedom. For the Philosopher of Frayke, criticizing darkness or complaining about it is not enough for the individual to control his own existence. People need to strive with courage and faith to add more eternal light to their world (الريحاني، 1978، ص 277)
References
(All Arabic materials are translated into English by the writer.)
بشروئي، سهيل (2000). الأدب اللبنانيّ بالإنكليزيّة. بيروت: المؤسَّسة العربيّة للدراسات والنشر.
Dunnavent III, Walter (2004). Rihani, Emerson and Thoreau. In Funk, Nathan and Sitka, Betty (Eds), Ameen Rihani: Bridging East and West, Maryland: University Press of America.
فريحة، أنيس (1989). القرية اللبنانيّة حضارة في طريق الزوال. طرابلس (لبنان): جرّوس برسّ.
Hajjar, Nijmeh (2010). The Politics and Poetics of Ameen Rihani. London: Tauris Academic Studies.
موسى، محمَّد علي. (1988). أمين الريحاني وقضايا التحرّر والديمقراطيَّة. في أمين الريحاني رائد نهضويّ من لبنان. بيروت: دار العلم للملايين.
الراوي، طه (1958) أمين الريحاني – جوانب من شخصيّته وأثره في نهضة العرب. بيروت: دار الريحاني للطباعة والنشر.
Rihani, Ameen (2001). Wajdah. Washington DC: Platform International.
Rihani, Ameen (1973). The Book of Khalid. Beirut: Published by Albert Rihani.
الريحاني، أمين (غير مؤرّخ). زنبقة الغور. بيروت: دار الجيل.
الريحاني، أمين (1948). خارج الحريم. بيروت: مطابع صادر ريحاني.
الريحاني، أمين (1978). الريحانيّات. ج1. بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ.
الريحاني، أمين (1978). الريحانيّات. ج2. بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ.
الريحاني، أمين (1991). رسائل أمين الريحاني. بيروت: دار الجيل.
الريحاني، أمين ألبرت (1987). فيلسوف الفريكة صاحب المدينة العظمى. بيروت: دار الجيل.
سكاف، أسعد (1999). الواقعيَّة الروائيَّة في شخصيَّات "قلب لبنان". في أمين الريحاني- تناغم الثقافات ووحدة الإنسان. وقائع مؤتمر الدراسات حول أمين الريحاني. قرنة شهوان.
________________________
Infiltration of English into Arabic in Lebanon- Nessecity and Conflict
Dr. Jamil Doaihi
Pubished in:
International Journal of Arts and Commerce Vol. 2 No. 1 January 2013
Introduction: The Arabic language in Lebanon is subjected to critical changes in regard to both colloquial and written dialects. Lebanon is known as a bridging country between East and West. Hence, the Lebanese people are very keen to accept the majority of new - fashioned inventions. In the current epoch of globalization, science, communication and advanced technology, we cannot imagine the Lebanese population isolated and far from the modern pace of advancement. The language is a part of the culture and the heritage. The Arab world has always looked at the language as the “overarching benchmark of identity in the Middle East and the assumed cement and nimbus of Arabism and Arab nationalism” , but this stance towards the language is not fully obeyed in Lebanon. While walking on the streets of Beirut, or any other Lebanese city or town, one may hear several dialects and a colloquial Arabic, which is mixed with French and English words. In my article entitled “English Infiltration into Arabic in Lebanon: Necessity and Conflict”, I will shed light on the infiltration of English into Arabic in Lebanon, not only in regard to the educational system, but also in regard to the different aspects of daily life, and I will discuss the social and religious reactions toward English terminology. Accordingly, this paper is divided into two parts: “The Necessity of New English Terminology in the Arabic Language in Lebanon” and “The Argument about the Infiltration of English in the Lebanese Dialect”.
1- The Necessity of New English Terminology in the Arabic Language in Lebanon: In an era of technology and industrial motion, the Lebanese people have found themselves poor with technological inventions. The producers of new technology in the USA, Europe, Japan, South Korea and China use the English language as a common means of communication in advertisements, media promotion and machinery labeling. For this reason, the English language has become richer and loaded with a huge quantity of new terms in the fields of computer technology and science. It is now obvious that the English language has become a vital part of our life and the Arabic language does not possess the tools needed to shield itself from the invasion of modern terminology. One may ask the following questions: Why do some Arab scholars consider their own language as a part of their sacred heritage? Is it true that a language should remain immaculate and free from foreign elements? and what is the critical impact of new terminology on a language? Any language is formed by a large group of words and is similar to a huge dictionary, and every time we decide to reprint this dictionary, it seems essential and logical to add the amount of new terms that have emerged following the boom of all areas of science, philosophy, literature, industrial activities and technology. This process of reshaping the language does not seem dangerous or destructive, but is in fact, an enriching operation that makes the language more flexible and affluent. The Arabic language had to embrace, in the past, many terms from other languages such as Persian, Turkish, Greek, and Syriac. The Arab people have already extracted words like mihrajan (festival), bazinjan (egg plant), sharshaf (quilt), rosenamah (calendar) from Persia. They have also adopted seesh barak (kind of food), baklawah (kind of sweet) and sheesh kabab (kind of food) from Turkey, and bahar (pepper) from India and courtas (notebook) from Greece. Anees Frayha argues that a huge number of words that we use in our daily life are of non-Semitic origin, such as Persian, Turkish, Greek, Latin and modern European languages . On the other hand, many English words have been derived from the Arabic language such as artichoke أرضي شوكي, sugar سكّر, giraffe زرافة , cotton قطن, camel جمل, jar جرّة and ghoul غول. These Arabic words have been infiltrated into English through different kinds of contact: Trade, wars, tourism and translation... Some other Arabic words have been transformed into English after the Arabs’ invasion of Andalusia. The Arabs ruled Spain between (711-1492). Following the retreat of the Arabs from Spain, they left their monuments and their linguistic traces that are today obvious in the Spanish language. Iffat Al Kadi Pasha entered 834 words that have been transferred from Arabic into English. This process of exchange is natural and a result of interaction between different civilizations. It is normal to have many English words in our culture. In Lebanon, for example, people utilize, in their daily life, a big quantity of English words to replace their parallel Arabic colloquial words such as football, tennis, volley ball, excuse me, hi, sorry, thank you, man, bro, etc. Some of the Arabic words that are synonyms of these words have been forgotten and are almost completely unused. It is largely believed that the colloquial language is more flexible and can embrace English terminology, while the formal language is somehow related to education and literature. In other words, a teacher or an intellectual may prefer the usage of pure, formal Arabic, while a normal person is free from any linguistic control. A teacher may ask his student to use the word hatef for telephone, but ordinary people usually use the word telephone, and the word hatef seems like a dead word in the popular dialect. Mansour Eid describes the colloquial language as more pragmatic than the formal language, for it is attached to the man’s daily life and his relentless development . The situation in Lebanon concerning the use of English terminology in the colloquial dialect is not different from the situation in Egypt, Saudi Arabia and other Gulf States, especially when young people who go to an English school read English books, watch English movies and deal with Indian taxi drivers, Indian home servants and restaurant workers, who speak only English. Furthermore, if we walk into a Lebanese shopping mall, we read the shops’ names written in English, such as McDonalds, Kentucky Fried Chicken, Derby, Good Morning Shoes, Waiting Angels for Mum’s Dress, Burger Station and Daily Press Library. People would usually use common English words in their colloquial dialect such as mall, shopping center, shopping, special, cash, check, coffee shop and station. Tourists who visit Lebanon can rarely bump into Salma’s Shop, Fatima’s Ice Cream Factory or Jamil’s Shopping Mall. The same situation applies to the large commercial billboards that are located on roadsides. It is evident that people prefer to display English names above their shops instead of Arabic names. Furthermore, the Lebanese speaker reshapes some English words to be used as Anglo- Arabic verbs such as: Youcancel: To abolish (from cancel). Youshannej : To change the taxi or the hotel (from change). Youshayyik : To check up (from check) Youmassej: To send a message (from message). Youtalfen : To make a phone call (from telephone). Yousayyive: To save money or documents (from save). Youfaqquis: To send a fax (from fax). Youdabris: To suffer from depression (from depression)… In the media, the usage of English terms is also large and alarming. Some radio and television stations have established English news and programs beside Arabic ones. Almustaqbal Television broadcasts daily news every day in English. Programs are loaded with English songs and gossip about American and English celebrities. Even the names of some Arabic television stations are pronounced in abbreviated English: MTV, OTV, NBN and LBC. Also, some Lebanese television programs have English themes like Double Click, Butterfly Effect, Transit (Future TV), Offside, Dunk (New TV) Reflex and Puzzle (LBC International). Shaaban states that 37% of television programs in Lebanon are broadcasted in English while only 7% of such programs are screened in French . Furthermore, many news readers and program hosts insert English expressions into their Arabic programs during their show broadcasting like break, news, program, traffic, transmitter, media… In the Lebanese cinemas, the great majority of movies are imported from Hollywood and loaded with Arabic subtitles . There is no doubt that the most prolific source of English words that are pumped into Arabic is the Internet. If we read the translation of the term internet in Arabic, we discover how silly it is to try to translate an English word that has no roots in the Arabic language. The translation of Shabaka A’ankaboutia which literally means “spider web” has nothing to do with the internet, while English words like byte, cyberspace, Ethernet, Java, USB and modem are left without a translation. Hence, people prefer to pronounce these terms in English. This also happens in academic studies that are concerned with computers and the internet. In his PhD thesis, Ali Mohammad Rahouma writes many technical English words in Arabic such as internet, web, multimedia and hypertext . In the educational field, the majority of schools in Lebanon teach English. Many private schools are called “International Schools”, while more than 40 universities teach English and several of them are following the American system. Researchers in these universities use APA, MLA and Chicago citation systems. The old Arabic system of reference and footnotes has been eliminated in the majority of universities. Even the names of faculties, departments and classrooms are written and pronounced in English only. Furthermore, “The Lebanese university students valued English as an essential language to know, mostly because of the importance of English as an international language rather than any affiliation with American or British culture” . The domination of the English language came after a long competition with French since the middle of the 19th century when “French Jesuits and American Protestants established several schools in the country, exposing the Lebanese to Western cultures and languages.” The Jesuits struggled to impose the French culture on Lebanon, while the American Protestants showed their enthusiasm towards English. Between 1920 and 1943, Lebanon was under the French mandate and the French language was classified as the second language behind Arabic. According to Diab, “French was taught in all schools and was the medium of instruction for sciences, mathematics and social studies at all levels of education.” The first written Lebanese Constitution that emerged in 1926, assured that the French language was the official language beside Arabic , but during that period, the English language as not an essential language to be taught or to be largely spoken. Speaking French was an elite practice for many families. Expressions like bonjour, bonsoir, au revoir, merci monsieur and merci mademoiselle were very common in the Lebanese society. Gradually, English became more required, especially for Lebanese people who had to travel to USA, Australia, Canada, Africa or other English - speaking countries. Furthermore, English started to become vital for businesspersons who had to travel to America, Europe, India, China and Russia, where English is considered a bridging language that can help facilitate communication between a Lebanese merchant and another business partner. Hence, English advanced from being the third spoken language in Lebanon to a more commonly spoken language that is now considered more important than French in many social, commercial and even academic societies. According to Shaaban, the most important foreign language in Lebanon is English. 49% of the Lebanese people consider English as essential and 30% regard French as essential . This preference of English occurred after English became an international communication tool. Crystal writes: “The British Empire may be in full retreat with the handover of Hong Kong, but from Bengal to Belize and Las Vegas to Lahore, the language of the scepter isle is rapidly becoming the first global lingua franca” . The French language is no longer an international need, and people who used to spread out French through Francophone culture did not know that they were living in a critical period between two eras, and that the cultural change will be overwhelming until another incursion occurs, which is the incursion of the English language . We can say that the Lebanese people have finally accepted the English language as a necessary part of the educational system with the eruption of the Lebanese War (1975) when the public schools closed their doors and private schools started to teach English. One of the most important aspects of that critical change was the founding of schools that teach English. Many private schools embraced the English language as a third language, following Arabic and French, starting from grade 3, because these schools assessed the importance of English and realized the needs of students who vowed to continue their further education in English and in American system universities. Furthermore, the Lebanese University opened several departments that teach many topics in English(2000, ص30). Nowadays, a number of private universities have been operating in Lebanon, most of them following the American system such as Notre Dame University - Louaize (NDU), American University of Technology (AUT) and Lebanese American University (LAU). A survey which was conducted by the writer on November 2, 2011 involving 30 students from Different faculties at Notre Dame University - Louaize in Lebanon revealed the following findings: 30 students out of 30 know the English language. 28 students out of 30 can use English as a means of communication. 30 students understand English. 30 students consider English as essential. 28 students believe that English is important for dialogue between different civilizations and cultures. 28 students consider English as more important than French. 19 students believe that English is a threat to Arabic. 27 students write SMS in English. 26 students write SMS in Arabic, but use English letters and English numbers which replace certain letters that are exclusive to Arabic such as:
3 for ع
7 for ح
5 for خ
2 for ء
25 students use English words while talking colloquial Arabic. 25 students do not require a translation when watching English movies. The survey shows that 296 answers were positive towards English in comparison with only 34 answers that were negative. The score, which is 89.7% against 10.3 %, reflects the importance of English in the daily life of NDU students.
2- The Argument about the Infiltration of English in the Lebanese Dialect: Before the industrial revolution in Europe, the usage of English in Lebanon was not very significant, for the Arabic language was then sufficient to cover almost all areas of social, political, religious, cultural and economic activities. But when hundreds of new words rapidly emerged, mainly in the West, due to the revolution in science and technology, the Arabic language found itself unable to follow the speedy motion, despite the desperate attempts that have been shown by translators to transform the newly emerged words into Arabic. Some Lebanese scholars argue that the Arabic language is capable of embracing new expressions, and coping with the quick movement of the new technological gear, for this language is a language of derivation, interaction with other living languages, analysis, adaptation and the Koran’s inspiration. This language is in fact able to hold the seeds of modernization and renovation. Several other researchers and scholars have spoken loudly about the necessity of developing the Arabic language by linking it to English, for the new communication techniques have emerged, expanded and imposed their organic relations with foreign languages . Baydoun describes the new form of the Arabic language in Lebanon as a mixed blood language that is condemned and mocked by some people, but it is in fact a high standard of reshaping and developing the language. Hence, we are on the correct road towards founding a final language, which is derived from two or three languages . On the other hand, some ص ،2012 other language scholars express their fear about the current situation of the Arabic language in front of the invasion of globalization, for this language cannot resist the impact of the fast moving era and the scientific thoughts that may dominate the nation and its heritage . It is not logical to deny the necessity of the English language as a second language that has become an essential element of education and communication. This act of transformation from pure Arabic to a cocktail of terminology is not bizarre or something to deny. In other words, extracting terms from another dialect is usual, and the interaction between different cultures, either during the periods of peace or times of war, is necessary to facilitate communication and science. The West has generated a large quantity of technological words, while the Arabic language does not have the mechanism to find appropriate synonyms for those new words. This inability of producing suitable Arabic synonyms has created what we can call a “translation crisis”. The Arab translators use generally two different ways of word translation from English into Arabic:
1- A translator can produce a pure Arabic translation such as hasoob for computer, mizia’ for radio, khayal for cinema and ra’i for television. The word hasoob is related to hisab (calculation), which is related to arithmetic more than to computers. The word mizia’ means “the device that broadcasts”, while the third word khayal refers to “shadow or imagination” and not to cinema. The word ra’i means “the one who looks”. We can notice that Arab translators can create a good word like mizia’ for radio, and some arbitrary words like khayal for cinema and ra’i for television.
2- A word can be converted into Arabic by partly preserving its original English pronunciation such as tilfaz for television and battaria for battery. I Meanwhile, a device’s name can be translated either by preserving its original English root such as tilfaz for television or by creating a pure Arabic word such ra’i. The usage of ra’i for television is very rare and one can find it only in professional dictionaries. Here, one may ask a critical question: How do people choose the appropriate word and use it? The answer is that the selection depends on their taste. The pronunciation can be simple, easy and acceptable or can be harsh, weird and undesirable. For this reason, people prefer to use an English word instead of an Arabic word. The terms computer, television, video, camera, telephone and fax are widely used in the Lebanese dialect, while some Arabic words like hasoob for computer and khayal for cinema are omitted, not only from the daily language, but also from literary activities, and even from the media. People prefer to use the term mobile phone rather than mahmool which literally means carried, and dish rather than sahn which literally means plate. The word mizia’ for radio is not used in the Lebanese colloquial dialect. Instead, people prefer the word radio, while the term iza’a for radio station is widely used. Furthermore, hundreds of technological words are somehow left without translation. Professional linguistic bodies like the Arabic Language Council in Cairo and the Office of Translation Coordination in Rabat find themselves puzzled in front of a huge number of new words that cannot be translated into Arabic. Ameen Albert Rihani criticizes the insistence of Arabs to translate English words into Arabic and he calls them to immediately adopt the imported European idioms without any change. Rihani realizes the almost impossibility of translating all English words into Arabic, while there is no way to resist the huge number of English terms that are sweeping the Arabic language day after day . Abd Al Hassan Al Hussaini wrote a dictionary of expressions used in the field of technology and communication. He counted 20,000 English words or expressions that are used by Arabs. He claims that there is no solution but to employ those words, for today’s technological revolution is not only an extension of the continuous development of technology, but also a complete change process which covers culture, translation and social life. Al Hussaini gives several examples from Africa and South East Asia, where the thinkers of developed countries recognize the necessity of technology and information as a means of advancement and development, that can help them to jump over what he calls the “industrial century” . We cannot deny reality. The Arabic language has gradually become packed with English terms and this situation has made fundamentalists worried about the future of our language. They look at the language as their own child who should be protected from foreign harm. We all know that there are strong bonds between the Arabic language and the Koran. Some conservative scholars refuse to accept the foreign dialect into the Arabic language in order to protect the turath (heritage). Hence, conservative nationalist scholars and religious leaders believe that the Arabic language is sacred and is the language of the Paradise occupants, and God promised to protect it. According to the Koran, “Indeed, it is We who sent down the Qur'an and indeed, We will be its guardian.” (Surat Al-Hijr: 15:9) This strong bond between the Arabic language and heritage makes some people believe that the Arabic language should reject new words in order to avoid what some scholars call “heritage deformation”. For this reason, a number of activists established a group in Lebanon called "The Group of Arabic Language Protectors". The secretary of the group, Thuraya Khalil, criticizes the providers of mobile phones in Lebanon who offer the majority of SMS services in English. The group founded a taskforce regarding the English names above the restaurants’ doors. They realized that some owners do not use Arabic even when they display their menus. Some eatery owners agreed to add Arabic to their menus, while others falsely promised to do so.
Conclusion: In a new world of globalization and technology revolution, where distances have become closer, communication has become easier and smart inventions have emerged quickly, it seems that there is no tool to reverse the haste movement and one cannot urge people to stay away from it in order to protect the heritage from danger and foreign invasion. The indigenous thoughts that aim for insuring the sanctity of the past and the foolishness of the present and future are senseless, for nothing is immobile in our universe and every single element is moving by a certain sophisticated mechanism, and so languages act and react. English terminology has steadily become a small part of the Arabic language. English is now spoken in schools, universities, internet activities, communication and business. English is also a means of contact in hotels, airports, shopping centers and even in buses and taxis. This new situation should not make us scared and depressed. On the other hand, the Arabic language is now taught in the American educational system and thousands of American students write, read and speak Arabic. In 2006, the number of enrolments in Arabic class in America jumped 126.5% . Furthermore, Arabic is now an important language in the Australian educational system. The majority of Arab students learn Arabic as a second language in Australian schools. We did not hear Australian scholars calling to protect the sanctity of English and resist the “horrible cultural invasion”. Modernity is not a destructive practice, but it is an interaction between the past and the present, and it is based on the mixture of experience and future deeds. People should be able to accept this mixture in their life , and should not feel guilty every time they use a modern language that includes intruding words, for the language of the Koran will stay unchanged, while the language of technology and development is mechanical and is always subject to change. Hence, there is no need to ask students and internet addicts to use only Arabic terms. Thousands of technological words have no synonyms in Arabic and the translators could not find translations of these words. Marzari states: “If Arabs only used the words given in their dictionaries, when it comes to modern life, they would have to walk speechlessly through the streets and sit silently in their schools and homes.” It is true that the Arabic language is now slow and tardy. This is due to globalization that has thrown Arabic to the back row, away from its communicational and functional role, to be limited into the tight space of vocal contact. In order to conclude the argument positively, we should respect the freedom of all people to choose the language they like, for freedom is also sacred. Ameen Albert Rihani urges the Arab society to believe in a continual linguistic process that may free our language and release it in the open space to obtain the different aspects of knowledge and advancement ( 31 ص ،2003) Rihani does not call for the destruction of the Arabic language and the usage of a foreign language instead. He also does not want to replace the Arabic letters with English letters. He only calls to embrace new terminology in our language. This call seems realistic, because panic would limit our capability of positive reaction, enrichment and advancement. In other words, we must accept the new generations of science and technology without marking these generations with political and ideological labels.
To see full text with citations (APA style) and references, Please Google the title of the article in: International Journal of Arts and Commerce.
All Rights reserved .
لأدب مهجري راق
صورة الشيطان عند غوته وأمين الريحاني
دراسة مقارنة
نشرت كمقالة محكّمة في مجلة منارات ثقافية
أطلق "جروس برس ناشرون" بالتعاون مع "مركز الصفدي الثقافي" مجلة "منارات ثقافية" من إعداد كلّ من المدير السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية الدكتور جان جبور، والأستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور جان توما والدكتور مصطفى الحلوة في حفل شارك فيه وحضره السفير السابق الدكتور خالد زيادة، ونائب رئيس المجلس الدستوري القاضي طارق زيادة، والأمينة العامة للجنة الوطنية لليونسكو الدكتورة زهيدة درويش، وممثلة عن الإتحاد الدولي بشرى بغدادي عدرة، ومدير المركز الدولي لعلوم الإنسان الدكتور أدونيس العكرة، ورئيس الحركة الإستقلالية الحرّة الأستاذ بسام خضر آغا، وعميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور عبد الغني عماد، والمدير السابق لمعهد العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية في الشمال الدكتور عاطف عطية، والمدير العام لدار جروس برس ناصر جروس، ومدير مؤسسة الشاعرسابا زريق الثقافية الدكتور سابا زريق، ورئيس بلدية طرابلس السابق نادر الغزال، ومديرة مؤسسة الصفدي الثقافية سميرة بغدادي في مقرّ المركز في طرابلس.
في البداية كانت كلمة ترحيبية للدكتور حلوة رأى فيها أنّ "إصدارمجلّة ثقافية أكاديمية تهتم بالشأن البحثي ليس بالخيار السهل في هذا الزمن الذي يشهد كساداً فكرياً وتراجعاً مطرّداً للكتاب" لافتاً إلى أنّ المجموعة التي شكلّت هذه المجلة "آثرت اتخاذ هذا القرار غير آبهة بالمعوقات التي قد تعترض طريقها".
من جهته أشار د.جبور إلى أنّ المجلّة هي "سلسلة من الأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والإجتماعية التي تصدر دورياً على شكل كتاب يتضمنّ أبحاثاً باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية" مؤكداً "إننا لسنا إضافة كمية تراكمية في عالم النشر إنما إضافة نوعية".
أما الدكتور زيادة فرأى في هذا الكتاب المجلة "تحديّاً كبيراً نظراً لتراجع نشر المجلات وإقفال بعضها" مشدداً على ضرورة "تقديم الدعم والمؤازرة لهذا المولود الثقافي في ملء الشغور في نشر المجلات الأدبية والثقافية وتراجع عدد القرّاء".
بدوره أشاد الدكتور عطية بإنجازات دار النشر جروس في دعم نشر الكتب لافتاً إلى أنّ "في نشر كتاب دوري يتضمن أبحاثاً متعددة يكون قد شجّع الباحثين على الكتابة من جهة وأفسح لهم المجال في توزيع هذه الأعمال على طلابهم من جهة ثانية".
والختام كانت مع كلمة لجروس لفت فيها إلى أنّ "الأزمة الكيانية التي يعيشها العالم العربي لا تعالج إلا في التعليم الجيد المبني على الإنفتاح والتواصل مع الآخرين" معتبراً أنّ "تشجيع الكتّاب على نشر أعمالهم وأبحاثهم يعطيهم الحافز القوي للإستمرار في عطاءاتهم".
وتلت الكلمات حفل كوكتيل أقيم للمناسبة تخللّه توزيع العدد الأول من المجلّة على الحضور.
وكان كتاب "منارات ثقافية" قد صدر في لبنان قبل حوالي شهرين ويتضمن أعمالاً أكاديمية لنخبة من كبار الأكاديميين والمفكرين. وكان للأدب المهجري الراقي مكانة مرموقة في الكتاب، إذ تم اختيار الأكاديمي المهجري في أستراليا الدكتور جميل الدويهي ليكون في الهيئة الاستشارية للكتاب، كما نشرت له دراسة أكاديمية مهمة من 34 صفحة من الحجم الكبير عن المقارنة بين فكرة "الشيطان" عند المفكر اللبناني أمين الريحاني والمفكر الألماني غوته.
الجدير بالذكر أن آلاف المقالات والكتب نشرت عن أمين الريحاني وغوته، ولم يتطرق أحد من قبل إلى المقارنة بينهما في أي موضوع، كما أنّ أمين الريحاني نفسه الذي عاش بعد غوته، لم يشر بأي عبارة إلى تأثّره بالمفكر الالماني لا من قريب ولا من بعيد.
وهذه ليست المرة الأولى، منذ أطلق الأديب والشاعر والمفكر اللبناني د. جميل الدويهي مشروعه أفكار اغترابية، التي يحظى فيها الفكر المهجري بتكريم كهذا، فقد سبق أن اختارت جامعة سيدة اللويزة قصيدته عن رحيل الشاعر الكبير سعيد عقل لتضمها في كتاب "أجراس الرحيل والياسمين"، وهي القصيدة الوحيدة - حسب علمنا - من المهجر التي ضمّها الكتاب.
وللدويهي العديد من المقالات - الدراسات الأكاديمية المنشورة في كتب ومجلات متخصصة وعلى مواقع الانترنت، منها : قضايا المرأة عند أمين الريحاني (باللغة الانكليزية)، تدريس اللغة العربية في أستراليا (باللغة الإنكليزية)، الأسطورة في أدب سعيد عقل (باللغة العربية)، البطريرك صفير في رحلاته الخارحية (باللغة العربية)...
مقالة - دراسة الدويهي كاملة:
كتبت هذه المقالة الأكاديمية عنما كتت أستاذاً في جامعة سيدة اللويزة (على الأرجح عام 2012)، واحتفظت بها في أرشيفي وكنت أتمنى لو نُشرت كورقة محكَّمة، لكنّ الظروف فرضت غير ذلك، حتى قيض لي الله أن أنشرها في كتاب صدر في مدينة طرابلس اللبنانية عن دار جرّوس - كما علمت - وأصبح من الممكن الكشف عنها، والمقالة تزيح الستار ، لأول مرة، عن مقارنة بين مسرحية "فاوست" الرائعة للمفكر الألماني غوته، وقصّة غير مكتملة للمفكر اللبناني أمين الريحاني بعنوان "رسالة الشيطان"، ولم يتطرق أي باحث من قبل إلى هذه العلاقة، على الرغم من كتابة آلاف المقالات عن غوته وأمين الريحاني، فأرجو أن أكون وفقت في هذه المحاولة الأكاديمية (37 صفحة A4)، والله هو الموفق دائماً.
***
مقدِّمة: المفاهيم الإنسانيَّة المشتركة بين غوته والريحاني:
يُعتبر أمين الريحاني واحداً من كبار الأدباء اللبنانيِّين الأميركيِّين الذين تأثَّروا بالثقافات المختلفة، واطَّلعوا على أعمال مهمَّة لكبار الأدباء والفلاسفة والمفكِّرين الإنسانيِّين. ولا يخفي أمين الريحاني بين الحين والآخر إعجابه بالعديد من هؤلاء العباقرة، وخصوصاً جوهان فولفانغ غوته، فهو يخاطبه في كتاب خالد، طالباً النور، المزيد من من النور:
"أردِّد معك يا غوته، تلك العبارة: الضوء، مزيداً من الضوء." (الريحاني، 2011، ص 256)
وفي مقالة له بعنوان "مناهج الحياة" كتبها عام 1910، يستشهد فيلسوف الفريكة بغوته الذي يقول: "إنَّ واجبنا الرئيسيَّ في حياتنا هو أن ننظر إلى كلِّ شيء بتعقُّل وإمعان، دون تحزُّب أدبيٍّ." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الأوَّل، ص 206). ومقالة "مناهج الحياة" نفسها تعبِّر عن معارضة الريحاني لأشكال التحزُّب السياسيِّ والدينيِّ والاجتماعيِّ، من أجل بناء الإنسان القدوة، حيث أنَّ الناس في رؤية الريحاني، هم جميعاً من فصيل واحد.
ولسنا نرى هنا أنَّ ما يقصده فيلسوف الفريكة بعيد عمَّا كان يؤمن به غوته من أنَّ الإنسانيَّة واحدة، ولا تمييز بين إنسان وآخر. فإنَّ غوته في الديوان الشرقيّ للشاعر الغربيِّ يعلن أنَّه الإنسان العالميُّ حيث لا شرق ولا غرب، ولا ديانات تميِّز بين الناس، فها هو يقول في أوَّل قصيدة من الديوان المذكور:
"الشمال والغرب والجنوب تتناثر،
العروش تتصدَّع، والممالك ترتجف..." (Goethe, 1914, p. 1)
ويقول في مكان آخر:
"لله المشرق،
لله المغرب.
الأرض شمالاً، والأرض جنوباً
ترقد آمنة ما بين يديه." (Goethe, 1914, p. 5)
فغوته يتوجَّه إلى الإنسان أيّاً كان مكانه وزمانه، وهو يتجوَّل في ديوانه "بأزياء مختلفة، كشاعر ألمانيٍّ وتاجر شرقيٍّ، كمسيحيٍّ ومسلم، كتلميذ تعلَّم في مدارس الإغريق، وفي معابد النار المقدَّسة للبارسيِّين من قدماء المجوس." (مكَّاوي، 2006، ص 44)
وقد تبنَّى الريحاني أيضاً فكرة الإنسان غير المحدود، المتحرِّر من إطار الثقافة الواحدة، أو الدين الواحد، أو الانتماء الضيِّق. وينطلق فيلسوف الفريكة، عند طرحه لهذه الفكرة، من ثقافته الخاصَّة ومبادئه الفكريَّة والإنسانيَّة.
ولعلّنا نعثر على بعض التشابه اللفظيِّ بين الريحاني وغوته في موضوع الشرق والغرب. يقول الريحاني في مقالة بعنوان "من على جسر بروكلين":
"الإنسان ليس شرقاً فقط ولا غرباً فقط. هو مزيج منهما." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الأوَّل، ص 115)
وعندما نسمع الريحاني في Chant of Mystics يقول:
"نحن لسنا من الشرق ولا من الغرب،
ليس من حدود في صدورنا، فنحن أحرار..." (Rihani, 1970, p. 106) يتراءى لنا أنَّنا نسمع صوت غوته. ولسنا نستبعد أن يكون كلٌّ من غوته والريحاني قد استوحى فكرة الوحدة الإنسانيَّة من الصوفيِّين الشرقيِّين القدامى، مـن أمثال جلال الدين الرومي الذي يقول:
"أيُّها المسلمون، ليت شعري، ما التدبير؟ أنا لا أدري مَن أنا، فلا أنا مسيحيٌّ، ولا يهوديٌّ، ولا زرادشتيٌّ، لا مسلم، ولا شرقيٌّ ولا غربيٌّ، ولا أنا جسم ولا روح، فنفسي روح الأرواح." (Rumi, 2008, p. 144)
وكما أنَّ غوته حضَّ على التسامح بين البشر، فإنَّ الريحاني يفعل ذلك في العديد من مقالاته، خصوصاً في الريحانيَّات، وكتاب خالد. فها هو يوجِّه كلامه إلى إنسان القرن العشرين، فيرفع صوته بقسوة على "التعصُّب الخبيث الذميم، التعصُّب الفظيع الأثيم. بل على التعصُّبات كلِّها جمعاء، على التعصُّب الدينيِّ الكافر، والتعصُّب المذهبيِّ الفاجر، والتعصُّب العنصريِّ الخؤون. وإنَّ سيفاً على هذه المآثم كلِّها لهو آية الحقِّ والعدل والإخاء." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الأوَّل، ص 66)
ويعتبر الريحاني أنَّ الخلاص من التعصُّب الأعمى هو في يد الإنسان، "في التساهل الدينيِّ... المجرَّد عن كلِّ صبغة مذهبيَّة أو طائفيَّة." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الأوَّل، ص 66).
وفي موضوع التسامح عند أمين الريحاني يقول الباحث فانك Funk: "كان الريحاني رائداً في التسامح، فإنَّه قدَّم لنا من خلال حياته نمطاً من المصالحة بين الثقافات. فإذا اخترنا أن نتبع هذا المثال... فقد نجد أنَّ العديد من مظاهر التعارض التي تقلقنا اليوم، كما بين الإسلام والغرب، أو بين الولايات المتَّحدة الأميركيَّة والعالــــم العربيِّ، ستبدو قابلة للترميم. وقـــد نكتشف وجـــود التكامل فــــي خضمِّ الاختلاف." (Funk, 2011, p. 228)
ومن المهمِّ أن نذكر هنا أيضاً التشابه الكبير بين الريحاني وغوته في موضوع الدين، فكلاهما متحرِّر دينيّاً، أو يفهم الدين على طريقته الخاصَّة، وخارج الأطر والقوانين الموضوعة من قبل السلطات الدينيَّة، سواء في أوروبَّا أو في الشرق. وقد كان غوته يرى أنَّ الأفكار الدينيَّة الشائعة لدى عامَّة الناس لا يمكنها أن تكون هي ذاتها عند الإنسان المثقَّف، على الرغم من أنَّ العواطف الدينيَّة لدى الناس المؤمنين بالله قد تكون متشابهة. وقد بدأ غـوته اختباراته الدينيَّة في مرحلة مبكرة من عمره. وبدأت الشكوك مع بدايـة هـذه الاختبارات . (Lowes, 2003, p. 523)
والحقيقة أنَّ غوته قد آمن بالله، ولكنَّه مارس حقَّه في التحرُّر الجوهريِّ من جميع المعتقدات الـمـوضـوعــة مسبَـقاً، وكذلك احـتـفـظ بحـقِّـه فـي تطوير نـفسه تطـويـراً دينيّاً مستـقلاًّ ( (Lowes, 2003, p. 524.
وكان الريحاني متحرِّراً أيضاً، ومتمرِّداً على الأفكار الموروثة، وعلى المفاهيم التقليديَّة لرجال الدين وللمجتمع، وهذا لا يعني أنَّه كان ملحداً، فها هو يصرِّح بانَّ "الدين لازم للإنسان واجب عليه." (الريحانيَّات، 1982، الجـــزء الـثـانـي، ص 19). كــمــا يقرُّ بـأنَّ "الأديان صقلت أنفس الشعــوب فلطفت، الهمجيَّة منها والخشنة." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الأوَّل، ص 248)
غير أنَّ الريحاني يخالف الطقوس الموروثة في الديانات. ففي المحالفة الثلاثيَّة يجاهر برفضه للثالوث الأقدس، وعذريَّة مريم العذراء، وعبادة الصور والتماثيل التي قال عنها: "العبادة مختصَّة بالله فقط، فإذا عبدنا الأوراق والجفصين نحطُّ من مقام الخالق وننتقص من مجده، فضلاً عن أنَّني لا أعرف أحداً صلَّى إلى هذه الأوراق الملوَّنة المصونة بالزجاج وطلب منها شيئاً فناله." (المحالفة الثلاثيَّة، 1972، ص 106). وترى الباحثة أمينة غصن أنَّ الريحاني يشنُّ حرباً على رجال الدين وكتبهم وطوائفهم، لا على جوهر الدين (غصن، 2011، ص 64).
ولسنا هنا في وارد استحضار جميع ما كتبه الريحاني في موضوع الدين، لكنَّنا نكتفي بذكر قليل من الأمثلة التي نلاحظ أنَّه من خلالها يتبنَّى طريقة خاصَّة في العبادة، وفي ترجمة المفاهيم الدينيَّة الأصيلة: "مَن يضْرع إلى القدِّيسين لينصروه على أعدائه، ويأخذوا بيده، وينقذوه من نار الجحيم، يحتقر النفس، ويكفر بالخالق. الصلاة طريق يعرف بها المخلوق خالقه، وليست نقوداً يرشو بها الإنسان ربَّه." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الأوَّل، ص 102) و"لكنَّ أصحابنا ذوي القلانس والعمائم المتبطِّنة أثوابهم بشيء من أثوابنا، وسواهم من رجال الدين، يؤْثرون تمتمة الصلوات على الصالحات، ويفضِّلون التظاهر بالدين على الصدق والإخلاص، ذلك لأنَّهم اتَّخذوا الدين باباً للارتزاق وسلَّماً للسيادة..." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 15)
هكذا إذن، نجد أنَّ في كتابات الريحاني وغوته كثيراً من نقاط التشابه العامَّة، خصوصاً في محاور وحدة الإنسانيَّة، والتسامح، والنظرة المتحرِّرة إلى الدين. وسنحاول في ما يأتي، إظهار العناصر المشتركة بين مسرحيَّة فاوست لغوته و"رسالة الشيطان" لأمين الريحاني، وفي كلتيهما تركيز على العلاقة بين الإنسان والشيطان، وهي علاقة قديمــــة متجدِّدة، ومـن خلالها تبرز مجموعة مـن القيَم والمفاهيم الإنسانيَّة الشاملة، التي أراد الكاتبان الإضاءة عليها، أو الترويج لها.
لمحة موجزة عن فاوست(*) و"رسالة الشيطان":
قبل أن نبدأ في المقارنة بين "رسالة الشيطان" لأمين الريحاني وفاوست غوته، قد يكون من المفيد أن نعطي لمحة موجزة عن كلٍّ منهما، فمسرحيَّة غوته (كتبت ما بين 1806-1836) تصوِّر في جزئها الأوَّل العلاقة بين الشيطان والإنسان، حيث أنَّ الله يطلب من الشيطان (مفيستوفيلس) أن يغري عبده فاوست، فينحدر الشيطان إلى الأرض ويعرض على فاوست أن يكون خادمه، فيمنحه قوى خارقة، ويمتِّعه بالحياة، بشرط أن تكون روح فاوست في يد الشيطان عند الموت. ويساعد الشيطان فاوست على معاشرة امرأة تدعى مرجريت جرتشن، وعندما يثور شقيقها، فالنتين، يبارزه فاوست فيقتله بمساعدة الشيطان أيضاً. وتتحوَّل حياة مرجريت إلى جحيم لا يطاق، فتحمل سِفَاحاً من فاوست، وتقتل وليدها لكي تطمس الفضيحة، فينتهي أمرها إلى السجن، وهناك تندم أشدَّ الندم وتتوب عن خطيئتها.
أمَّا في الجزء الثاني من المسرحيَّة، فتستمرُّ علاقة فاوست بالشيطان مفيستوفيلس، ويترافقان في رحلة عبر التاريخ إلى عهد الإغريق، حيث يعاصران هيلانة، التي من أجلها نشبت حرب طروادة. وتكثر في هذا الجزء الشخصيَّات الأسطوريَّة، والطقوس السحريَّة، وأجواء الميثولوجيا. ويتحقَّق الكثير من أحلام فاوست وأمجاده، لكنَّ الشيخوخة تداهمه، فيموت وهو يتمنَّى أن تستمرَّ اللحظة (لحظة الحياة والمتعة) فلا تنتهي. ويعتقد الشيطان أنَّ روح فاوست ستكون ملكاً له، غير أنَّ الملائكة تنزل من السماء وتحمل روح الرجل الميت إلى العُلى، حيث يرى القدِّيسة مريم والأرواح الخالدة، ويغفر الله جميع خطاياه.
______________________________________________________________________
(*) اعتمدنا على الترجمة العربيَّة لمسرحيَّة "فاوست" الصادرة عن المجلس الوطنيِّ للثقافة والفنون والآداب في الكويت- طبعة ثانية - 2008. وقد وضِعت هذه الترجمة في ثلاثة أجزاء: الجزء الأوَّل كناية عن تعريف بالمسرحيَّة وجذورها التاريخيَّة، والجزء الثاني يوازي الجزء الأوَّل في المسرحيَّة الأصليَّة، أمَّا الجزء الثالث فيتوازى مع الجزء الثاني.
وقد استوحى غوتـه موضوع التلاقي بين الشيطان والإنسان مــن الأسطورة الألمانيَّة عــن رجل كان يُدعــى فاوست، باع نفسه للشيطان مقابل الحصول على السعادة. وأصبحت هذه الأسطورة موضوعاً لكتب كثيرة صدرت في أوروبَّا قبل غوته بزمن طويل: "هناك كتب عديدة تؤكِّد أنَّ رجلاً اسمه جورج فاوست قد عاش فعلاً من عام 1480 إلى عام 1540 أو 1541 في جنوب ألمانيا. ويقال إنَّ فاوست هذا كان قد وعد الشيطان بروحه مقابل منحه قدرات خارقة... أسرار أسطوريَّة جاءت في أوَّل كتاب حول سيرة حياته، كان قد نُشر عام 1587." (شامي وغوتشان، 2005، ص 118)
أمَّا "رسالة الشيطان" لأمين الريحاني (كتبت عام 1935)، فهي قصَّة غير مكتملة، وموجزها أنَّ الشيطان يظهر على الريحاني نفسه في مدينة لندن، ويعرض عليه أن يكون خادمه. ثمَّ يترافق الاثنان ويتبادلان الأحاديث في مواضيع سياسيَّة واجتماعيَّة ودينيَّة، ويأخذ الشيطان الريحاني في رحلة إلى عالم الأرواح، حيث يشاهدان مجموعات مختلفة من الأرواح السعيدة أو الحزينة. وفي نهاية القصَّة ينادي الله الشيطان لكي يصعد إليه، فيكلِّفه بمهمَّة أخرى.
وخلال هذه الرحلة يتحدَّث الشيطان كثيراً عن نفسه، وعن وظيفته، وطبيعته، وعلاقته بالله والإنسان، ويتبيَّن لنا من خلال الحديث نفسه أنَّه كائن صالح لا يسعى إلى الشرِّ كما يفهمه الناس، بل إنَّه يعمل لمصلحة الإنسان، وإحلال السلام في العالم.
ولا يمكن المقارنة في الحجم، ومجموعة القيَم المختلفة، والحوادث الدراميَّة المتتالية بين مسرحيَّة فاوست و"رسالة الشيطان"، فالأولى عمل مسرحيٌّ ضخم، والثانية قليل من صفحات لم تكتمل. ويبدو أنَّ الريحاني كان يريد أن يجعل من هـذه "الرسالة" محوراً لكتاب مستقلٍّ، فلم يتمكَّن من إنجازه. (ينظر : الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، حاشية ص 145)
المقارنة بين فاوست و"رسالة الشيطان":
تتماثل فاوست غوته و"رسالة الشيطان" لأمين الريحاني في مجموعة من العناصر، سواء من حيث رؤية الإنسان لدور الشيطان في حياته، أم من حيث الحوادث المتتالية التي تجري في العملين الأدبيَّين. وأهمُّ هذه العناصر:
أ- ظهور الشيطان:
يبدو ظهور الشيطان في كلٍّ مـن فاوست و"رسالة الشيطان" متشابهاً إلى حدٍّ كبير، فغوته يجعل الشيطان (مفيستوفيلس) يظهر على فاوست في هيئة كلب أوَّلاً، بينما يكون فاوست مع مرافق له خارج بوَّابة المدينة. ثمَّ يظهر الشيطان مرَّة أخرى في هيئة إنسان يرتدي ثياباً أنيقة:
"فمن أجل طرد الهموم عنك، جئت إليك كرجل نبيل، متدثِّراً بثوب أحمر مطرَّز بالذهب، وعليَّ عباءة من الحرير المشدود، وعلى رأسي قلنسوة مزوَّدة بريش الديكة، ومعي خنجر طويل مدبَّب." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 44)
وبعد أن يطمئنَّ فاوست إلى الشيطان، يعرض عليه هذا الأخير أن يكون خادماً مطيعاً له:
"مفيستوفيلس: أريد أن أرتبط بخدمتك ها هنا، وبإشارة منك لن أهدأ ولن أستريح." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 46).
وفي مكان آخر يقول مفيستوفيلس لفاوست:
"أكون في خدمتك على الفور. أنا رفيقك وسأحسن الصحبة. أنا خادمك. أنا عبدك." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 46)
ومثلما يظهر الشيطان على فاوست متخفِّياً في ثياب أنيقة، هكذا يظهر الشيطان على أمين الريحاني:
"رأيت أمامي رجلاً في ثوب لندنيٍّ أنيق، يجلس في ذلك الكرسيِّ جلسة الكريم الزائر." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 146)
وعلى الرغم من اختلاف نمطَي اللباس بين زمنين مختلفين، زمن غوته وزمن الريحاني، فإنَّ الشيطان في كلِّ مرَّة ظهر في ثياب أنيقة، لكي يخفي بشاعته عن أعين الناس. وترتبط صفة "التلبُّس" أو "الالتباس" بشخصيَّة الشيطان الذي يحاول دائماً أن يُخفي شخصيَّته الحقيقيَّة، لكي يستطيع إيهام الناس وخداعهم.
وعند الريحاني، يعرض الشيطان أيضاً أن يكون خادماً لمحدِّثه:
"أنا الشيطان خادمك المطيع المخلِص... سمعتُك تناديني وتدعوني إليك." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 146)
إنَّ تركيز الكاتبين على خدمة الشيطان للإنسان يؤشِّر على العلاقة الدائمة بين البشريَّة المادِّيَّة المنغمسة في الخطأ، والتي تجد في الشرور انتصاراً لها، وبين الشيطان المستعدِّ في كلِّ مكان وزمان، لتوفير الأدوات اللازمة لهذا الإنسان الضعيف أمام الطبيعة والكون، لكي يغرِق روحه وجسده في مزيد من المآسي. فالإنسان هنا هو السيِّد الذي يطلب، والشيطان هو الخادم الأمين الذي يقدِّم له ما يريد.
ومثلما كان الشيطان رفيقاً لغوته، ويعكس بعض أفكاره، كذلك كان الشيطان عند الريحاني. وكما دعا الشيطان فاوست إلى الوثوق به، والسير على خطاه، يدعو شيطان الريحاني الناس إلى اتِّباعه، لكي يحصلوا على النجاح، ولكي يحلَّ السلم والعدل على العالم (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 154). لكنَّ الاختلاف صارخ هنا بين الأديبين، فشيطان غوته شرِّير حقّاً، كما هو معروف لدى جميع الناس، إذ يقود البطل إلى المهالك والآثام، بينما شيطان الريحاني له وجه خيِّر، غير أنَّ الناس فهموه بصورة خاطئة، ولو أنَّهم فهموه كما يجب، لكانوا استفادوا من قدرته على عمل الخير، (بحسب الريحاني). وكأنِّي بفيلسوف الفريكة يوظِّف طبيعة الشيطان بطريقة أعمق من طريقة غوته التقليديَّة، فالريحانيُّ يريد أن يُظهر أنَّ شيطانه هو أفضل وأكثر جنوحاً إلى الخير من شياطين كثيرين في مجتمعاتنا المعاصرة، يتخفَّون عن الناس في وجوه غير وجوههم، ويعيثون فساداً وقبحاً وحروباً، وانحطاطاً أخلاقيّاً.
وتبلغ الصداقة بين الشيطان وكلٍّ من فاوست والريحاني حدّاً بعيداً، فيتبادل الإنسان مع الشيطان الأسرار، ويتعامل معه كصديق ورفيق، ويشرب معه الخمر دليلاً على المودَّة الفائقة، فها هو فاوست يتوجَّه مع مفيستوفيلس إلى الحانات مراراً وتكراراً، حيث يتبادلان الكؤوس في جوٍّ من الصفاء:
"مفيستوفيلس: كان بودِّي أن أشرب كأساً على شرف الحرِّيَّة، لو كانت خموركم أحسن قليلاً." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 63)
وعند الريحاني أيضاً، يشرب الشيطان الويسكي:
"قلت: هل لك قبل أن نخرج من البيت بكأس من الويسكي؟ فقال: لا بأس." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 153)
وفي مكان آخر يقول الشيطان للريحاني:
"أقول لك، وأنا أشرب هذه الكأس على صحَّتك أن تذكر كلامي." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 154)
ب- الشيطان جزء من الإرادة الإلهيَّة:
أظهر غوته في بداية مسرحيَّته أنَّ الله قلق بشأن الإنسان، ولذلك يتعاون مع الشيطان لتغيير حياة فاوست، فالشيطان هنا جزء من الإرادة الإلهيَّة، وهو ينتمي إلى عالم الخير، بدليل وجوده في الجنَّة مع الله. وقد طلب الله نفسه من مفيستوفيلس أن يذهب إلى الأرض لكي يجرَّ روح الإنسان من ينبوعها الأصيل وينحدر بها في طريقه. فالله والشيطان يتعاونان، ويتحاوران، ويضعان الخطط المتكاملة. بل إنَّ الله يفوِّض إلى الشيطان أمر تنفيذ ما تقتضيه الإرادة الألهيَّة في الإنسان:
"الربُّ: حسناً، ليكن ما تريد جرَّ هذه الروح من ينبوعها الأصيل واقتدها، وفي وسعك أن تمسك بتلابيبها، وأن تنحدر بها في طريقك...
مفيستوفيلس: ...إذا بلغت غرضي، فاأْذنْ لي بأن أملأ صدري بنشوة النصر. لا بدَّ أن أطعمه التراب وبشهيَّة، مثل عمَّتي: الحيَّة المشهورة.
الربُّ: لك الحرِّيَّة في هذا أيضاً. وأنا لم أبغض أبداً مَن هو على شاكلتِك." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 9)
يبدو من الحديث بين الإله والشيطان أنَّهما منسجمان في الرأي، وكذلك في الهدف، وهو الأخذ بالإنسان إلى أقداره المحتومة التي لا يستطيع التخلُّص منها. ولعلَّ في هذا الانسجام تعبيراً عن وحدة الوجود، ووحدة الخير والشرِّ، التي سيكمِّلها الإنسان فيما بعد، عندما يلتقيه الشيطان، ويرافقه، ويهيِّئ له سبل الخطيئة.
إنَّ في التحالف بين الله والشيطان ما يدلُّ على ثنائيَّة متكاملة، يعتبرها غوته من مصدر واحد. وفي ذلك يقول مفيستوفيلس:
"أنا جزء من تلك القوَّة التي تريد الشرَّ دائماً، وتفعل الخير دائماً." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 38). ويقول أيضاً: " أنا جزء من الظلام الذي أعطى الولادة للنور." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 38)
نستنتج ممَّا سبق أنَّ الله والشيطان، في نظر غوته، يتَّفقان على تسيير حياة الإنسان، ويشكِّلان معه وحدة عضويَّة لا تنفصم إلاَّ شكليّاً فقط، فالله والشيطان هما الإرادة العليا التي تتحكَّم بالمرء، وعلى هذا الأخير أن يخضع لتلك الإرادة التي لا مفرَّ له منها.
وفي "رسالة الشيطان"، يُظـَهـَِّر أمين الريحاني الانسجام بين الله والشيطان بطريقة مشابهة، إذ أنَّ العلاقة بينهما محكومة بمشاعر الودِّ والصداقة والتعاون. يقول الشيطان للريحاني:
"قديماً كان الله يستشيرني قبل أن يقدِم على عمل خطير، فكنَّا نتعاون على البرِّوالتقوى. كنَّا الزميلين الجليلين، بل الأخوين الصفيَّين (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 162).
ويعلن الشيطان صراحة في نصِّ الريحاني أنَّ الله والشيطان والإنسان شركاء:
"إنَّنا شركاء في العمل نحن الثلاثة: الله والإنسان والشيطان... نحن أركان الحياة والكائنات منذ البدء وإلى الأبد. إنَّنا شركاء في العمل وفي المُثل العليا." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 174)
وكما رأينا أنَّ الله عند غوته كان شديد القلق بشأن عبده فاوست، وأرسل الشيطان لكي يتحكَّم بمصيره، فإنَّ الله عند الريحاني قلق
أيضاً بشأن مصير الإنسان وهمومه، لذلك يرسل الشيطان إليه: "إنَّ الله نفسه مضطرب البال من أجل الإنسان." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 147).
ويبلغ التكامل بين الله والشيطان في نصِّ الريحاني مبلغاً متقدِّماً، حيث يدعو الله الشيطان في النهاية النصِّ لكي يذهب إليه، قائلاً:
"إنِّي مسرور أيُّها الشيطان بمشاهدتك... يا أيُّها الشيطان، سنعمل منذ اليوم متعاونين أنا وإيَّاك والإنسان على تجديد شباب العالم." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 178)
من الواضح أنَّ الريحاني يشبه غوته في رؤيته لوظيفة الشيطان، خصوصاً من حيث علاقته مع كلٍّ من الله والإنسان، بحيث يشكِّل الثلاثة معاً وحدة الوجود.
وفي رأينا أنَّ الوحدة بين الله والإنسان والشيطان هي دليل على اعتقاد كلٍّ من الكاتبين بالحلوليَّة (Pantheism) . وقد دعا سترونغ غوته بأنَّه شاعر الحلوليَّة: "اقترح أن أتحدَّث عنه باعتباره شاعر الحلوليَّة." ((Strong, 1897, p. 282
أمَّـا الريحاني فيقول في كتاب خالد (وخالد هو الريحاني نفسه): الإنسان هو الأسمى، فقط متى كان الأسَّ الصحيح للطبيعة والروح والله: تلك الينابيع الإلهيَّة الثلاثة التي يصدر عنها (كتاب خالد، 2011، ص 251).
وفي قصيدة غير منشورة باللغة الإنكليزيَّة عنوانها: "الهديَّة السامية" "The Gift Supreme"، يقول الريحاني:
"أهمُّ من الظلمات والنجوم(...)
أهمُّ من القمر وخمر بابل والفردوس(...)
أن نتَّحد بك جميعاً اتِّحاداً إلهيّاً" (عن الريحاني، أمين ألبرت، 1987، ص 219)
ولعلَّ كلاًّ من الريحاني وغوته تتبَّعا أثر الصوفيَّة الشرقيَّة في اعتقاد الحلوليَّة ووحدة الخالق والمخلوق. فمن المعروف أنَّ غوته تأثَّر كثيراً بحافظ الشيرازيِّ وجلال الدين الرومي، فقد وضع في الديوان الشرقيِّ للشاعـر الغربيِّ كتاباً خاصّاً بحافظ. كما كتب قصيدة بعنوان: "جلال الدين الرومي يقول"(Goethe, 1914, p. 61) .
ويَعتبر الباحث جبر أنَّ الريحاني أيضاً كانت له نظرة مؤيِّدة للحلوليَّة، تأثَّرت إلى حدٍّ كبير بالصوفيَّة الشرقيَّة (جبر، 1988، ص 218).
ونحن نعتقد أنَّ الريحاني كان على معرفة بنهج المتصوِّف الكبير جلال الدين الروميِّ، وقد تكرَّرت لفظة "درويش" أو "دراويش" ستَّ عشرة مرَّة في كتاب خالد. والدرويش في الغالب هو جلال الدين الروميُّ أو أحد أتباعه (**). كما أنَّ بطل الريحاني خالد، عندما توجَّه إلى الفلسفة والروحانيَّة، أعلن نفسه واحداً من الدراويش.(Schumann, 2011, p. 295) ولأمين الريحاني العديد من القصائد ذات المنحى الصوفيِّ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قـصـيـدة بعنوان: أغنية صوفـيَّة (A Sufi Song)
(Rihani, 1970, p. 80).
______________________________________
(**) يشتهر أتباع جلال الدين الرومي برقصة دائريَّة تسمَّى : الدراويش الدائريُّون. Whirling Dervishes
ج- الطبيعة القبيحة للشيطان:
ظهرت صورة الشيطان القبيحة في مسرحيَّة فاوست، فهو "الشرِّير الذي يتبدَّى في شكل المحسن، كأنَّه الذئب الكاسر في فروة شاة (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 120). وتجلَّى الشيطان فـي فاوست أوَّل الأمر على صورة كلب لعين، ينتفخ بشعره المشعث (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 37). وعندما حوَّل الشيطان نفسه من كلب إلى هيئة إنسان، كان يعرج برجـْل واحدة (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 61).
وهذا الوصف للشيطان - أي ظهوره مصاباً بعاهة العرج - يعود إلى اعتقاد شعبيٍّ بأنَّ الشيطان أصبح يعرج برجله اليسرى لأنَّها رِجـْل فـرس(***)، بعد أن غضب منه الله وألقى به إلى خـارج الفردوس (Becker, 2000, p. 127)، فالشيطان يُصوَّر على نطاق واسع بأنَّه يعرج، وبأنَّ إحدى قدميه ملتوية (Rudwin, 1970, p. 93)، وقـد دأب الفنَّانون على تـصـويـر الشيطـان باللـون الأسود وبأبشع صــورة ممكنـة (Defoe, 1728, p. 128).
وبسبب هذه المبالغة الخياليَّة في تصوير الشيطان، يسجِّل غوته اعتراض مفيستوفيلس على عدم فهم الناس له: "لم تؤثِّر فيكم كلماتي. وأنا أدعكم وشأنكم أيُّها الأولاد الطيِّبون. لكن تذكَّروا أنَّ الشيطان عجوز، فصيروا عجائز كيما تفهموه." (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 64)
والشيطان نفسه يقرُّ عند الريحاني بأنَّ الناس لا يفهمونه على حقيقته، ولا يعرفون عنه إلاَّ ما شاع في الكتب، وما هو متوارث خلال
__________________________________________________________________
(***) ارتبطت صفة العرَج عند الشيطان بقصَّته مع القدِّيس دانستان(Dunstan (909-988، فقد استطاع هذا القدِّيس تركيب نضوة حصان في قدم الشيطان من غير علم هذا الأخير بذلك .(Flight, 1871, pp. 34-35)
العصور. فالشيطان ممتعض من أنَّ البشر يجهلون طبيعته، بل ينظرون إليهنظرة ازدراء واحتقار: "يقولون فيَّ كلَّ قول قبيح ويسمُّونني بالأسماء المنكرة... الشيطان الرجيم! الخنَّاس، الذي يوسوس في صدور الناس." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص161)
واللافت في "رسالة الشيطان" للريحاني أنَّ الشيطان يتمتَّع بشخصيَّة جاذبة، عالِمة، تجيد النقاش، وذات طبائع إيجابيَّة، على عكس ما صوَّره غوته في فاوست، فغوته ينطلق من رؤية دينيَّة تظهِّر الشيطان ببشاعة وخبث، بينما الريحاني لا ينطلق من رؤيته الرفضيَّة الخاصَّة. بل لعلَّه يعتمد على المنطق الذي يقول إنَّ الشيطان ذو طبيعة قريبة من الناس. فهو لا يمكنه إغواؤهم وجعلهم يسيرون في السبل الملتوية إن لم يظهر عليهم بمظهر فاتن. وقد سبق ميلتون الريحاني في تصوير الشيطان على أنَّه ذو طبيعة راقية، وذلك في القسمين الأوَّل والثاني من الفردوس المفقود، فقد كان شيطان ميلتون في البداية ملاكاً من الشاروبيم، ثمَّ انحدر بعد ذلك في صفاته ليصير حيواناً ذا جناحين. وعندما نصل إلى الجزء الخامس من الفردوس المفقود، نجد أنَّ الشيطان تحوَّل بشكل كامل إلى حيوانيَّة بشعة. وقد يكون الريحاني نظر إلى الشيطان في طبيعته الأصليَّة (ملاك)، ولم يقتنع بأنَّ التحوُّل إلى البشاعة قد حدث فعلاً. ولهذا نرى الشيطان يشكو ويتبرَّم من غلاظة الناس الذين يرون فيه القبح والشرور الفظيعة.
ويتَّضح في "رسالة" الريحاني أنَّ طبيعة الشيطان عصيَّة ومبهمة بالنسبة لطالب المعرفـة (الريحاني نفسه)، ولذلك يطالبه الشيطان بأن ينظر إليه نظرة عميقة متفهِّمة: "فقد حان للناس، وخصوصاً منهم المفكِّرين، أن ينظروا إليَّ وإلى أعماقي نظرة عقليَّة صادقة حرَّة." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 146). ويتَّضح من هذا الكلام أنَّ الشيطان ذو شخصيَّة عميقة تحتاج إلى مزيد من التحليل والدراسة. وقد جعل الريحاني الشيطان على كثير من العلم والدراية، ومتحدِّثاً من الطراز الرفيع، وهذا لا يخالف بعض المعتقدات السائدة، فالشيطان عالِم، وقابل لتعزيز معلوماته، وهو قادر على الإغراء والإقناع بطريقة مدهشة (Gilpin, 1867, pp.21-26).
د- الشيطان يحفِّز الإنسان إلى الأعلى:
في مسرحيَّة فاوست يعمل الشيطان على تحفيز البطل للسير في اتِّجاه معيَّن، أي نحو الطموح الذي تحدُّ منه التقاليد والقيَم السائدة. فإنَّ دور مفيستوفيلس هو أن يبقي الإنسان متحفِِّزاً للطموح (Michell, 1808, p.1).
والتوجُّه إلى الأعلى هو الهدف الذي يسعى فاوست للحصول عليه، فإنَّ فيه روحين متلازمتين: "إحداهما تتشبَّث - في شهوة قويَّة - بالعالم بواسطة أعضاء متماسكة، والأخرى تسمو على التراب بقوَّة صاعدة إلى ساحات الأجداد السامين." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 32).
إنَّ القلق الذي يمزِّق روح فاوست، والذي نتج عن عدم قدرته على اللحاق بما هو فوق معرفة البشر، قد دفع به ذات مرَّة إلى محاولة الانتحار، ولكنَّه عدل عن ذلك واقتنع بالحياة. فاسمعه يقول: "أريد بكلِّ روحي أن أبلغ الأعلى والأعمق... وهكذا تتوسَّع ذاتي إلى ذات الإنسانيَّة." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 49). وعندما يتحالف فاوست مع الشيطان، يضع في حسابه أنَّ مفيستوفيلس إنَّما سيوصله إلى عوالم خفيَّة لم يتمكَّن وحده من الوصول إليها.
وفي "رسالة الشيطان" يقوم الشيطان بدور مشابه، فيقود الإنسان إلى الطموح، بل إلى السبيل الأعلى:
"عليَّ أن أشعل في صدر الإنسان نور الطموح كلَّما انطفأ ذلك النور... عليَّ أن أنبِّهه، وأستفزَّه، وأحرِّضه، وأستغويه... يجب عليَّ
أن أساعده ليفهم ذلك، وأن أستحثَّه على العمل على التصعيد في السبيل الأعلى." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 147)
ولا بدَّ لنا هنا من الوقوف عند لفظة "استغويه"، وهي لفظة تؤشِّر على التوازي العميق بين الريحاني وغوته. أفلم يقم مفيستوفلس برحلة طويلة بين الفردوس والأرض من أجل إغواء فاوست؟ أوليس هو مَن أستغواه من أجل أن يُغرم بمرجريت جرتشن ويعتدي عليها جنسيّاً؟ أليس هو مَن جعل من حياة فاوست نزهة في أرجاء اللذَّة والخطيئة؟
ولكنَّ الاستغواء عند الريحاني لا ينطوي على ملذَّات جسديَّة، بل هو طاقة ملتهبة تنتج عنها المعرفة العقليَّة. فالتوجُّه نحو الأعلى عند غوته هو توجُّه جسديٌّ شهوانيٌّ من جهة، وتوجُّه إلى الذات العليا من جهة ثانية، أمَّا الريحاني فإنَّ إغواء الشيطان للإنسان عنده يهدف إلى إغنائه بالمعرفة المطلقة أي معرفة الحقيقة الكاملة، معرفة الله.
هـ- الرحلة إلى عالم الروح:
في مسرحيَّة غوته، يطلب الشيطان من فاوست أن يتمسَّك بذيل ردائه، لكي يأخذه في رحلة إلى ما وراء العوالم المنظورة، إلى جبال الهارتس، حيث يلتقيان بالأرواح:
"أقول لكنَّ في وجوهكنَّ أيَّتها الأرواح إنِّي الآن أحمل استبداد الأرواح." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 131).
ويقصد غوته بالأرواح هنا جميع آلهة الوثنيَّة التي تحوَّلت في نظر العامَّة إلى جنٍّ وعفاريت وشياطين، بعد انتصار المسيحيَّة على الوثنيَّة في ألمانيا. وقد أصبحت جبال الهارتس Harz موضعاً لاحتفالات وثنيَّة سمِّيت "بسبت الساحرات". والساحرات في الأصل هنَّ كاهنات الآلهة الوثنيَّة المنقرضة (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 161)
ويجسِّد هذا الارتقاء من الأرض إلى عالم الأرواح رغبة غوته نفسه في اكتشاف ما وراء الطبيعة. وقد كان غوته يتمنَّى أن يصعد إلى السماء على عربة من نار، كما إيليَّا النبيُّ لمعرفة الحقيقة الكاملة:
"عربة ناريَّة تحلِّق مترنِّحة بخفَّة وهي قادمة إليَّ! أشعر أنَّني مستعدٌّ لاختراق الأثير سائراً في طريق جديد إلى أفلاك جديدة للنشاط المحض. هذه الحياة السامية، هذه الغبطة الإلهيَّة (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 19-20). ويعتبر مكَّاوي أنَّ مسرحيَّة فاوست تجسِّد "التعطُّش الذي لا يرتوي أبداً إلى الأبديِّ أو المطلق أو الله، أو هو السعي الذي لا ينتهي إلى الوجود الكلِّيِّ." (مكَّاوي، 1999 ، ص 43)
وفي "رسالة الشيطان" يطلب الشيطان من أمين الريحاني أيضاً أن يأخذه إلى عالم الأرواح:
"إنَّنا ندنو الآن من عالم الأرواح. وهاك طائفة منهم." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 156)
وكما طلب الشيطان من فاوست أن يتمسَّك بردائه، لكي ينطلقا في رحلة البحث عن المجهول، في عوالم فوق الطبيعة، كذلك يفعل الشيطان مع الريحاني، إذ ينطلق معه إلى جبل عالٍ (الجبل هو الشيطان نفسه يرتقي الريحاني إليه):
"وسرنا بعد ذلك إلى ردهة القراءة، تلك الردهة المستديرة، ذات القبَّة الكبيرة، فأومأ الرفيق إلى القبَّة، فإذا هي تنشقُّ، فتنشقُّ، حتَّى بدت السماء من فرجتها، فقال (الشيطان) وهو يبتسم ابتسامة مؤنسة مطمئنة: "هات يدك، ولا تخف." ما خفت ويده تضمُّ يدي." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 155).
أنَّ مشهديَّة انشقاق السقف عند الريحاني لا تختلف كثيراً عن تلك المؤثِّرات البصريَّة التي يستخدمها غوته في مسرحيَّة فاوست، أكان ذلك في الجزء الأوَّل، أم في الجزء الثاني. ففي بداية المسرحيَّة، ينفتح المسرح على مشهد السماء حيث رؤساء الملائكة والله والشيطان. وعندما ينتهي الحوار بين الخالق والروح الشرِّيرة تُغلق السماء، ويغادر رؤساء الملائكة (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 10). وفي نهاية المسرحيَّة نرى "شدق الجحيم الرهيب ينفتح ناحية اليسار." (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 199)
وعلى الرغم من هذا التشابه، يمكننا ملاحظة أنَّ رؤية الريحاني أثناء الرحلة إلى عالم الأرواح، تختلف عن رؤية غـوته، فالريحاني ينصبُّ اهتمامه على قضايا إنسانيَّة، ودينيَّة وفكريَّة، وينتقد الحروب والمتحكِّمين بأقدار الناس وثرواتهم، سواء أكان هذا الانتقاد على لسان فيلسوف الفريكة أم على لسان الشيطان، بينما ينصبُّ اهتمام غوته، خلال رحلته مع مفيستوفيلس، على تصوير أجواء سحريَّة وعوالم مدهشة... وقلَّما يتطرَّق إلى الهموم الإنسانيَّة الشاملة.
و- أجواء أسطوريَّة واحتفاليَّة:
في مسرحيَّة غوته، يلتقي البطل فاوست عدَّة مرَّات بمجموعة من الآلهة الأقدمين، وأكثرهم يظهرون في أجساد بشريَّة أو حيوانيَّة، ويتحدَّثون، ويقومون بأعمال خارقة (زيوس، بان، أورياس، زيتوس، كلاييس، أريس... إلخ). وقد كان غوته مُلزماً برؤية هؤلاء الآلهة المتعدِّدة في مسرحيَّته، من جرَّاء كونه، في صورة بطله فاوست، يعايش فترة زمنيَّة غابرة، هي فترة حروب طروادة، حيث تتماهى صور الآلهة والأبطال وأنصاف الآلهة مع الموقع المكانيِّ (اليونان القديمة) والزمن التاريخيِّ (فترة الحروب الإغريقيَّة). ولعلَّ الكثير من شخصيَّات تلك الحرب وأعمالهم الخارقة هي في الأصل من تصوُّرات الشاعر الأعمى هوميروس، صاحب الألياذة.
وخلال تلك اللقاءات، تتصاعد أغنيات جماعيَّة راقصة، تؤدِّيها أجواق من الأرواح والساحرات. فلنستمع إلى إحدى الجوقات تنشد:
"نأوي في همس إلى هذه الرابية التي تجلِّلها الكروم. وهنا في أيِّ وقت نستطيع أن نشاهـد الكرَّام، وهو يشقى في الفلح والزرع
من أجل نتيجة مشكوك فيها." (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 150).
والريحاني في "رسالة الشيطان" يلتقي أيضاً ببعض الآلهة القديمة، مثل سميراميس ملكة أشور، وسافو وتلميذات لها، والمرِّيخ ربِّ الحروب (ينظر الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، الصفحات 157، 163، 170).
والريحاني لا يعود كما عاد غوته إلى تاريخ سحيق، بل إنَّه ينطلق مع شيطانه إلى عالم الأرواح، فيبدو لنا أنَّ أولئك الآلهة الغابرين، الذين نـَزعت عنهم الديانات صفات القداسة، وأعطتها لإله واحد يعبده الناس، أصبحوا أيقونات منسيَّة في الما وراء، لو لم يأخذنا الريحاني إلى عالمهم البعيد، فينفض الغبار عن وجوههم وعن أصواتهم، ويجعلنا نعيش معهم في رحلة قصيرة، لكنَّها مليئة بالموحِيات والأجواء الميثولوجيَّة.
وفي هذا الجوِّ من الأسطورة المدهشة الذي يخيِّم على "رسالة الشيطان"، نستمع هنا وهناك إلى مقاطع غنائيَّة جماعيَّة، تؤدِّيها الآلهات والأرواح اللامنظورة:
"متى يعود الحارث بالمحراث والجذور؟
متى يعود إلى الأرض البهجة والحبور؟
متى تجبر القلوب يا فتَّاح؟" (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 157)
ويمكننا أن نلاحظ هنا أنَّ الكرَّام الذي يشقى في الفلح والزرع عند غوته إنَّما هو نفسه الحارث الذي سيعود في زمن غير معلوم عند الريحاني. كلاهما مُزارع، بل إنَّ كليهما قد يكون الخالق نفسه، فالناس في المفهوم الدينيِّ المسيحيِّ هم الكرمة، وهم الزرع، بينما الله هو الزارع والحاصد الذي يميِّز بين السنابل الصالحة وتلك التي نبتت بين الحجارة والأشواك (متَّى 13: 3-9).
ز- وحدة الزمن:
يبدو إيمان غوته بوحدة الزمن جليَّاً في فاوست، فقد امتزج الحاضر بالماضي، واستطاع فاوست أن يعود إلى التاريخ القديم، ليعيش في عصر حروب طروادة، ويلتقي بهيلانه التي من أجلها نشبت تلك الحروب، في جوٍّ من الخوارق والأساطير والحروب العنيفة. ولعلَّ زواج فاوست من هيلانه هو زواج المادَّة الحيَّة المتمثِّلة بفاوست، والمادَّة البائدة المتمثِّله بهيلانه. بل هو المزج بين الآن وقبل الآن، ليولد منها الزمن المتواصل المتَّحد، الذي لا تحدُّه حدود، ولا تقطعه فواصل.
هذا الانتصار على الجماد يحقِّقه فاوست عدَّة مرَّات، خصوصاً عندما يموت في نهاية المسرحيَّة، فيتأكَّد له أنَّ ما كان يبحث عنه (الحقيقة) موجود في مكان ما، والموت هو الوسيلة للوصول إليه. بل إنَّ الموت لا يعني توقُّفاً أو جموداً في حركة الزمن، فتستمرُّ حياة الإنسان في شكل آخر، مع الله والقدِّيسين والملائكة، ولا يعود الشرُّ محسوباً على الخاطئ، فالشرَّ هــنـا يتوازى مع مفهوم الله، والمرء الخاطئ المضطرب يخلص في النهاية (strong, 1897, p. 324).
والريحاني استطاع أن يحقِّق هذا الاختراق للزمن، إذ أنَّه صعد برفقة الشيطان إلى عالم الأرواح، فالتقي بأناس من الأموات، لكنَّ أرواحهم ما زالت حيَّة في الما وراء. وهنا أيضاً يتوحَّد الآن مع القبل، ويصبح الزمن كتلة واحدة عصيَّة على الاندثار. ويمكن القول إنَّ سقف الغرفة الذي اخترقه الريحاني مع شيطانه ليبلغ عالم الأرواح هو سقف الزمن الذي ينبغي اختراقه وتحطيمه من أجل توحيد الزمان، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وكذلك من أجل بلوغ الكمال. وهكذا تكون الحركة الزمانيَّة كتلة واحدة متراصَّة، لا تمييز فيها بين الأمس واليوم والغد.
ح- الخطيئة لا تقود إلى الهلاك:
إنَّ الشيطان عند غوته لا يمثِّل الشرَّ المطلق كما يعتقد عامَّة الناس، بل هو يصنع الخير أيضاً. ولعلَّ في هذا الاعتقاد، محاولة لرفع الخطيئة عن المخلوق، وإرجـاعها في بعض وجوهها إلى الخالق نفسه، فالإنسان معرَّض للخطيئة في كلِّ يوم، وإذا أخطا فإنّه ليس المسؤول عن هذا الخطأ، إذ أنَّ قوَّة أكبر منه قوامها الله والشيطان معاً، هي التي تتحكَّم في أعماله وتقوده إلى المعاصي. ولهذا نجد الغفران مسيطراً على نهاية مسرحيَّة فاوست، فالله تعالى يستقبل الإنسان الخاطئ والكثير المعاصي، ويغفر له زلاَّته التي ارتكبها بغير قصد أو إرادة تامَّة منه.
إنَّ فاوست المتحالف مع الشيطان، والطامح إلى التطوُّر العلميِّ والوجوديِّ، هو إنسان مؤمن في الحقيقة، وينشد الخلاص، وعندما يموت عجوزاً، تكون له الجنَّة. وربَّما يكون هذا الغفران المجَّانيُّ غير مقبول في نظر الدين المسيحيَّ، والكاثوليكيِّ تحديداً.
لقد صعد فاوست إلى الجنَّة، من غير التوبة والاعتراف والندم. ولم يبدِ كثيراً من الألم والإحساس بالذنب. وهذا يُظهر أنَّ الله ليس غاضباً منه، ولا يعتبر أنَّ ما فعله يستحقُّ الجحيم، حيث أنَّ الخطيئة أيضاً هي جزء من الإنسان، ولا تنفصل عنه.
ويمكننا أن نسأل هنا: ألا وجود في نظر غوته للجحيم؟ ومَن يستحقُّ الجحيم أكثر من فاوست الذي عقد اتِّفاقاً مع الشيطان، وسار على طريقه، وارتكب المعاصي الشائنة؟ وكيف ينجو الإنسان من العقاب الإلهيِّ ويصعد إلى الجنَّة من غير الأسرار المقدَّسة التي
أعدَّت لتخليصه وغفران خطاياه؟
يبدو أنَّ غوته ينظر إلى الله نظرة مغايرة لِما دأب عليه الناس من اعتقاد بأنَّ المسافة بين الله والإنسان بعيدة، ولا يمكن تخطِّيها إلاَّ من خلال طقوس موضوعة، وقوانين سنَّتها الكنيسة. فالله عند غوته غفور ورحيم، ولا يحتاج المرء إلى كثير من مظاهر الندم والتوبة لكي يصل إليه.
ويصيب الريحاني الفكرة نفسها حين يقول في "رسالة الشيطان":
"إنَّ النعيم والجحيم حالان نفسيَّتان، أمْرُهما - في الحياة الدنيا وفي ما يتلوها من حياة - بيَد الإنسان. والاعتقاد في كونهما ثواباً وعقاباً في الحياة الأخرى ينافي طبيعة الله، روح الحبِّ والحنان." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 122)
ونستشفُّ من كلام الريحاني أنَّ العالم الروحيَّ ليس مكاناً للعقاب، بل إنَّه مكان تلتقي فيه جميع الأرواح، سواء كانت خاطئة أم غير خاطئة:
"قال الشيطان: لننتقل إلى طبقة أخرى من عالم الروح. إنَّ التقسيم هنا ليس مضبوطاً محدَّداً، والأرواح تتجاوب وتتزاور. ولك أن تقول: إنَّها كالطيور على أشكالها تقع." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 169). ويقول الشيطان في مكان آخر: "إنَّنا نجتاز الآن ظلمات الأرواح الهالكة كما يقولون. وهي كما ترى، ظلمات فارغة. فأين تلك الأرواح؟ أقول، ولا يخامرك الشكُّ في ما أقول: إنَّ لا وجود للأرواح الهالكة. فالأرواح، زدت علماً، إمَّا سعيدة وإمَّا شقيَّة." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 160).
يبدو من كلام الشيطان أنَّ الريحاني يعتقد بأنَّ عالم الأرواح واحد، لكنَّه مؤلَّف من طبقات متتالية. والأرواح متشابهة، كالطيور التي على أشكالها تقع، بعضها سعيد وبعضها شقيٌّ، ولكنْ ليس هناك من أرواح هالكة كما تنصُّ الديانات. فالهلاك في النار الأبديَّة، وما شابه ذلك من أنواع العقاب التي يخافها البشر، هي في "رسالة الشيطان" غير موجودة.
ط- النظرة إلى العلم:
من السهل أن نكتشف في مسرحيَّة غوته أنَّ فاوست هو رجل عالم، يحمل شهادة الدكتوراه، ويتعمَّق في الدراسات: "ها أنذا قد استبحرت بسعي محموم في دراسة الفلسفة والقانون والطبِّ، وفي دراسة اللاهوت أيضاً... نعم! أنا أدعى بالأستاذ، بل وبالدكتور..." (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 10).
وفاوست العالم ليس إلاَّ غوته العالم نفسه، الذي ترك بصمات كبيرة في الأدب، كما ترك بعض الإنجازات العلميَّة، خصوصاً في كتاب عنوانه "نظريَّة الألوان". ويعتبر الكثيرون هذا الكتاب ضعيفاً، إذ أنَّ غوته في نظرهم "كان عالماً فاشلاً بالمعنى الفيزيائيِّ لهذه الكلمة، ولا شكَّ أنَّه لو كان بيننا اليوم وسمع هذا الحكم من رجال علم الفيزياء لاستشاط غضباً." (أنيس، 2010 ، ص 230)
وقد مدح غوته نفسه كعالم أكثر من كونه شاعراً. يقول:
"أمَّا فيما يتعلَّق بما أنجزته كشاعر فإنَّني لا أفخر به على الإطلاق. ثمَّة شعراء ممتازون عاشوا معي في نفس العصر، وثمَّة شعراء أكثر امتيازاً عاشوا قبلي، وثمَّة آخرون سيأتون بعدي. ولكن في هذا الوقت الذي أعيشه أجد أنَّني الإنسان الوحيد الذي يعرف الحقيقة في علم الألوان، ولهذا أحسُّ بفخر غير قليل." (أنيس، 2010، ص 231)
ومن الطبيعيِّ أن يحدث التجاذب العميق بين العلم والدين في فاوست على أعتاب الثورة الصناعيَّة التي بدأت شمسها تلوح في الأفق. ويعبِّر غوته في فاوست عن قلق الإنسان الدائم في خضمِّ المعتقدات الدينيَّة من جهة، والتطوُّر العلميِّ من جهة أخرى، فالمسرحيَّة تجسِّد طموح الإنسان إلى التقدُّم العلميِّ وصولاً إلى أن يكون هو الخالق. ومن هنا نرى في المسرحيَّة آلة يمكنها أن تخلق "الإنسان الصناعيِّ". وهذا الإنسان يمثِّل رغبة فاوست في الخلق، فيتساوى مع الله (ينظر: غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 66-67-68)
وفي فاوست أيضاً تظهر ملامح غوته العالِم، الذي سبق داروين إلى تأكيد التطوُّر لدى المخلوقات، خصوصاً في النبات. فغوته كانت لديـه أبحاث فـي علوم الطبيعة، وقـد أوحت نظريَّاته في كتابه “The Metamorphosis of Plants” الكثير لتشارلز داروين، وخصوصاً عندما أظهر طاقة النباتات على التوالد من ذاتها في شكل جديد. ومهَّدت مثل هذه الرؤى العلميَّة الطريق لنظريَّة داروين. وداروين نفسه، فـي أيَّة حال، أشار في كتاباته عدَّة مـرَّات إلى كتاب غوته.
Miller, (2009)The Metamorphosis of Plants” , p. XXIV.
وللدلالة على إيمان غوته بتطوُّر الأنواع، نقع في فاوست على إشارات متفرِّقة، توضح أنَّ الأشياء تنوالد وتتغيَّر في أشكالها وكينوتنها: "هذه الصخرة حدثت بواسطة دخان نار" (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 92)، "الحيُّ نشأ من الرطب" (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 93)، "هذا الجبل من الطين" (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص )، "إنَّ الطبيعة تشكِّل بنظام كلَّ شكل" (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 93)، "كان الجبل مستديراً والآن أصبح مدبَّباً" (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 94-95 )...إلخ.
وعلى الرغم من أنَّ الريحاني لا يرقى في العلوم الطبيعيَّة إلى مستوى غوته، فإنَّه في "رسالة الشيطان" يقول لمرافقه: "إنِّي طالب علم، أنشد المعرفة والحقيقة." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 149)
ولسنا نرى الكثير من الإشارات إلى العلم في "رسالة الشيطان"، ما عدا قول الريحاني لمحدِّثه إنَّه روَّض مخيِّلته في روضتين: روضة العلم لدروين، وروضة الشكِّ لهكسلي (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 149).
ومن المعروف أنَّ هكسلي (1825-1895) Thomas Huxley من أشدِّ المدافعين عن نظريَّة دروين: "النشوء والارتقاء". ويعتبر هكسلي أنَّ دروين قدَّم خدمة جليلة للبشريَة من حيث أنَّه أظهر عاملين أساسيَّين في عمليَّة النشوء والارتقاء: العامل الأوَّل هو قابليَّة التغيُّر عند المخلوقات، أي الوجود الذي يمكن من خلاله إثبات قدرة التغيير من خلال المعاينة، والعامل الثاني هو تأثير الظروف المحيطة في تكوين الأنواع الحاليَّة مـن المخلـوقـات وكـذلـك الأنــواع الماضية المتغيِّرة التي تـحـدَّرت مـنـهـا.
(Huxley, 2004, p. 19)
والريحاني نفسه يتحدَّث بإعجاب عن داروين في "رسالة الشيطان": "أجل إنَّ في المتاحف الطبيعيَّة الأدلَّة على صحَّة العقيدة الداروينيَّة، داروين أخونا الأكبر الأبرُّ." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص157).
ونحن نعرف أنَّ الريحاني يقرُّ صراحة بمبدإ التطوُّر، فيقول للملك فيصل في العراق: "إنِّي ممَّن يعتقدون بالنشوء والارتقاء في الطبيعة وفي الاجتماع، وإنَّ التطوُّر معراج الانقلاب الحقيقيِّ." (ملوك العرب، لا تاريخ، الجزء الأوَّل، ص 816).
وعندما يخبر فيلسوف الفريكة الشيطان بأنَّه روَّض مخيِّلته في روضة "العلم" وروضة "الشكّ"، يدفعنا إلى أن نسأل أنفسنا: هل كان العلم بعيداً عن شخصيَّة فاوست الأكاديميِّ العالِم، الذي كان يسعى إلى الحقيقة الكاملة؟ وهل كان الشكُّ بعيداً عنه أيضاً، وهو الذي كان غارقاً في الحيرة، والتساؤل، والريبة إلى حدِّ اليأس والانتحار؟ أوليس الإنسان الذي وصفه شيطان الريحاني بأنَّه مضطرب البال، حائر، جزع، يخبط في الدجى (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 147) هو نفسه بطل غوته؟
يردُّ الباحث أوين على بعض هذه التساؤلات بإجابة قاطعة، مفادها أنَّ فاوست غوته هي واحدة من أعظم خمس مسرحيَّات في التاريخ من حيث تجسيدها للشكِّ، فإنَّ غوته يضعنا في احتكاك مباشر مع العلاقة بين الشكِّ والمعرفة الإنسانيَّة بأكملها (Owen, 1972, p.171).
وفي المحصِّلة، إنَّ غوته والريحاني ينشدان الحقيقة بالتوازي، وإن كان أحدهما يميل إلى العلم أكثر، فكلاهما يطمح إلى معرفة الحقائق الخفيَّة التي لم يستطع العلم بعد الوصول إليها. وهذه الحقائق هي التي شغلت المفكِّرين والفلاسفة خلال العصور.
ي- أفكار دينيَّة:
يستغلُّ كلٌّ من غوته والريحاني شخصيَّة الشيطان للتأكيد على أفكار دينيَّة ولاهوتيَّة. فها هو مفيستوفيلس ينصح أحد التلاميذ بالحذر عند تعلُّم اللاهوت: "وفي ما يتعلَّق بهذا العلم، فـإنَّ مـن العسير تجنُّب طـريـق الضلال، لأنَّه يكمن فيه كثير مـن السموم... والأفضـل هـا هنا أيضـاً ألاَّ يكون لك غير أستاذ واحد، وأن يكون حلفك بكلمات الأستاذ (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 54).
ويبرز غوته موقف رجال الدين المعادي للشيطان، إذ يقلق رئيس الأساقفة من التجاء الإمبراطور إلى الشيطان وأعماله السحريَّة،
ويطلب منه أن يكفِّر عن هذه المخالفة الصريحة للدين، بأن يأمر ببناء كنيسة عظيمة. (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 181)
وفــي الحقيقة، كانت جميع تصرُّفات فاوست منافية للإيمان المسيحـيِّ القويم بمعناه العقائديِّ الصارم، لأنَّ غوته أخذ البطل إلى أبعد مسافة عن المسيحيَّة الأصيلة (Wilton, 1996, P. 1) .
وشيطان الريحاني يزور الكنائس، ساعياً لاستئصال اللاهوت القديم، كما أنَّه يضع الكلام في فم الواعظ العصريِّ الجديد (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، 152).
والشيطان نفسه يشتكي من رجال الدين الذين يسمِّيهم بالأعداء، وقد حاولوا على مرِّ العصور إبعاد الناس عنه، من خلال دعايات خبيثة قائمة على الكذب والبهتان... "وهم لا يزالون يعلِّمون الاطفال، في أحضان أمَّهاتهم وفي المدارس، تلك الخرافات التي كانت تشاع عنِّي، وتختصُّ بي في العهد القديم السابق للطوفان." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 161)
وكما ابتعد غوته في فاوست عن الأصول الدينيَّة الموضوعة، هكذا فعل الريحاني وهو يناقض المفاهيم الكنسيَّة، فكيف يرافق إنسان الشيطان، ويتحاور معه في ودٍّ ولباقة، ويتبادلان كؤوس الشراب، وينسجمان في المواقف السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة المختلفة؟ وكيف يسمح كاتب للشيطان بأن يعبِّر عن طائفة من آرائه وأفكاره، فإذا بالشيطان لا يضمر عداء للنجاح المادِّيِّ، ولا يعترض على الرفاهيَّة الاجتماعيَّة، إنَّما هو خصم أولئك الذين يجعلون من ثمار المدنيَّة إرثاً عائليّاً أو وطنيّاً، وضدُّ الرفاهيَّة المحصورة والبؤس الشامل؟ (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 151).
ك- مواقف من الحرب:
يصوِّر غوته في فاوست شرور الحرب وويلاتها، فيعيدنا إلى العصر الإغريقيِّ القديم، حيث نعيش مع الحروب الكارثيَّة، ونصادف هيلين، التي من أجلها نشبت حرب طروادة. وبين الفينة والأخرى يتجلَّى وصف غوته للحروب ونتائجها السلبيَّة على البشر: "سقطت الامبراطوريَّة في الفوضى، وتنازع الكبير والصغير أشدَّ التنازع، وطرد القصر ضدَّ القصر، والمدينة ضدَّ المدينة، واحتدم الشقاق بين النقابة والنبالة، وبين الأسقف وجماعة القسوس والرعيَّة، ومـــــا تقع العين إلاَّ على أعداء." (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 158)
وفي مقطع آخر يقول غوته:
"أصحاب رباطات الذراع ورباطات الساق، مثلهم مثل أنصار البابا وأنصار الإمبراطور، وقد جدَّدوا الصراع الأبديَّ بعنف. هم ثابتون على ما ورثوه من آراء، لهذا أثبتوا أنَّهم لا يقبلون التصالح. والضجيج يرنُّ بعيداً واسعاً. وأخيراً في أعياد الشيطان تفعل البغضاء الحزبيَّة أقصى فعلها حتَّى آخر درجات القسوة. ويدوِّي بينهم مثل دويِّ بان Pan، فيه شدَّة ووحدة شيطانيَّتان، فيثير الفزع في الوادي." (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 174)
وفي مقطع ثالث يقول:
"شاهدت الكثير من الأمور المفزعة، ويلات الحرب، ليلة طروادة، لمَّا أن سقطت... كنت أسمع صوت الآلهة الرهيب ينادي، وسمعت الأصوات النحاسيَّة، الصراع المحتدم في ساحة المعركة... لكنَّ لهيب النار قفز من بيت إلى بيت، وانتشر بفعل الرياح العاصفة فوق المدينة أثناء الليل. وفي أثناء هروبي استطعت مشاهدة الآلهة وهم قادمون خلال الدخان والحرارة والنيران المتواثبة... مردة عجيبة تخترق الظلام الرهيب." (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 115)
ونحن نعرف أنَّ غوته مسالم حقيقيٌّ. ونزعته المتطرِّفة إلى السلام قد لا يفهمها الناس في مجتمع تقليديٍّّ يقدِّس العادات السائدة والحسَّ الوطنيَّ. يقول مصطفى ماهر عن غوته: "كان غوته رجل سلام، يرفض الحرب كلَّ الرفض من منظور الحضارة. وقد لامه البعض لأنَّه عندما نزلت جيوش نابليون المانيا لم يحمل السلاح لمحاربتها. تحدَّث غوته إلى إيكرمن عن هذه القضيَّة في عام 1826، فقال: إنَّ عالم هؤلاء عالم لا معقول، لا يعرف ماذا يريد، فدعهم في لغوهم. دعهم وشأنهم. كيف كان يمكنني أن أشهر السلاح دون كراهية؟" (ماهر، 1999، ص 24)
إنَّ غوته إذن رافض لحمل السلاح ضدَّ نابليون، فهو مختلف عن الناس الآخرين الذين يرون في الدفاع عن الوطن التزاماً بالكرامة وحقّاً مشروعاً. ولكنَّه في فاوست لا يعبِّر كثيراً عن رفضه للحرب، بل يكتفي بتصويرها تصويراً دراميّاً فظيعاً.
أمَّا عند الريحاني، فتطالعنا آراؤه الإنسانيَّة الشاملة تجاه الحرب. ولكي نكون منصفين، علينا أن نعترف بأنَّ الريحاني أكثر عمقاً من غوته (في فاوست) عند مقاربتهما لموضوع الحرب والسلام، فإنَّ غوته يقتصر على التصوير الفنِّيِّ، الذي تكثر فيه مشاهد النار والدخان والدمار، ولعلَّه كان مأخوذاً بالميثولوجيا والسرد التاريخيِّ والفانتازيا، أكثر ممَّا كان مهتمّاً بإبداء المواقف. أمَّا الريحاني فيذهب إلى مدى أبعد، فيصدر مجموعة من المواقف المناهضة للحروب، ويصبُّ جام الغضب واللوم على مثيري الحروب من حكومات ودول وأفراد.
لقد تجاوز الريحاني العناصر السرديَّة والوصفيَّة لرحلته مع الشيطان، لكي يبرز آراءه القويَّة تجاه الحروب ومَن يحاربون. ومن المواقف التي يعبِّر فيها فيلسوف الفريكة عن فداحة الحروب وبشاعتها، وعن غضبه من مظاهر القتل والتدمير واغتصاب الحقوق البشريَّة:
"هناك ضحايا المرِّيخ ربِّ الحروب. فلقد كانوا يمشون إلى الحرب بقلوب مفتونة بحبِّ الوطن، أو خائفة من سخط الوطن، أو مسوقة بسوط حكومة الوطن. كانوا شجعاناً في الحرب، وما كانوا شجعاناً في العصيان. والشجاعة في الحرب مركَّبة من شتَّى المخاوف، وأقبحها خوف "الأبطال" من القال والقيل، وخوف "المقاتل" من الرصاص المؤدِّب والسجن إذا تقهقر، أو فرَّ. حارَبوا، وهم يلعنون الحروب. مسكين البطل، ومسكين البطيل! ومساكين، مساكين الشهداء!" (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 163).
يبدو ممَّا سبق من كلام الشيطان أنَّ الحروب تحدث بسبب حبِّ الوطن، ورضوخاً لأوامر الحكومات. أمَّا الجنديُّ المقاتل فيخاف أن يرفض الحرب لأسباب تتعلَّق بسمعته في المجتمع، وبما هو شائع من قيَم ومفاهيم لدى الناس، وكذلك خوفاً من العقاب على أيدي الأقوياء المتسلِّطين. ويصف شيطان الريحاني المحاربين بالمساكين، سواء نجوا من الحرب أم هلكوا فيها، إذ أنَّ الحرب خسارة على الإنسانيَّة أجمع، ولا يسلك من شرورها المنتصرون.
ل: الناس مخدوعون:
تزخر مسرحيَّة فاوست بصور المخدوعين، ففاوست خُدع من قبَل الشيطان، ومرجريت خُدعت من فبل فاوست، والشيطان خُدع في النهاية عندما تصوَّر أنَّ روح الإنسان ستكون في يديه، لكنَّها أفلتت منه وذهبت إلى السماء. ومن هنا يقول فاوست بمرارة: "أناس مخدوعون... من آدم حتَّى الآن والإنسان بليد مغرَّر به!" (غوته، 2008، الجزء الثالث، ص 89)
وفي "رسالة الشيطان" تطالعنا طوائف من الناس المخدوعين: جنود يُدفعون دفعاً إلى القتال تحت شعارات خادعة، كالدفاع عن الوطن وصيانة الأعراض، وآخرون خُدعوا من قِبل أعداء الشيطان، فصوَّروه في الخرافات على غير صورته، ومنهم مَن خُدعوا من قِبل السياسيِّين ورجال الدين، ومنهم مَن خُدعوا على أيدي المشترعين: "لقد خدعنا المشترعون، أولئك الذين دنَّسوا معبد المشترع الأكبر..." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 164). وهناك مَن خُدعوا بوعود الدول الكبرى والخطباء والوزراء "الذين يحملون الأكاليل إلى ذلك الضريح (ضريح الجنديِّ المجهول) بيد، ويوقِّعون باليد الأخرى المشاريع للزيادات الضخمة في التسلُّح البحريِّ والجوِّيِّ والبرِّيِّ." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 165)، والأرواح جميعاً هي أرواح "المخدوعين والمنبوذين والمقهورين" (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 152)... وكأنَّ الريحاني يردِّد من حيث يدري أو لا يدري كلام غوته عن البشر المخدوعين من آدم حتَّى اليوم.
خاتمة وتقويم:
هكذا تبرز المتشابهات الكثيرة في مسرحيَّة فاوست لغوته وفي "رسالة الشيطان" لأمين الريحاني. ونحن هنا لا نزعم أنَّ العملين متطابقان أو متشابهان تماماً. فمسرحيَّة غوته هي عالم واسع، وسيمضي وقت طويل قبل أن يتمكَّن النقَّاد من فهم وتحليل جميع رموزها وأبعادها الفكريَّة والدينيَّة والإنسانيَّة. أمَّا نصُّ الريحاني فهو نصٌّ قصير نسبيّاً، لا يــرقــى إلى مستوى القصَّة أو الروايـــة، ولكنَّه مليء بالإشارات التي تعبِّر عن رؤية الكاتب الخاصَّة في شؤون الخلق والحياة والموت، وكذلك في موضوع السلوك الإنسانيِّ. وقد ذكرنا سابقاً أنَّ "رسالة الشيطان" هي جزء من عمل كان الريحاني يريد إتمامه، غير أنَّ ذلك لم يحدث لأسباب لا نعرفها.
وهنا يمكننا إيجاز العناصر المتشابهة في فاوست غوته و"رسالة الشيطان" للريحاني، حيث أنَّ الكاتبين يتقابلان مع الشيطان، ويتعاملان معه بكثير من الودِّ والمجاملة، فالشيطان المتلبِّس في ثياب أنيقة هو الخادم المطيع الذي يرافق الإنسان، ويتحاور معه، ويتبادلان كؤوس الشراب في أجواء من الصفاء.
ويُظهر الكاتبان أنَّ الله والشيطان يتعاونان في ثنائيَّة الخير والشرِّ، إذ يبدو أنَّ أحدهما مكمِّل للآخر. وهذا التعاون قد يبدو غريباً في نظر الإنسان العاديِّ، ولكنَّه ممكن الحدوث في رؤية المفكِّر الكونيِّ الذي يتمعَّن في أصول الخير والشرِّ، وتوازنهما في تحقيق الوجود، فالإنسان نفسه لا ينفصل عن ثنائيَّة الخير والشرِّ، بمعنى حلوليَّة الله والشيطان والإنسان في القوَّة العظمى التي تسيِّر الكون.
وقد رأينا أنَّ الحلوليَّة عند كلٍّ من غوته والريحاني ذات علاقة بما يؤمن به المتصوِّفون من وحدة الوجود. فمن المعروف أنَّ غوته كان معجباً بالمتصوِّفين الإسلاميِّين، كحافظ وجلال الدين الروميِّ، كما أنَّ الريحاني كان ذا ميلٍ شعريٍّ إلى الصوفيَّة، وهو ما ظهر في بعض كتاباته النثريَّة والشعريَّة على حدٍّ سواء.
أمَّا شخصيَّة الشيطان، فقد رسمها غوته كشخصيَّة قبيحة، أمَّا الريحاني فقد جعل شيطانه في صورة الكائن المثقَّف، العالم، صاحب الرؤية الكونيَّة الواعية، ولكنَّ هذا الشيطان يشكو من أنَّ الناس يرون فيه شخصيَّة قبيحة، ولا يفهمون طبيعته الحقيقيَّة.
والشيطان لدى غوته والريحاني يدعو الإنسان للسير على خطاه، فيحثُّه على الطموح، ويدفع به إلى تغيير نفسه، كما يساعده للصعود إلى فوق، حيث تتجلَّى المعرفة والاكتشاف لعالم الأرواح، فينتقل الإنسان من عالم التراب إلى عالم الماورائيَّات المحجوبة، فيتحقَّق الكشف عن المبهَم. وقد رأينا الشيطان في فاوست يقود الرجل إلى عالم الروح في إطار من الميثولوجيا والأجواء الاحتفاليَّة. ورأيناه عند الريحاني يصعد به إلى عالم الأرواح ليبدو المشهد أكثر تعبيراً عن فلسفة الريحاني الوجوديَّة، بعيداً عن أجواء الفانتازيا المسرحيَّة التي اشتهر بها غوته. والانتقال من عالمنا المادِّيِّ إلى عالم الأرواح هو، عند الكاتبين، توحيد للماضي والحاضر والمستقبل في زمن واحد لا ينقطع ولا ينفصم.
وقد وجدنا أثناء دراستنا للنصَّين أنَّ العالم الآخر هو مكان للغفران والمسامحة عند غوته، فإنَّ فاوست وجد ضالَّته أخيراً من خلال الموت، فحظي بالسعادة الأبديَّة، وتحقَّقت المعرفة التي كان يريدها. أمَّا الريحاني فيرى أنَّ العالم الماورائيَّ مسرح للسعادة والشقاء، إذ ليس فيه أرواح هالكة، كما تعتقد الديانات.
ويُبرز الكاتبان عنصر العِلم في طبيعتهما الإنسانيَّة، فبطل غوته فاوست (غوته نفسه) رجل عالِـم، والريحاني طالب علم، وكلاهما يؤمن بحتميَّة التطوُّر والنشوء. ولكنَّ العلم لا يضع حدوداً للشكِّ والتساؤلات الوجوديَّة.
وفي الموضوع الدينيِّ، يطرح كلٌّ من غوته والريحاني آراء متشابهة في العبادة واللاهوت، وهذه الآراء هي ترجمة واضحة للرفضيَّة لديهما، ولمعتقداتهما الخاصَّة التي لا تنسجم مع الطقوس التقليديَّة، فقد كان غوته صاحب مذهب يتعارض مع ما تؤمن به الكنيسة، وكان الريحاني أيضاً، على إيمانه المسيحيِّ، رافضاً لكثير من العناصر الدينيَّة الأصيلة في نظر العامَّة...
ويبقى، ونحن نلاحظ نقاط التشابه بين الكاتبين، أن نطرح بضعة أسئلة: هل حدث توارد في الأفكار بين غوته والريحاني؟ وهل يمكن أن يحدث التوارد إلى هذه الدرجة؟ وهل يمكن أن يكون التشابه في الأفكار الإنسانيَّة بين الأديبين قد أدَّى إلى وقوع سلسلة من المصادفات المحيِّرة؟ أم إنَّ الريحاني كان معجباً بغوته، وقد قرأ فاوست بتعمُّق وإعجاب، فأراد أن يضع كتاباً من وحيها؟
إنَّ الريحاني نفسه يشير إلى غوته في "رسالة الشيطان" فيقول:
"تأمَّلتُ تلك الليلة، وأنا واقف في هذا المكان ما ذكرت من عجز الفنِّ، ومساومات كبار الفنَّانين، كشكسبير وغوته، وذلك الطليانيَّ الأوحد رفيق فرجيل. تأمَّلتُ ما كان من محاولاتهم ومن إخفاقهم في إدراك حقائق الوجود." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 176)
نلاحظ هنا أنَّ الريحاني يذكر ثلاثة من الأدباء العباقرة في التاريخ الذين أقاموا في نصوصهم علاقة بين الإنسان والشيطان. فشكسبير في "هاملت" يعطي للشبح أو الشيطان دوراً بارزاً في تكوين الأحداث الدراميَّة، أمَّا فرجيل، فقد صَوَّر في "الإنيادة" العلاقة بين إنياس AENEAS والشيطان.
وإنَّ ذكر الأدباء الثلاثة يجعلنا نتساءل مرَّة أخرى: هل ذكر الريحاني الأدباء الثلاثة الذين سبقوه في تصوير العلاقة بين الإنسان والشيطان من قبيل المصادفة؟ أم إنَّه أراد أن يضيف نفسه إلى طائفة هؤلاء الكتَّاب القدوة، ليكون واحداً ممَّن تناولوا تلك العلاقة في أدبهم؟
وربَّما يكون من المفيد أن نذكر مجموعة من نقاط الاختلاف بين غوته والريحاني، وهذا الاختلاف تقتضيه الخلفيَّة الفكريَّة، والتوجُّهات الإنسانيَّة لكلٍّ منهما. فالشيطان في مظهره، وخبثه، وأساليبه الملتوية، لا يختلف كثيراً عند غوته عمَّا صوَّرته التقاليد والديانات. بينما يهتمُّ شيطان الريحاني بعمل الخير من أجل الناس وهم لا يدرون بذلك: "أحاول أنا أن أنقذ الإنسان من شروره الموروثة والأخرى المفروضة عليه... وليس في صدري ذرَّة من الحقد أو الضغينة. ولست بزاه ولا بمغرور... أنا وحدي أحبُّ أعدائي، وأتمنَّى لهم الخير والنعمة." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 161)
والشيطان في نصِّ الريحاني منقذ للإنسان، حيث أنَّ هذا الأخير "عندما يقع - وسيقع عاجلاً أم آجلاً- أكون انا (الشيطان) هناك للمؤاساة والإنقاذ." (الريحانيَّات، 1982، الجزء الثاني، ص 149). بينما يعترف الشيطان عند غوته بمسؤوليَّته عن الكوارث والنكبات التي تصيب الإنسانيَّة، فهو الذي يسبِّب الأمواج، والعواصف، والهزَّات والحرائق (غوته، 2008، الجزء الثاني، ص 39)
وقد رأينا مفيستوفيلس مسؤولاً عن التردِّي الذي وصلت إليه حياة فاوست، من اللحظة التي التقيا بها حتَّى موت البطل عجوزاً وضريراً. وفي حقيقة الأمر أنَّ فاوست كان ضريراً دائماً، لعدَّة أسباب أبرزها أنَّه لم يستطيع يوماً أن يعرف الحقيقة كاملة، وأنَّه خضع لإغواء الشيطان، فمال إلى حياة الشرِّ والخطيئة، وارتكب الموبقات الفاحشة، ولم ينقذه إلاَّ عناية الله وشفقته عليه في الفردوس. وهذه التطوُّرات السرديَّة المتلاحقة لا نقع عليها في نصِّ الريحاني.
وبينما يبدو فاوست فاحشاً، متهتِّكاً، يميل إلى النزوات الجسديَّة العابرة، فإنَّ الريحاني يبدو في حديثه مع الشيطان رجلاً محافظاً، ولا يظهر عليه أيُّ اهتمام بالمظاهر البرَّاقة، بل هو مفكِّرٌ عميق، يحلِّل كلام الشيطان، ويستوحي منه العبر، ويُبرز في النصِّ فيضاً من الآراء الإنسانيَّة الشاملة التي تصلح لكلِّ الأزمنة والأوقات، كالتعبير عن رفضه للحروب، والظلم، والقسوة، والجشع، والتمييز بين الناس.
ومن مظاهر الاختلاف بين الكاتبين الكبيرين أيضاً أنَّ مسرحيَّة فاوست يغلب عليها في الغالب مناخ التشاؤم، حتَّى أنَّ فاوست يحاول الانتحار، لشعوره بالخيبة والقنوط. ولا يظهر التفاؤل إلاَّ في نهاية المسرحيَّة، حين يصعد البطل إلى الفردوس. فالمسرحيَّة ذات منهج سوداويٍّ تغلب الرومنطيقيَّة والكآبة على أغلب فصولها. أمَّا الريحاني، فيظهر أكثر إشراقاً وتفاؤلاً، ولا يعبِّر عن كثير من مشاعر القلق، إلاَّ حين ينتقد رجال الدين والقادة وأصحاب الرأي الذين يقودون المجتمعات إلى المهالك والمنازعات. ففيلسوف الفريكة، كما نعرفه، صاحب رسالة متفائلة، تهدف إلى خلاص الإنسان، والانطلاق به إلى عالم جديد.
في الخلاصة، ونحن نقارن بين فاوست غوته و"رسالة الشيطان" لأمين الريحاني، يمكننا أن نقع على مجموعة كبيرة من العناصر المتشابهة أو المختلفة، ومن الإنصاف أن نقول: إنَّ العناصر المتشابهة تثير الدهشة والفضول، وتجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأنَّ فاوست قد أوحت لأمين الريحاني بكتابة "رسالة الشيطان"، أكثر من اعتقادنا بأنَّها لم تكن ذات تأثير على تلك "الرسالة".
المصادر والمراجع
1- العربية:
إنجيل متَّى.
أنيس، عبد العظيم (2010). غوته شاعر عظيم وعالم فاشل. في: الطريحي، محمد سعيد. شاعر ألمانيا الأعظم غوته. دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع.
جبر، جميل (1988). الفلسفة الريحانيَّة. في كتاب: أمين الريحاني رائد نهضويٌّ من لبنان. بيروت: اتِّحاد الكتَّاب اللبنانيِّين ودار العلم للملايين.
الريحاني، أمين ألبرت (1987). فيلسوف الفريكة صاحب المدينة العظمى. بيروت: دار الجيل.
الريحاني، أمين فارس (1982). الريحانيَّات. الجزء الأول. مج 7. بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر.
الريحاني، أمين فارس (1982). الريحانيَّات. الجزء الثاني. مج 7. بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر.
الريحاني، أمين فارس (2011). كتاب خالد. بيروت: المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر.
الريحاني، أمين فارس (1972). المحالفة الثلاثيَّة في المملكة الحيوانيَّة. بيروت: مؤسَّسة دار الريحاني.
الريحاني، أمين (لا تاريخ). ملوك العرب. ج 1. بيروت: دار الجيل.
شامي، رفيق وغوتشان، أوفه (2005). التقرير السرِّيُّ عن الشاعر غوته. ترجمة نهى فورست. كولونيا (ألمانيا): منشورات الجمل.
غصن، أمينة (2011). أمين الريحاني في العبء الرسوليِّ. بيروت: دار الفارابي.
ماهر، مصطفى (1999). غوته الإنسان. في كتاب: غوته العبقريَّة العالميَّة. برلين وبيروت: إذاعة صوت ألمانيا ودار الجديد.
مكاوي، عبد الغفَّار (2006). النور والفراشة. كولونيا (المانيا): منشورات الجمل.
مكَّاوي، عبد الغفَّار (1999). مأساة فاوست وبعض ظلالها في الأدب المصريِّ الحديث. في كتاب: غوته العبقريَّة العالميَّة. برلين وبيروت: إذاعة صوت ألمانيا ودار الجديد.
2- الإنكليزية:
(ملاحظة: جميع الموادِّ الإنكليزيَّة تُرجمت إلى العربيَّّة من قبل الكاتب.)
Becker, Udo (2000). The Continuum Encyclopedia of Symbols. New York: Continuum International Publishing Group. Ltd.
Defoe, Daniel (1728). The History of the Devil. Oxford: Oxford University.
Flight, Edward (1871). The Horse Shoe, the True Legend of St. Dunstan and the Devil. London: Bell and Daldy.
Funk, Nathan (2011). The Book of Khalid: An Intercultural Vision. In: 100 Years of selected Writings on Ameen Rihani’s The Book of Khalid. Paul Jahshan (ed.). Washington, D.C.: Platform International.
Gilpin, Richard (1967). Treatise on Satan’s Temptation. Edinburgh: James Nichol.
Goethe, Johann Wolfgang Von (1914). The West - Eastern Divan. Translated by Edward Bowden. London: J. M. Dent and Sons Ltd.
Huxley, Thomas Henry (2004). Lectures of Evaluation. Whitefish, MT.: Kessinger Publishing.
Lowes, George Henry (2003). Life of Goethe. Kessinger publishing.
Michell, Ruth (1808). Barrows Book notes for Faust - Part I and II. Htpp://lib.yahoo.net
Miller, Gordon (2009). In: Goethe, Johann Wolfgang. The Metamorphosis of Plants. Cambridge MA.: Massachusetts Institute of Technology.
Owen, John (1972). The Five Great skeptical Dramas of History. Hollandale, FL.: New World Book Manufacturing. Co., Inc.
Rihani, Ameen (1970). Chant of Mystics and other Poems. Beirut: The Rihani House.
Rudwin, Maximilian (1970). The Devil in Legend and Literature. New York: AMS Press.
Rumi, Jalaluddine (1993). Tales from Masnavi. Arthur John Arberry (ed.). Richmond: Curzon Press Ltd.
Rumi, Jalaleddine (2008). Love’s Ripening –Rumi on the Heart’s Journey. Translated by Kebir Helminski and Ahmad Rezwani. Boston: Shambhala Publications, Inc.
Schumann, Christopher (2011). Khalid, a Spirit of Adventure and a Search of the Unknown. In: 100 Years of selected Writings on Ameen Rihani’s The Book of Khalid. Paul Jahshan (ed.). Washington, D.C.: Platform International.
Strong, Augustus Hopkins (1897). Great Poets and their Theology. American Baptist Publication Society.
Wilton, John (1996). Reading Goethe’s Faust from a Catholic Perspective.
جميل الدويهي: الناس الذين يحبّونني يكتبون
بعد مهرجان الأدب الرقي 2
16 تشرين الأول 2015
لن ندخلَ في تفاصيل مهرجان الأدب المهجريّ الراقي "أمسية لا تفكّري صار الهوى ذكرى" منذ الآن، فالتفاصيل تظهر في حينها، لكنّ الغبطة التي تملأ قلبي هي أنّني ألتقي بالكثيرين من الأحبّة والأصدقاء بعد غياب أكثر من عشر سنوات. أصدقاء يملأون حياتي نُوراً وطهارة. إنّه الوفاء بعينه أن لا تنسى من تحبّ ولو طالت الأيّام والشهور. جميعهم لم يسألوا عن الكتب، بل سألوا عن الشاعر وماذا سيقول؟ وما هي الرسالة التي يحملها إلى الأدب العربي؟ والشاعر سيلقي أمامهم ستـّة أنواع شعر هي: القصيدة العمودية، وقصيدة الزجل، وقصيدة التفعيلة، والقصيدة المدوّرة، والقصيدة المدوّرة العامية، وقصيدة النثر. كما أنّ ثلاثة مطربين أحبّاء هم السيدة أنطوانيت الدويهي والسيدان طوني يونس وجان خليل سيغنون من كلمات الشاعر، مع موسيقى صديق الروح ألِكس حدشيتي، وبتقديم مميّز من الإعلاميّة السيدة كلود ناصيف حرب
ويسألني البعض ممَّن لا يعرفونني شخصيّاً: هل الكتب الأربعة التي ستقدمها هدايا هي كل ما كتبت؟ فأجيبهم: الكتب الأربعة هي فقط موسم جاء بعد أكثر من 20 كتاباً من أعمالي، تتراوح بين الرواية، والقصة القصيرة، والدراسة الأكاديمية، والتاريخ باللغة الإنكليزية، والشعر بأنواع خمسة (النوع السادس هو المدوّر العاميّ الذي أطلقته مؤخّراً في أستراليا، وكانت أُولى قصائدة "بيتِك حلو" التي نشرتها في جريدة "المستقبل" الغراء وعلى موقعي "أفكار اغترابية"، ولم يتسنّ لي بعد أن أنشرها في كتاب)
وعندما أتحدّث عن كتبي لا أفعل ذلك من باب التباهي ولا الفخر، فما أكتبه ليس منّي بل هو هبة من الله تعالى، بل للإضاءة على حركة أدبية فاعلة وراقية أريد إيصالها إلى المجتمع المحلي والعربي، ولأقدّم للنقّاد الذين يريدون أن يتحدَّثوا عن الأدب بضمير حيّ ما عندي من إنتاج... ومن حقّي أن أعرض كتبي كما يعرض الفنانون لوحاتهم، والنحّاتون تماثيلهم، والخيّاطون الأثواب التي صنعوها، ليس لشيء بل من أجل الحقيقة
ما سأقرأه في الأمسية هو ستّة أنواع شعر (من كلّ نوع قصيدتان)، والتنوّع في الإنتاج، شعراً ونثراً وفكراً، ودراسة أكاديميّة، أردته لنفسي عنواناً لمشروع أدبيّ راق، فأنا لا أحبّ العيش ضمن الخطوط المرسومة، ولا أعتقد أنّ الأدب ينحصر في موضوع أو في شكل دون آخر. لذلك أنطلق في أعمالي كما أريد وحيث أريد، بجناحَي طائر متمرّد على الحدود، وقد يسقط ذلك الطائر من تعب، وقد ينشّز في شدوه، وهذا قدر كل أديب أو شاعر أن يُخطئ ويُصيب، فليست كلّ أعمال الفنّانين والموسيقيّين والمهندسين من الروائع، لكنّ المهمّ أن ينظر الإنسان إلى نفسه ويقول: ماذا فعلت؟ وأين هو إنتاجي؟ وهل أنا حقّاً صنعت أدباً جليلاً؟ وهل أنا راض عن نفسي؟
وإنني أطرح هذه الأسئلة على ذاتي دائماً، وأقارن بين أعمالي وأعمال جبران، والريحاني ونعيمة وسعيد عقل وغوته وموليير، وإدغار ألن بو... فأتمنّى وأطمح، وأجد أنّني بعيد جداً عن الوصول إلى قاماتهم، غير أنّ ذلك لا يجعلني أشعر باليأس، فالإنسان يحاول أن يحلّق، وما أصعب العيش لولا فسحة الأمل. ومن منطلق الأمل أحضّر لأربعة كتب جديدة، مختلفة المواضيع أيضاً، فالكتاب في مشروعي الأدبي والثقافي يجب أن يصدر بحسب الفصول وليس بحسب السنوات، وعليّ أن أمضي بخطى ثابتة غير عابئ بالأعاصير، ولا بالسدود، ولا بوعورة الطريق. وفي هذه الرحلة، لا أشعر بأنّني وحيد، فالكثيرون يسيرون معي وأسير معهم، والله معي، وإذا كان الله معي فمَن عليّ؟
كل كتاب أؤلـّفه ليس من صنعي، بل هو من يد الله وعطفه وعنايته، ولذلك أغتبط بأعمال الآخرين، ولم أشعر مرّة واحدة في حياتي بأنّ أحداً أخذ شيئاً من أمامي إذا أبدع. وعندي إيمان عميق بأنّ الناس الذين يحبّونني هم الذين يكتبون. الناس الذين يحبّونني هم الذين يهيّئون لي النور لأبصر، والسماء لأطير، والبحر لأسافر. ولو لم يكونوا معي لعشتُ وحيداً مثل حقل مهجور. ألف شكر لكلّ من ساعدني، وتفانى في محبته ووفائه، من أحزاب ومؤسسات وجمعيات وروابط ووسائل إعلام وأفراد، كلّهم اندفعوا واعتبروا أنّ الأمسية تعنيهم، فما أجملهم من أصدقاء، وما أوفاهم من أوفياء. لقد عوّضوني عن جروح كثيرة أصابتني في حياتي، أخفيها بابتسامة... هؤلاء هم الأبطال الذين يرفعونني إلى ما فوق النجوم، وهم الشجعان الذين يعرفونني وأعرفهم، ونُثبتُ معاً أنّ الشمس في وسط السماء... ولنا لقاء في أمسية 23 تشرين الأوّل... وأمسيات بعدها ستكون، إن شاء الله، مليئة بالجمال والمحبّة والأدب المهجريّ الراقي
الكذب للتألّق اجتماعياً وسياسياً- دراسة مقارنة
بقلم د. جميل ميلاد الدويهي
على الرغم من بُعد المسافة بين لبنان وأستراليا، فإنّ شخصية الإنسان الكاذب، هنا وهناك، لا تختلف، حتى لكأنّ أحدهما هو الآخر، طالما أنّ أهداف الكاذب تتشابه في الزمان والمكان، فالرجل يكذب والمرأة تكذب والطفل يكذب، والتاجر والسياسي، وسائق سيارة الأجرة، والحلاّق الذي يخترع أخباراً لتسلية الزبائن، والجنود السابقون والصيادون والبحارة... وهذه الوجوه موجودة في كل قرية ومدينة ولا يخلو منها مجتمع
وجميعنا سمع من أناس قصصاً لا تُصدّق، كقصّة ذلك "الشجاع" الذي يخبرك عن بطولاته في الحرب العالمية الثانية، فقد جمع فريقاً من السلاحف، وأضاء الشموع على ظهورها أثناء الليل، ثمّ أفلتها من قمّة الجبل، قبالة المعسكر الفرنسي، فهبّ الجنود الفرنسيون لإطلاق النار على السلاحف معتقدين أنها من جنود الألمان، وهكذا خلا الجو للبطل الشجاع أن يدخل إلى المعسكر من الخلف ويستولي على كثير من الطعام وقطع السلاح
وقصّة رجل آخر ضبطت الشرطة في حديقة وراء منزله شتلات من الحشيش، ولمّا مثُل أمام المحكمة أقسم للقاضي بأنه وضع في الأرض بذور البقدونس فنبتت حشيشاً، وقصّة ثالث يخبرك بأكاذيب لا حدود لها ولا منطق عن إنجازات حقّقها في حياته، ثم تكتشف بعد حين أن ما أخبرك به ما هو إلا أساطير اخترعها لكي يغطي على فشله في الحياة وأخفاقاته في العلم والثروة والشهرة
وقد وظّف الأخوان رحباني في العديد من أعمالهما الفنية ظاهرة الكذب، أو ما يسمى في المجتمع اللبناني بالعامية "التفنيص" أو "التفشيط" أو "التخريط"، والإضاءة عليها في أسلوب ساخر، كشخصّية المختار في فيلم "بياع الخواتم" (إخراج يوسف شاهين 1964)، حيث يخترع المختار في الفيلم شخصية "راجح"، ويصوّره في حكاياته اليومية على أنه عدوّ لدود لأهل القرية، والمختار يواجهه ببطولة ويحقّره دفاعاً عن أهل القرية وكرامتهم. وهنا يتراءى الهدف السياسي- الاجتماعي الذي يسعى المختار إليه، وهو تصوير نفسه كبطل وحامٍ للشعب، وتبقى له مكانته في أعين الناس وقلوبهم
ولكي يعطي المختار لأكاذيبه صفة شرعية، يعمد إلى تشهيد ابنة أخته، ريما، التي توافقه في كلامه أمام الناس، إلى أن يطفح الكيل بها. وتمثل ريما هنا مجموعة المنافقين الذين يبصمون على "العمياني" من أجل مآرب شخصية ومصالح القربى أو الصداقة. وفي حوار بين ريما وخالها المختار تصل الكذبة إلى نهايتها، لتتولّد منها كذبة أخرى، وهي أن الكذب ليس كذباً، بل هو لعبة، أو شيء تحت الكذب
"-لأيمتي رح ضلّ يا خالي تحكي وإشهدلك... شو هالحالي؟
-يا بنت إختي إن ما شهدتيلي مين رح شهّد على حالي؟
-ما زال راجح مجرم وجارح ليش حتّى تقاتلو لـ راجح؟
-ما فيش راجح كبرّي عقلك... خالك يا ريما اللي اخترع راجح
-يعني راجح مش موجود؟
-ولا إلو يا ريما وجود
-وليش اخترعتو يا خالي، شغلت بال الناس وبالي؟
-الأهالي بدّن حكايي... أنا خلقتلّن الحكايي... تا يقولو إنّي بحْميهن من مجهول عليهن جايي
-طيّب وبتكذب عليهن؟
-هيدي يا ريما مش كذبي... هيدي شغلي حد الكذبي... هي خبرّيي... الكذبي صعْبي... بس الخبريي شعريّي، بتوعّي فيهن بطولي بتقطف من إشيا مجهولي
-حكياتك يا خالي شعر وذهب غالي... مدري من وين بتجمعهن بـ المش صحيح بتشقعهن... بتضوّي قناديل الضيعة بالقصة بالكلمي البدعة... بتخلينا نتنزه بين الكذبي وبين الشعر نقطّف زهر.. ومتل اللعبي نتفيّا تحت الكذبي
ولا تختلف شخصية المختار عن شخصية الجدّ بو ديب، في حوار رحباني آخر بين هيفا وجدها
وَكْ يا جدي يا بو ديب إيدك وين كسرتا؟
بالصيد
وَكْ يا جدي يا بو ديب إجرك وين فكشتا؟
بالصيد
وين عقصتك الحيّه؟
بالصيد
هالشيبه وين قضّيتا؟
بالصيد
وشو بدّك بالصيد؟
بدّي الصيد
الصيد بتسلينا قصصو بليالينا
لكن بيصيرو السهّيرة يطّلعوا فينا
يقولوا بو ديب زوّد الخبريه
وبيني وبينك يا جدي بتكون عم بتزيدا
يا بنت بنتي يا هيفا بنت بنتي
لما بتشوفيني زدتا وينك إنتي؟
على الإنسجام بتكبر الخبريه
تبقي اعميلي إشارة برجع بزغّرها شويّه
شفتي مطرح ما قوّصت السبع؟
جدي وين بعد في سباع؟!
هوّي ضبع قد السبع
شفتي مطرح ما كمشت التمساح؟
جدي الحرش مش نهر الأمازون
- حربايه قدّ التمساح... إلخ
يبدو من هذا المقطع أن الجدّ بو ديب لا يضع لأكاذيبه هدفاً سياسياً أو اجتماعياً أو تجارياً أو فكرياً، بل هو من فئة "الفنّاصين" الذين يخترعون الأخبارلتسلية الناس من جهة، ومن جهة أخرى للتعويض عن قصورهم النفسي والإحساس بعجزهم في المجتمع
وتشبه شخصية بوديب شخصية لويس دو روجمونت، وهو مغامر أسترالي من أصل سويسري، واسمه الأصلي هنري لويس غرين. ولد في عام 1847 وتوفَّى في عام 1921. هاجر إلى أستراليا عام 1875 حيث عمل خادماً لحاكم أستراليا الغربية ويليام روبنسون، ثم نادلاً في مطعم، وبائعاً لثياب الغطس، وقائداً لسفينة جنحت عند شاطئ كوينزلاند، ومصوّراً
ويعتبر دو روجمونت من أعظم الكاذبين في تاريخ أستراليا، بل هو الأكثر كذباً على الإطلاق. فقد زعم أنه أمضى 30 عاماً بين السكّان الابورجينيين الذين وصفهم زوراً بأنهم آكلون للحوم البشر وقال إنه تزوج امرأة منهم، وقاتل ببسالة قائداً عملاقاً من السكان الأصليين لينقذ فتاتين بريطانيتين من الأسر، وقال إنّ الفتاتين غرقتا بعد ذلك، لكي يلغي إمكانية البحث عن شهود على قصصه الغريبة
وفي عام 1898 بدأ دو روجمونت يكتب عن مغامراته الأسطورية في مجلة بريطانية "The Wide World Magazine" وقد وصف مغامراته للبحث عن اللؤلؤ والذهب على شواطئ بابوا نيو غينيا، كما وصف كيف أن قبائل الأبورجينيز في أستراليا عبدوه بصفته إلهاً لهم
وادعى دو روجمونت أيضاً أنه جلس على ظهر سلحفاة وقطعت به مسافة في البحر، وأنه شاهد حيوانات "وومبات" تطير
وبلغت شهرة هذا الكاذب المبدع حداً لا يصدَّق، فقد حجزت الجمعية البريطانية للتقدم الطبي أكبر صالة في مدينة بريستول لكي يتحدث فيها دو روجمونت عن مشاهداته في أستراليا (A Stephens, 2015)، ولكن بعد وقت قصير بدأت تتوارد أسئلة عن مصداقية دو روجمونت، خصوصاً عندما ُسئل عن لغة الأبورجينيين فلم يتمكن من النطق بها، كما لم يتمكن من تحديد الأماكن التي جرت فيها مغامراته على الخارطة
لقد أصبحت شخصية دو روجمونت أسطورة أسترالية معروفة وُنشرت كتب ومقالات كثيرة عنه، وقال عنه الأديب والشاعر الأسترالي هنري لاوسن إنه أحدث ضجّة في ثلاثة أشهر لم يتمكن الأستراليون الآخرون من إحداثها في مئة سنة ( The La Trobe Journal, 1981, p. 96)
وعلى الرغم من كل ذلك يصف العديد من الناس دو روجمونت بأنه أكبر كاذب في العالم. وهذه الصفة استخدمها هو كشعار له أثناء زيارته إلى جنوب أفريقيا في أواخر حياته، كما تعرض لصيحات الاستهجان لدى زيارته إلى أستراليا عام 1901. (B.J. Andrews, Australian Dictionary of Biography, 1981)
هذه الشخصيات المتشابهة (المختار-الجدّ بو ديب- دو روجمونت) نرى الكثير منها في مجتمعاتنا، حيث يصبح الكاذب مثالاً رومنطيقياً ويتمكن من النفاذ إلى قلوب الآخرين عن طريق التحايل وانتحال الصفات والمواقف. وينقسم الكاذبون إلى مجموعات مختلفة، فهناك الكاذبون الذين لا يستفيدون من أكاذيبهم، فهؤلاء يكذبون لطَبع فيهم، والكاذبون الآخرون لكلّ منهم أهدافه السياسية والاجتماعية والثقافية والتجارية. ولكن المبالغات الكاذبة جميعها تنضوي تحت عنوان واحد هو جذب الانتباه وتحقيق الشهرة، فالناس الذين يكذبون ويتحدّثون عن ذواتهم يحاولون أن يحافظوا على صورة معّينة لأنفسهم، كما قد يسعون إلى تحقيق ذواتهم من خلال تقدير الآخرين لهم، وعندما يبالغ المرء في الرواية ولا يقدّم نفسه بطريقة أمينة وصادقة، فإنّه بمرور الزمن يسيء إلى نفسه ويمارس الغش عليها، كما يسيء إلى ثقته بنفسه (L. Firestone, 2013, p.1)
كما تصف الاختصاصية في قضايا الإدمان كايثلين أسبوزيتو الكاذب بأنه صاحب عاهة مسيطرة "Lying Compulsive Disorder"، وتقول: ليس جميع المصابين بهذه العاهة يعانون من مرض نفساني، ولكن سلوكهم في الغالب له تفسيرات متشابهة، فهناك مَن يكذبون من أجل الشهرة والشعبية، وهناك من يكذبون للسيطرة والاحتكار، والبعض يكذب للتعويض عن ضعف الثقة بالذات، وآخرون يكذبون لتغطية الفشل (K. Esposito, lovetoknow.com)
وربما تتناسب شخصيتا المختار وأبو ديب في عمليْ الرحابنة وشخصية لويس دو روجمونت مع هذه التفسيرات جميعاً، حيث يتداخل الذاتي بالعام، وتبدو نفسية الكاذب كثيرة التعقيد، وقد يمضي وقت طويل قبل أن يصل علم النفس إلى ضبطها نهائياً، والفصل بين حالاتها المتعددة التي تختلط اختلاطاً جسيمًا، وتشكّل في الكثير من الأحيان خطراً على المجتمعات، وقد تؤدي إلى حروب وويلات ومصائب عارمة
جميع الحقوق محفوظة لأدب مهجريّ راقٍ من أستراليا
المصادر
Andrews, B. G. (1981). Australian Dictionary of Biography. V 8
Esposito, Katheline. (Undated) Lying Compulsive Disorder. lovetoknow.com
Firestone, Lisa (2013). Why We Lie and how to Stop. www.psycology.com
The La Trobe Journal (28 Oct. 1981). Melbourne
Stephens, Andrew (5 June, 2015). Was He the Greatest Liar Australia has ever Known?. Sydney Morning Herald newspaper.
جميل الدويهي: للأدب المهجري الراقي موعد آخر
كتبت بعد المهرجان الأوّل في سيدني
18 تموز 2016
ليس أجمل عندي في عالم الشعر أن يذكرني أحد النقاد الكبار، أو أحد المتذوقين بالخير، وأمس كتب لي الناقد والأستاذ الأكاديمي الكبير د. عصام الحوراني من بيروت عن قصيدتي : تا طير فيكي
هذا في الحقيقة شعر... وكفى... أين نحن من هذا الشعر المتأنّق البديع المرصّع بالإيقاعات العذبة التي تتناسب والصور المتنوّعة الحيّة ليمتزج الكلّ في لغة دويهيّة، تطلّ علينا من جنّة إهدن العامرة، فتتلاحق القوافي بمرونة ما بعدها مرونة: "بمشي أنا والدرب عم تمشي... وفارش هَــوا تشرين عــــــا رِمْشي... نْسيتْ اللغه ومـا عرفتْ إكتب سَطر... تاري الحروف تْشرْدقو مــــن القَهر... وفكري طِلِع أزغَــــــر مـن الكَمشِه"... وهل هناك أروع من هذه الفنيّة المبدعة الخلاّقة التي تجعل الفكر أزغر من "كمشة"، فتتشردق الحروف على لسان الكنار فيصمت وتتكلّم لغة القلوب والعيون؟ رائع أنت أيهذا الشاعر الشاعر بحق وحقيقة، حماك الله وأدامك بلبلاً صدّاحًا في دوحة الأدب الحيّ
والحوراني يعرف أهل الوفاء وأهل الشعر معاً، ففي كل شهر أو أقلّ أتصل بالأساتذة الكبار في جامعة سيدة اللويزة، وأسلّم عليهم، وأسألهم عن حوالهم وأحوال الوطن الحبيب، حتى باتت بيننا مواعيد مضروبة ينتظرها الزملاء الكبار ويغتبطون بوفائي لهم الذي لا يشيخ مع الأيام. والحوراني شاعر أيضاً، أقرأ له بإعجاب كما يقرأ لي. وهو من وراء البحار يعوّضني عن كثير مما أفقده هنا من عدالة النقد، حيث أن هناك حملة منسّقة إعداداً إخراجاً هدفها التقليل من شأن مشروعي الثقافي "أفكار اغترابية" لأدب مهجري راق، وهو مشروع عملي ملموس، أبعد بكثير من الفولكلور والمظاهر التي لن يذكرها التاريخ. فالأديب يُذكر في كتاب وبما تركه من تراث إنساني وفكري يغني الثقافة والحضارة. فمَن يخبرني بشيء عن شكسبير سوى أعماله الرفيعة؟ وكم نعرف عن إرنست همنغواي وفرانز كافكا وألبير كامو وقبلهما راسين وموليير وبيار كورناي؟ وما هي أهمية القشور التي أحاطت بغوته في مقابل أهمية "فاوست" و"الديوان الشرقي للشاعر الغربي"؟ ومن منا يعرف ما اسم زوجة أمين الريحاني الأميركية، ولا يعرف "جيهان" التي جعلها عنواناً لثورة المرأة في عصر القمع والتحجر، أو لا يعرف "خالد" الخلود والفكر العميق؟ ومن يعرف عن جبران خليل جبران الذي شغل العالم أكثر مما يعرف عن كتاب "النبي"؟ ومن يعرف شيئاً عن فيكتور هيجو أكثر مما يعرف عن "البؤساء"؟
عبثاً نبحث عن أدب في غير الأدب. ولهذا قام مشروع "أفكار اغترابية" بإمكانات مادية قليلة جداً، ووسط حملة عاصفة تحيط به من كل جانب، معروفة أبعادها واهدافها ولماذا نشأت؟ ومن أنشأها؟ وكان الأجدى أن نبارك خطوة في الطريق الصحيح، كما يفعل الغربيون، إذ يقفون وراء مفكريهم أدبائهم وشعرائهم مترفعين عن المشاعر التي تهدم وتقوّض
إن مشروع "أفكار اغترابية" ليس مشروعاً إجرامياً، ولا هو لترويج المخدّرات، ولا لتدمير المجتمع. هو مشروع فرديّ في الأساس، بناه رجل يريد الخير للعالم، ويبحث عن إنسان جديد، ودين يجمع الشعوب... وفي المقابل ولست أفهم مقدار النفور من فكرة مضيئة، فالزمن يسير إلى الأمام، والأجدى أن نعطي الإنسان فرصة لكي يعمل، أما اليأس فممنوع على أحفاد النسور
إنه لأمر مثير للسخرية أن يحتج بعض الناس على تسميتي لمشروعي "أفكار اغترابية" بالأدب المهجري الراقي، وكأن أدبي غير راقٍ، أو كأن القمع والإرهاب الفكري والترويع وصلت إلى حد التدخل في الأسماء، والدخول إلى منزلي لإطلاق الأسماء على أولادي، وتحديد عناوين كتبي، فقط لأنّ هناك إنساناً يبكي في الماراتون ويريدنا أن نقف نحن السابقين والمعجّلين إلى خط النهاية لكي يفوز علينا. مسرحية هزلية تضحك الأموات
يقول الدكتور الأكاديمي من ساكرومنتو (كاليفورنيا)، كلوفيس كرم، عّما أفعله في الأدب المتنوّع في مجالات الرواية، والمقالة، والشعر بأنواعه السبعة، والدراسة الأكاديمية، والتاريخ، والفكر الإنساني، إنني "صاحب النهضة الأدبية الثانية". وهذا لا يشعرني بالكبرياء ولا بالفخر، فبعض الناس يغطّون عجزعم بالمظاهر البراقة وهذه ليست من سماتي. وكم أقرأ من رسائل تمعن في مدحي وإغداق الألقاب عليّ، فلا يغيّر ذلك مني شيئاً، لأن هدفي أكبر من الألقاب والتكريم... وهل يجوز بعد كل ما أصدرته من أعمال متنوعة في أقل من عامين ألا تُطلق عليّ الألقاب والأوصاف وتسميات كالإمارة والأسبقية والإبداع؟ بلى، قيل الكثير عني، ولكن هذا لا يزيدني ولا ينقصني ولا أتباهى به ولا أنشره كما يفعل السطحيون الذين يغطون فشلهم في اللحاق بالقافلة عن طريق التعمية والحيدية وتوجيه الأنظار نحوهم. وهذا الوصف الذي يطلقه الدكتور كلوفيس كرم يضعني أمام مسؤولية كبيرة، ويدفعني إلى الأمام في مسيرتي، غير عابئ بالصعاب، وإنني أتأسف على مقدار التعب الذي يعتري بعض الناس وهم يعتقدون أن تعبهم قد يمنع الحصاد، وليس في علمهم أن الفلاح يجاهد من أجل حصاده ويسهر عليه. وما إصداري لخمسة كتب في عام واحد إلا للدلالة على أن الإصرار يصنع المعجزات، ولإقناع من لا يقتنعون بأن المراكب تسير والعاصفة لا توقفها، وفي نظري أن كل ما يُبذل من عرق وسهر على المظاهر لن يجدي، فالمصابيح الملونة لا تصنع العيد، والخلاخيل التي تلمع لا تحلّ مكان الراقصة في المعبد، وتزوير الألقاب والرُّتب لا يجعل العييّ خطيباً، بل هو الفضيحة المجلجلة التي سيضحك منها التاريخ، ونحن سنكتب عنها في عام 2017
نعم أيها الأحبّة الذين يتابعون الأدب المهجري الراقي. قدرنا أن نمضي في طريقنا وسط الغبار والإعصار. ونحن لا نخاف من شيء أو من أحد لأننا مؤمنون بالله، ولأننا محبون حقاً، ومخلصون حقاً، ولا نبيع ونشتري، ولنا وجه واحد نظهره أمام الناس. وللإنسان سنكتب، وسننشر أعمالنا في كل مكان، في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، وأجهزة المخابرات التي نغّصت حياتنا في الماضي لن تلحق بنا إلى هنا، ولن تحتلّ صناديق البريد. والغرف السوداء التي كانت تحقّق مع الأبرياء لا وجود لها في أستراليا... ونعم يا أستاذة مريم شاهين رزق الله ويا أستاذ أنطوان الحربية، نحن على موعد في ملبورن، ثم في سيدني. ونعم يا أستاذة دينا سليم هنهان، اقرئي قصيدة "تا طير فيكي" على هواء الإذاعة في برزبن، وليعرف أهلها أن شاعراً من سيدني يغني لهم. يغني للحب والخير والفضيلة، ولن تعلو على صوته أصوات النشاز، ونعم أيها الأستاذ نبيل عودة من الأراضي المحتلة، قل لمحبي جميل الدويهي إنه كتب عن سميح القاسم، والطفل الدوابشة الذي أحرقوه، ونعم أيها الناقد الكبير الأستاذ سليمان يوسف ابراهيم، غداً ستصل إليك كتب أخرى، لتعرف أنّ في أستراليا أدباً راقياً ومشروعاً حضارياً يتخطى الحواجز ويدوس على جحافل الموت... ويا سيدني انتظري موعداً مضروباً مع مهرجاني الثاني للأدب الراقي، وقدري أن أقول مع الملك الضليل: "نحاول مُلكاً أو نموتَ فنُعذراً". والفرسان فقط هم الذين لا يلطمون وجوههم
جميل الدويهي: لماذا مهرجان الأدب الراقي؟
13 تشرين الأول 2015
يسألني كثيرون عن التسمية، فأجيب: هو التحوّل، الإضافة، المفترق الذي أريد، ومن أجله نذرت قلمي وأفكاري. أمّا سؤالي لنفسي فهو: ماذا يمنع أن يكون لي دور كبير، وعندي من التنوّع شعرياً، ونثرياً، روائياً، وفكريّاً وثقافياً ما يغنيني، وأنا لا ألعن الظلام ولا أؤمن بأنّ ما يزرعه الإنسان لا يحصده
وقد حرّضتني تجربتي في لبنان، لسنوات تسع، كنت أتالّم فيها من مقدار التجاهل، والسخرية في بعض الأحيان، حتى أنني عندما أطلقت كتابي "في معبد الروح" قال لي أديب لبناني من الصفّ الثاني أو الثالث، عبر الهاتف من بيروت: "هل سيكون عندنا نبيّ جديد في أستراليا؟" أزعجني السؤال لما فيه من سخرية، ثمّ استعدتُ ما كتبته عن هذا الكاتب: ثلاث مقالات عن كُتب حبّرها ولا تستحقّ أن يُكتب عنها. كتبتُ عنها من أجل الخير، أمّا هو فلم يكتب عنّي حرفاً، وكان جزائي على ما فعلت له من فضيلة، سؤالاً سخيفاً لا يشبه الأدب
رددتُ عليه بقوَّة، وقلت بالحرف: أعرفكم في لبنان. أما آن لكم أن تكفّوا عن الفكاهة؟
وبدا لي أنّه يقف موقفاً وسطاً بين الإعجاب من "في معبد الروح"، وبين ضرورة الاستخفاف التي اعتاد عليها
وعندما نشرتُ قصيدتي الأولى عن سعيد عقل في مئويته، في حمّى قصائد كثيرة قيلت في لبنان عن الشاعر العملاق، أثبتتْ قصيدة أستراليا أنّها الأهمّ، والأرقى، والأنقى في التعبير والصياغة. وانفعل شعراء وكتّاب، وأسبغوا عليها الثناء، ما عدا قلّة ممن امتعضوا، ولهم الحقّ في ذلك، فقصيدة جاءت من مكان بعيد، تقتحم المجهول، وتثبت نفسها في الميدان، بل تُظهر ما عند شعراء وشعراء من قلّة الشعريّة، وضعف الخيال، فإذا بقصائدهم تعلك نفسها وتقف جامدة في وجه الزمان. تقول كلاماً كثيراً عن سعيد عقل يشبه كلام النثر، أمّا الشعر فقليل. قصائد لا حركة فيها بل تحجّر لفظي، وتصنّع لا يرقى إلى ما يطلبه الشعر من الشاعر. وبقيت قصيدة أستراليا علامة فارقة حتّى الآن، ثمّ تلتها قصيدة أخرى يوم وفاة سعيد عقل، ماثلتْ سابقتها في القيمة، وأردتُها كذلك بإلحاح من المناسبة أوّلاً، وثانياً كي لا يقال إنّ الأولى كانت من نتاج الصُّدفة
نحن سفراء الكلمة الراقية، والفكر المبدع. ولماذا إذا نقول ذلك ترتعش القلوب وتنعقد الألسنة؟ وهل رآنا أحد نجري في سباق مع المادّة؟ وهل عرفنا أحد بأنّنا نجعل من شيء يفوق الحبر والفكر غنى؟ وهل نحن من الطارئين على الكلمة؟ فمن حقّنا إذن أن نأكل من عرق جبيننا، فللفلاّح أن يكون هو أوّل من يأكل من تعب ساعده
وفي مهرجان "الأدب المهجري الراقي" يوم 23 تشرين الأوّل، حجز أناس كثيرون مقاعدهم، وهناك أناس لم يحجزوا لأنهم يعرفون أنّ مكانهم عند الدويهي مضمون. هم يعيشون في قلبه. وما أجمل هذه الثقة أن يقول بعض الناس: لماذا أحجز مقعداً، والدويهي يعرف أنّني سأكون عنده مهما حدثَ من أمر؟ والأجمل الأجمل أنّ كثيرين من الشجعان يجيئون إلى أمسية الأدب الراقي، ومعهم المحبّة، وكلّ ما هو نقيّ... وكم هو رائع أن ألتقي بهم من بعد غياب. فعشرة أعوام من الفراق تمحوها كلمة طيّبة وقلوب تتعانق في حضرة الإبداع
نعم، أمسية للأدب المهجري الراقي، من ضمن مشروع متكامل للتأكيد مرّة أخرى على أنّ في أستراليا أدباً مبدعاً، يقوم على التنوّع بين الشعر والرواية والأدب الفلسفيّ والتاريخ... ولو كانت الظروف مهيّأة أكثر لكنت في صدد إطلاق كتاب خامس لأضمّه إلى الأربعة التي ستنشر في الأمسة. وهذا المشروع سيمضي إلى الامام بما تيسّر من موارد، قد تنضب أحياناً وقد تفيض أحياناً أخرى، وبحسب الفصول تجري القافلة، بغضّ النظر عن الفقاقيع التي لا معنى لها... أمّا تلك النظرة إلى أميركا وأوروبا على أنّهما مصدران للإبداع والجودة دون سواهما، فينبغي أن تتغيّر أو أن يغيّرها أحد، فأستراليا هي أيضاً واحة للعطاء، وهناك مَن يجاهدون من شعراء وكتّاب لكسر حاجز التجاهل. ولن يغمض لنا جفن قبل أن نوصل الرسالة، واليأس لن يصيبنا لأنّنا أبناء النور، واليأس يصيب فقط أبناء الظلام
لا يثبت في الميدان إلاّ الفارس
بقلم جميل الدويهي
11 شباط 2016
عندما قدّمتُ كتابي "وقلت أحبّك" لأحد الشعراء الكبار، قال لي كلاماً لا أحبُّ أن أذكره، في مجال المقارنة بين شاعر وآخر، وحدّثني عن أهمّيّة القصيدة التي تصنع شاعراً، ولكن ليس كلّ شاعر يصنع قصيدة
وليس صحيحاً تعريف قدامة بن جعفر للشعر، كما ليس صحيحاً أنّ كل من نظم 7 أبيات هو شاعر، ولو كانت 7 أبيات تكفي لكنّا اكتفينا وما أعطينا المزيد. الشعر هو رحلة طويلة ومعذّبة، ومن الصعب جداً أن يصير المرء شاعراً
إنّ كلّ يوم يمرّ علينا هو فرصة لتطويرنا ونتويرنا، والذي يقبع في زاوية الجمود ولا يريد أن يتطوّر، فنجمه إلى أفول، ولو ادّعى أنّه امرؤ القيس وفي رأسه عبقرية المتنبّي.
كثيرون يريدون أن يكونوا شعراء، باعتبار أن هوميروس شاعر، ودانته شاعر، وأحمد شوقي وسعيد عقل ونزار قباني شعراء... فلمَ لا نكون مثل هؤلاء ويتحدّث الناس عنّا؟ ما أجمل هذا الطموح والسعي والمحاولة، فمن العيب أن نقف حجر عثرة أمام إنسان ونحبطه، ونسخر من محاولته الأولى. ومن العيب أيضاً أن نعطي الفرصة لإنسان مدّة كاملة من العمر فلا يأتينا بشيء يُُحكى عنه
لقد تعمّد الشعراء الكبار إزعاجنا، وحاولوا أن يصعّبوا الأمور علينا، وأصيب كثيرون منّا بعُقد نفسية، فوضعنا أمام أعيننا كبريات الأعمال، وسألنا أنفسنا ونحن ننظر إلى القصيدة المضيئة: كيف نفعل مثل هذه وكيف نضيء؟ وكيف سنقنع البشر بأنّ قصيدة كتبناها أجمل من "اليتيمة"، وأحلى من "تعلّق قلبي طفلة عربية" وأنقى من أشعار الأخطل الصغير، وإيليا أبي ماضي، ومحمود درويش؟
من الطبيعي أن يعمل الإنسان على نفسه، وأن يسابق في الحياة ويُزاحم ليبقى في معركة الوجود، ولا تنفع كلّ الطقوس الشكليّة لترفيع الفاشل من صفّه، لو اجتمعت كل الأمم وساعدته ودفعت به إلى أعلى بالمناكب والرؤوس، لأنّ الكلمة الفصل ليست لهؤلاء التابعين والصحب، بل هي للتاريخ. والتاريخ لا يكذب
ولإثبات كلامي، فإنني أسأل: كم من الكتب موجودة في المكتبات؟ عشرات الملايين؟ ربّما مئات الملايين والبلايين أيضاً، وكتب قليلة تصيح بأنّ في داخلها شاعراً، وقصائد قليلة تتحدث عن الشاعر الشاعر
إن الذي لا يفهم هذه الحقيقة ولا يسمعها ويرفض أن يصدّقها هو العنيد الذي يضع رأسه في جبل من صخر، والصخر لا ينزاح، أما المتواضع، فهو الذي يرضخ للحقائق الماثلة أمامه، فليس من مرض لا يحتاج إلى دواء، وليس من قصُور في الجسم يتكبّر على العلاج، والحقيقة هي أن هناك شعراء للخلود وشعراء يموتون بموتهم
يجهد البعض من الناس للُّجوء إلى أساليب ملتوية لترويج أنفسهم، ويطلقون الأكاذيب، ويروون الأساطير عن أعجازهم، ويتخذون الأصحاب والحاشية وجمهوراً من الطبالين والزمارين يسيرون وراءهم، وكأنّ الأديب مثل السياسي، ينجح بمقدار ما يستقطب من الناس، ويفوز بمن يصوّتون له. للأسف، الشعر يختلف عن السياسة، فإيليا أبو ماضي عاش في أميركا حيث لا توجد جالية كبيرة، ولم يعد إلى لبنان سوى مرة واحدة أمضى فيها بضعة أيام قبل أن يعود إلى نيويورك، فلا أتباع ولا مؤيّدين ولا مناصرين حملوه على الأكتاف، وأثبت أنّه شاعر شاعر. وجبران خليل جبران لم يُذكر أنّه تكرّم بوسام أو صَينيّة، ولكنّه والخلود واحد. وهناك شعراء يأنفون من الصداقات والعلاقات العامّة لأنّ نفوسهم كبيرة، ويرفضون استغلال الآخرين وقولبتهم وتسييرهم على هواهم، ويخجلون من استجداء المناصب والألقاب، فالصداقة ليست عملية بيع وشراء ولا هي وسيلة لجني الأرباح. التكريم للشاعر يكون من خلال القصيدة التي يكتبها والقصّة التي يبتكرها، والفكر الذي يحمله، والكتاب الذي ينشره
ويستميت البعض لكي يحصلوا على لقب شاعر أو أديب، وبعضهم لا يعرف الفرق بين الفاعل والمفعول به، ولا يعرف أين يضع الفتحة على آخر الكلمة وأين يضع الضمّة، وعندما تقرأ لهؤلاء تصاب بالمرض، وهم يدركون أنّهم ضعفاء، ويقرأون لغيرهم من الشعراء الكبار، ويلمسون الفرق بين شاعر وشويعر وبين أديب ومعتدٍ على الأدب، ولكنّهم لعنادهم ورغبتهم القاتلة في التفوّق الاجتماعي والفكري، لا يقرّون بالهزيمة، بل يمضون في طريقهم بوقاحة غريبة، وكان الأجدى بهم وهم في حضرة الأدباء والمفكّرين أن يطأطئوا رؤوسهم خجلاً، ويختبئوا من فضيحة مجلجِلة، ويشجّعهم في ذلك أدباء ضعيفون يساعدونهم ويشدّون أزرهم ويحرّضونهم على "الإبداع"، طمعاً في مقالة يكتبونها عنهم أو كتاب يحبّرونه في مديح الظلّ العالي. وقد وصلنا إلى زمان لا نقابل فيه شخصاً إلا ونسأله متى سيصدر كتاباً، سواء كان يعرف الكتابة أم لا يعرفها، وكلّ ظنّه أنه أهمّ من غوته وأعظم من شكسبير
ولست أدري كيف لا يتهيّب المرء وهو يستعرض أمامه كتب العظماء والعباقرة، كما لست أدري كيف يقوم بعض الطارئين على الأدب ممّن يفتقرون إلى الثقافة بإطلاق الألقاب وتوزيع الأوسمة، وادّعاء الفهم بغطرسة وتشاوف، كأنْ يضعوا كاتباً لم يطبع كتاباً ذا قيمة في وزن صاحب الأجنحة المتكسّرة، والأرواح المتمرّدة، والنبي، وحديقة النبي، والسابق، والتائه، ويسوع ابن الإنسان، وعرائس المروج، والعواصف... جميع هذه الكتب لم يقرأها هذا الناقد العبقري، ولو قرأها لكان تردّد ألف مرّة قبل أن يجرؤ على إطلاق الأحكام العشوائية التي تعبّر عن جهل
شخصيّاً، لا أعترف بشاعر أو أديب لا يسكرُني، لا يسحرني، لا يطيّرني ولا يصيّرني إنساناً آخر. ولا يحفّزني على كتابة الأدب الجميل، ولكي أسكر وأعيش في السحر هاتوا لي رباعيات الخيام، والأطلال، ورسالة من تحت الماء، ولا تكذبي، ومقادير من جفنيكِ، ولا تسألوني ما اسمه حبيبي... وهاتوا لي مرداد ميخائيل نعيمة وفاوست غوته وأعمال راسين وموليير وطاغور... ولكي أحلّق بجناحي طائر، أسمعوني قصيدة "الطلاسم" لإيليا أبي ماضي، فأعيش بين الحلم واليقظة واللمحة الفلسفية، ولا تسمعوني صرير الجنادب وقصائد الخرف التي جاء بها بعض الناس ليفرضوها على أذواقنا، وبينها وبين الأدب ما بين إبليس والجنّة
كنّا ونحن صغار نقف في ملعب المدرسة ليلقي علينا شاعر زائر "كومة" من قصائد، وكنا نفرح بهذا الشاعر لأنه يأخذ من وقت الدروس، وكانت زياراته إلى المدرسة متقاربة، فكأنّ حضوره أجمل عيد. ولكن الحقيقة أن التلاميذ كانوا يتضاحكون من نوعية شعره، حيث لا فكر ولا عمق ولا أبعاد، بل تكرار مملّ لفكرة الوطن الذي هو أجمل البلدان والأرز الأخضر الذي ينطح الغيوم... وعندما كبرتُ، عرفت قيمة الرجل ومحاولته لإثبات نفسه، وأكبرتُ ما عنده من صدق المحاولة، لكنني لا أقول إنه كان شاعراً. وكم عدنا مثل هذا الرجل ممّن يحاولون ويحاولون، لكن المكتوب يُقرأ من عنوانه
العرب يقولون إنّ السيف تعطى لباريها، فلا يثبت في الميدان إلا من كان فارساً على فرس أصيلة، ولا يسقط إلا من ادّعى الفروسية، حتى إذا جاءت ساعة النزال وقع عن حماره القميء، ووقع السيف من يده. وإنّ الذين "يهيّصون" وراء مدّعي الفروسية لن يستطيعوا اللحاق بالحمار الذي فرّ إلى غير رجعة
بماذا تميّز مهرجان الأدب الراقي
بعد مهرجان الأدب الرقي الأول في سيدني
عندما أعلنـّا عن مهرجان الأدب الراقي، ظنّ العديد من الناس أنّه مهرجان يشبه مهرجانات بعلبك، أو مهرجانات الصيف في لبنان، أو أنّه على الأرجح مهرجان يشارك فيه عشرات الشعراء وترعاه دولة أو منظمة دولية. ولم يصدق أحد أن شاعراً واحداً هو الذي نظم المهرجان، ودعا إليه، ورتّب فعالياته. المهرجان كان مهرجاناً بالحقيقة لأنه شهد، لأول مرة، أن يطلق أديب وحده أربعة كتب دفعة واحدة. ليس هذا فحسب، بل إن الكتب تتنوع بين الرواية (طائر الهامة)، والتأريخ (أشهر المعارك الإهدنية في التاريخ)، والشعر (لا تفكري صار الهوى ذكرى)، والفكر الفلسفي (في معبد الروح)
وما هو الهدف من إطلاق هذه الكتب؟ ليس لغاية إلاّ للأدب المهجري الراقي، وهو مشروع أطلقناه بحكم الشغف، والحاجة إلى أدب عربي رفيع ينطلق من أستراليا إلى العالم العربي والعالم، في تنوّع من حيث المواضيع والأشكال واللغة أيضاً، والرغبة في كسر النظرة المتحجّرة عند العديد من أصحاب الرأي في لبنان إلى الإبداع في أستراليا، وهي نظرة متجنية ولا عدالة فيها
ومنذ اللحظة الأولى لنجاح المهرجان، كان مفترضاً به أن يدخل إلى العتمة، فصاحبه ممنوع أن يتكلم عنه، فمَن يتكلم عن عمله هو "مغرور ومتكبر ويتحدث عن نفسه"، وفي الوقت نفسه يُمنع أو يمتنع الآخرون من الحديث عنه، فالمفروض دائماً أن يُقتل الناجحون والمبدعون الحقيقيون في عمليات إرهابية تستهدف العقل، وأن تجري تصفية أولئك الذين يقدمون للناس أعمالاً جيدة
ونحن لسنا من حكواتيي الأساطير، ومعجزات أين منها معجزات السيد المسيح في قانا والجليل. ولسنا هواة ألقاب تطير من ضخامتها الرؤوس. وليس لنا الحق أصلاً أن نتحدث عن أنفسنا ولا أن نأخذ ألقاباً، هي ماركات مسجّلة... وليس مسموحاً أن نغطـّي خبراً عن أمسيتنا... ولكن بعد انتظار شهر، وسماع أربعة آراء فقط في المهرجان، تبين لنا ما هو مدى مساحة الحرية، وحقّ لنا أن نتحدث عن تميّز المهرجان الراقي... وليس في هذا أذية أو إساءة لأحد، ولن نضع شمعة تحت مكيال، ولن نرضخ إلا لشروطنا
سنتحدث عن مهرجان الأدب المهجري، وهذا لا يخالف قيمة التواضع. فنحن نقبل أن نتواضع للمتواضعين وأن ننسحق للمنسحقين، أما المغرور فطلبه مردود إليه، لأن القصد منه أن نبقى تحت جناحيه، ومَن تعودوا على ركوب الخيل لا تحتويهم أجنحة لا تطير
إن قول الحقيقة كما هي لا ينطوي على عجرفة، ولكن من لا يقول الحقيقة عن نفسه هو جبان
-تميز مهرجان الأدب المهجري برقيّه، وترتيبه، وفقراته الفنية والثقافية والشعرية الرائعة، والذين حضروا ما زالوا يخبرون إلى الآن عن الحدث، فإذا سارع أحد الحاضرين وتحدث من فرط سعادته ودهشته عما وصفه بأهم حدث ثقافي تشهده الجالية، فمن هذا المنطلق، ولأنه لم يرَ في حياته حدثاً مماثلاً. وهذا من حقه في التعبير ونحن في بلد حر وديمقراطي، ولسنا في نظام ظلامي إرهابي يكم أفواه الناس
-وتميز المهرجان بأنه أول حدث ثقافي في تاريخ البشرية يقدم فيه أديب واحد 4 كتب هدايا إلى الحاضرين، وهذه الكتب الأربعة ليست من نوع واحد، بل هي شعر (لا تفكري صار الهوى ذكرى) ورواية (طائر الهامة)، وكتاب فكر فلسفي (في معبد الروح) وكتاب تاريخ عن مدينة إهدن بالانكليزية
-وتميز المهرجان أيضاً بأن المطربين الثلاثة الذين شاركوا فيه: أنطوانيت الدويهي، طوني يونس وجان خليل غنوا من كلمات الدويهي بشغف وإبداع، وقال المطرب طوني يونس بعد أنهى قصيدة الدويهي: إذا عدت إلى الغناء فلن أغنّي سوى من كلمات الدويهي. وكان الفنّان المتألق ألكس حدشيتي يطرِب ويطرَب
-وتميز المهرجان أيضاً بنوعية الكلمات التي قيلت وهدفها إظهار الحقيقة. والحقائق التي قيلت عن تنوّع الدويهي بين الشعر والرواية والتاريخ والفلسفة لا تحتاج إلى دلائل، وقول الأستاذ أنطوان الحربيه: ستمضي مئة سنة قبل أن يكتب أحدهم كتاباً يضاهي "في معبد الروح" ليس قولاً معيباً، بل هو مدعاة للفخر، ومراجعة الذات ونقدها
-وتميز المهرجان أيضاً بأن صاحبه ألقى على مسامع الناس وأمام أعينهم خمسة أنواع شعر، وكان هناك عشرات الشهود الذين صفقوا للأنواع كلها واستمتعوا وطربوا. وكان الدويهي يشرح كلّ نوع وكيفية كتابته واختلاف لغته عن الآخر قبل القراءة. والأنواع الخمسة التي أنشد منها الدويهي هي على التوالي: الشعر الزجلي (صورة ضبابِه) - الشعر العمودي الفصيح (تفهّمي صمتي)- شعر التفعيلة الفصيح (قد لا تكون مريضة)- الشعر المدوّر العامي (بيتِك حلو)- وشعر التفعيلة العامّي (بحْلم ببلادي تتغيّر). ولم يلقِ الدويهي نوعين آخرين يتقنهما هما الشعر المنثور (حاولت أن أتبع النهر... النهر لا يذهب إلى مكان- يصدر قريباً)، والشعر المدور الفصيح الذي يتفرد به الدويهي أيضاً في أستراليا (وقلت أحبّك). وليس من شاعر في المغتربات وفي العالم العربي يجيد أو يكتب هذه الأنواع جميعاً
-وتميز المهرجان في أنه احتضن قصيدة ابتكرها الدويهي ولم تكن موجودة أصلاً في الشعر العربي في أستراليا وربما في الشعر العربي كله، وهي قصيدة المدوّر العامي: "بيتِك حلو" (المدور يُكتب كما النثر على سطر واحد وموزون على تفعيلة واحدة)، وقد كان للدويهي شرف إطلاقها من أستراليا بالذات للتأكيد على أن الأدب المهجري راق وفاعل
-وتميّز مهرجان الأدب المهجري الراقي بعدد الكتب التي حصل عليها الحاضرون، وقد تقاطروا في صف طويل حتى ساعة متأخرة ليوقع لهم الدويهي على الكتب، ولسنا نعتقد أن أحداً انتظر ساعة أو ساعتين للحصول على كتاب لكي لا يقرأه
-وتميز مهرجان الأدب الراقي للأديب والشاعر المهجري د. جميل الدويهي بفلسفة الكرم، فقد أعطى وأعطى حتّى أذهل الحاضرين، وكانت سعادة الناس هي الهدف، ورضاهم هو الغاية القصوى
-وتميز مهرجان الأدب المهجري الراقي بالصدى الذي ظل يتردد عنه في أوساط الجالية، ووصلت أخباره إلى لبنان، وظن الأصدقاء الذين نعرفهم هناك أنّ المهرجان أقامته وزارة أو جمعية أو رابطة أو مجموعة شعراء... ولم يصدق أحد أنه من إعداد وإخراج وتنفيذ شاعر واحد
- وتميّز مهرجان الأدب المهجري الراقي بتواضع صاحبه، فلا عجرفة، ولا تشاوف، ولا ادعاء ألقاب، ولا إخبار حكايات عن إنجازاته واكتشافاته المذهلة، أين منها حكايات السندباد وطائر الرخّ. وقد سمع صاحب المهرجان عبارات الثناء على تواضعه في أمسيته عشرات المرات، فقد اقتصر عمل الدويهي على الأدب الجليل الذي تفتخر به الجالية، وعندما صعد إلى المسرح لإلقاء شعره بدا وكأنه ضيف على الأمسية، ولم يتخلل الأمسية أي بادرة تكريم شكلية، فالتكريم الحقيقي هو مقدار ما يقدمه الأديب إلى الناس ونوعية أعماله وتقدير الناس له وثناؤهم على عمله (يعتبر الدويهي أن كتابه "في معبد الروح" هو أعظم هدية من الله إليه، وهو التكريم الذي لا يريد سواه). وقد ظهر تواضع الدويهي أيضاً عندما غطّى خبر الأمسية في الجرائد والمواقع الإلكترونية ببساطة ما بعدها بساطة، وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف بعضهم عن بث أسطوانة: "مغرور، ومتكبّر، ويتحدث عن نفسه"... وهي أسطوانة أصابها العفن، ولو كانت هذه الأسطوانة تبثّ عندما يتشاوف البعض ويعلن نفسه خليفة الله على الأرض، ويدّعي ألقاباً تثير الضحك، كنا رضينا. ولكن أن تُبثّ استنساباً وتحت عنوان: "الصدق ممنوع والكذب فضيلة"، فهذا أمر معيب، ولن يؤثـّر في مسيرتنا وإصرارنا على تقديم أدب مهجري راق من أستراليا إلى العالم، والله معنا والعذراء معنا، والصدق، والشرف، والوفاء، والإبداع، والرقي، ونظافة اللسان، والأخلاق والإنسانية كلها معنا... والأصدقاء جميعاً معنا، فلا نتزعزع
جميل الدويهي: أفكار اغترابيّة وأدب التهتك والخلاعة
منذ نشوء "أفكار اغترابية"، كان الرقي عنوانا عريضا لنهضة اغترابية ثانية، اردناها حقيقة، تقوم على اعمدة العطاء النوعي، بعيدا عن الاصطفافات العنصرية، والانجراف وراء الدعايات والاعلانات المضخمة
والرقي الذي اخترناه يعني الكلمة النقية المتجردة عن الاقذاع والتهتك. وفي اعتقادنا أن اللجوء الى الإثارة اللفظية وراءه عجز واضح عن ابتكار صورة شعرية نابضة بالحياة، وعدم قدرة على صناعة الكتابة الموحية من خلال الرمز . وللأسف فإن هناك من يندفعون وراء ادب زهيد ولا قيمة له سوى الحبر الذي كتب به، مأخوذين بضجيج إعلامي، والرغبة في الظهور الكتابي وبأي ثمن. بينما الادب الصحيح والنوعي غائب عن يوميات هؤلاء، وكانهم لا يسمعون به
وينطلق مؤسس "أفكار اغترابية" من ثقافة واسعة، واطلاع عميق على الأدب، والشعر خصوصا. ويعرف أن الشعراء في العصور القديمة قد لجأوا إلى الهجاء كغرض شعري قائم، إلى جانب الغزل والوصف والمديح والرثاء... ولكن الاقذاع الذي رأيناه عند المتنبي في قصيدته عن كافور الأخشيدي، وهجاء ابن الرومي لصاحب الرأس الطويل، لم يعد هذا زمانهما، فلماذا يلجأ شاعر اليوم إلى التقبيح وهو لا يهجو أحدا؟ ففي كل مناسبة ينزل علينا بسياط الشتم والانحدار اللفظي؟ اإلى هذا المستوى من التقصير عن الصورة الشعرية الراقية، وصل الأمر؟
إن الناس يصمتون أمام هذه الظواهر العجيبة التي يجتهد اصحابها في إطلاق الصفات الإيجابية عليها، كالتحديث، والثورة، والتمرد... ولكن نحن لا نرى فيها سوى انحطاط، وانعكاس لنفسية المتكلم، فالادب مرآة لصاحبه
وهذا الموقف الذي اتخذناه لن نغيّره. ولو لم يبق معنا احد، فالتخلي عن قناعاتنا يعني التخلي عن مشروعنا بالكامل، فالرقي في افكار اغترابية يساوي القيامة لادب صحيح. ولا مجال للمساومة في هذا الموضوع. وهذا التوجه لا يتناول جميع الناس بالتأكيد، بل هو دعوة صادقة لإعادة النظر بأكوام المديح الفارغ، وتبييض الوجوه، واستجداء السلطات العليا، من أجل الظهور على ساحة النقد
والصحيح الصحيح ان هذا التقريظ ليس نقدا، لان النقد الذي لا ينطلق من علم، او من معرفة بأصول الشعر والنثر، هو نقد مشكوك به، وقائم على علاقات شخصية وليس على تقييم علمي، ما يسيء ا لى أي حركة أدبية فاعله. فما معنى أن يكتب نقداً أدبياً رائد فضاء، او مهندس بحريّ او طبيب بيطريّ؟ وهل يحق للادباء ان يتدخّلوا في شؤون هؤلاء ومهنتهم كما هم يتدخلون؟
بالأمس القريب، وصلتني قصيدة لشاعر اغترابي، ضعيفة وركيكة، واعتقدت انها لتلميذ في الصفوف المتوسطة، وعندما عرفت متأخرا باسم شاعرها، دهشت لمقدار المديح الذي حصل عليه، وكأن الذين يمدحون لا يعلمون شيئا عما يتحدثون عنه. فمن العيب فعلا ان توضع قصائد او نصوص هزيلة في مستوى عال، وكان الاجدى ان تكون المقارنة معيارا وفيصلا في الحكم، وأن يقوم الناقد بتوجيه النصيحة إلى صاحب العمل، ولفت نظره إلى أنّ ما يكتبه ليس شعرا ولا إبداعا، بل هو نظم ضعيف ولا يرقى إلى درجة الشعر
للأسف، إن من يكتبون نقدا من هذا النوع، لا علاقة لهم بالنقد. هم طارئون نبتوا على الهامش لاداء وظيفة
عندما نعود إلى أعمال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني و إيليا أبي ماضي، ونتمعن بها، ندرك إلى أي مدى كانت الاناقة والشفافية والترفع عن الدناءة، سمات جوهرية للنهوض بأدب مهجري. وهذه السمات نفسها يجب أن تكون عناوين لأي نهضة اغترابية ثانية. وبينما نحن نواجه أعتى الحملات، واقسى ظروف التغييب والإقصاء والتمييز العنصري، نرفع لواء الأدب بكلّ فروعه، ونمضي في رحلة يتوجها الألم والأمل، حتى نثبت حقيقة الفعل. وعندما يحين زمان النقد الصحيح، سنظل نسمع طبلا وزمرا، وسنظل نقول: هذه كتبنا وهذه طاولتنا، فلنر ماذا عندكم
لو حذفنا نرجسيّة امرئ القيس والمتنبّي وجبران والسيّاب ونزار وسعيد عقل… ماذا يبقى؟
ليس دفاعاً عن النرجسية بمعناها المجرّد، بل تصحيحاً لمفهوم ركِب في رؤوس البعض بطريقة خاطئة، وربما مقصودة، لكي يشوّهوا إبداعات الكبار ويصوروهم على أنّهم من المدّعين أو المتشاوفين. وقد ألِفنا في الواقع العربي هذه الجوقة من قاطعي الخشخاش الطويل، الذين لا ينامون الليالي، وهم يفكرون كيف يحبطون المبدع، ويصوّرونه مارقاً، ومخالفاً للأعراف الاجتماعية. وبلغ من تحقير النرجسية حداً لا يطاق، إلى درجة ظلم “نرسيوس” نفسه، وهو المظلوم، فشاع أنه أغرم بصورته في الماء. وهذا حديث غير صحيح، بل الهدف منه إظهار أن نرسيوس كان جانياً، وهو المجني عليه والمضطهَد والضحية على يد الآلهة. وفي رأيي أنّ نرسيوس هو رمز لكل مبدع وجميل وراق وعبقري، ينظُر إليه البشعون فيخافون من جماله ويقذعون في حقه. والقصة الحقيقية أن نرسيوس (في الأسطورة اليونانية) كان فاتن الجمال، وأغرِمت به العذارى، ومنهنّ العذراء “إيكو” التي لم يبادلها الحبّ. فحكمت عليه ربّة العقاب والحساب، نمسيس، بأن يتعذّب كما تعذبت عشيقاته، وذلك بأن يفتتن بجمال صورته في الماء، فذاب جسده تدريجيًا لهفة وشوقًا إلى صورته
والنرجسيّة في الأدب هي محور مهم وأساسيّ، إيجابيّ، إبداعيّ، خَلقيّ من الطراز الرفيع. ولو أحصينا الشعراء والأدباء النرجسيين منذ فجر التاريخ، لوقعنا على المئات… واختصاراً، سنأخذ أمثلة من العصور الأدبية، لنثبت حقيقة أن النرجسية عنصر مُطيّب وطيّب، ولولاها لفقدنا كثيراً من جمال الأدب. ولأنّ الأدب في بلاد العرب بدأ شعراً، فقد ظهرت النرجسية في نوعين من الشعر القديم على الأقل، هما الفخر وشعر الحب والغزل. وقد كتبت إيمان محمد العبيدي، دراسة نقدية بعنوان “نرجسية الشعراء الجاهليين”، في مجلة Journal of College of Education الصادرة في العراق ( مجلد 1- العدد 19 ، 2015)
وكان جد الشعراء و”قائدهم إلى النار”، امرؤ القيس، رائد النرجسية في عصر ما قبل الإسلام، فهو المحبوب الذي تعشقه النساء. وقد ذكَر في معلقته الشهيرة عدّة نساء أحببنَه، منهنّ ابنة عمه فاطمة (عنيزة). يقول د. صادق السامرائي: إنه (امرأ القيس) يرغب بوصف نفسه بما ليس فيها ويطرب للمديح ويعشقه عشقاً مريضاً حد الموت… فيتحول إلى فرد فاقد الشعور بالقيمة، ويريد من الآخرين أن يسقوه كؤوس الإطراء والمديح، لكي تتأكد فرديته وتتحقّق نرجسيته وقوته
ومن أشهر أبيات أمرئ القيس النرجسية، من قصيدة “تعلّق قلبي طفلة عربيةفقالت لأتراب لها: قـد رمـــيـــتــُـه
فـكـيــف له إن عاش أم كــيـف يـخـتـبـَـل؟
أيــخــفــي لـــنـــا إن كـان بـالــلــيــل دفـــنـه؟
فـقــلــتُ: وهـل يــخــفـى الـــهـــلال اذا أفل؟
هل هناك نرجسية أكثر من أن يقول الشاعر عن نفسه إنه الهلال إذا أفل؟
وكان الشاعر عنترة العبسيّ نرجسياً أيضاً، فكان يصور شجاعة الفرسان الأعداء، لكي يؤكد على شجاعته هو من خلال انتصاره عليهم (الطريقة العنترية). وهذه النظرة الاستعلائية إلى الخصم، والشعور الدائم بالانتصار، يعكسان من غير شك ذاته التي تعلو على الآخرين، وتفوّقه في القتال
وإذا انتقلنا إلى العصر الأموي، نجد عمر بن أبي ربيعة، شيخ النرجسيّين، فهو يصف نفسه على لسان المرأة بأنه القمر: “وهل يخفى القمر؟”، وهي العبارة التي ضرب بها المثل حتى يومنا هذا. ومبتكرها ليس عمر، بل هو امرؤ القيس في قصيدته “تعلق قلبي طفلة عربية” التي يقول فيها عن نفسه: وهل يخفى الهلال إذا أفل؟ ويُعرف عن عمر بن أبي ربيعة أنه استوحى كثيراً من امرئ القيس، وأخذ من معانيه، خصوصاً من المعلقة
وفي العصر العباسي، نقع على اثنين من عظماء النرجسيين: أبي الطيب المتنبي، وأبي نواس. وقد يكون في ذلك العصر الأكثر غنى في العصور الشعرية القديمة كثير من الشعراء النرجسيين الآخرين، لا يمكن الحديث عنهم جميعاً لضيق المجال… ولكن مَن يشكّ في نرجسية المتنبي، وهو الذي تعرفه الخيل والليل، والذي نظر الأعمى إلى أدبه، والقائل عنه نفسه: أنا الثريا. أَنا تِربُ النَدى وَرَبُّ القَوافي وَسِمامُ العِدا وَغَيظُ الحَسودِ؟
وقد كتب حازم حسين الأعرج كتاباً بعنوان “نرجسية المتنبي – ترب الندى وربّ القوافي”، صدر عام 2020
أما عن أبي نواس، فقد قارن عباس محمود العقاد بينه وبين أوسكار وايلد، الذي قال عنه إنه كبير الشبه بأبى نواس في لوازم النرجسية، وهما مختلفان بعدَها في كل شىء: في الزمن والموطن واللغة والدين والطبقة الاجتماعية، ولكنّهما على هذا يتماثلان في كل لازمة من لوازم النرجسية، وقد يختلفان فيكون اختلافهما أدلّ على وحدة المزاج
وفي عصر النهضة والعصر الحديث، لا يمكن لجبران خليل جبران الإفلات من نِعمة “النرجسية”. وقد استخدمتُ عبارة “نعمة” لأعارض بجرأة، بعض الذين يحيّدون الأنظار عن الواقع، ليشنّوا حملة على كل شاعر مجيد، فيخلطون بين النرجسية الإيجابية، ونرجسية السياسي الأناني الذي يعتبر نفسه أهم من البشر، فيحقرهم ويذلهم ويجوعهم. لا. الشاعر ليس كذلك. ولا تجوز المقارنة. وجبران لم يأكل خبز أحد، ولم يغتن على ظهور الناس، بل عاش فقيراً، له وحْدته، وعزلته، وآراؤه، وديانته، وعبادته، وله اعتقاده بأنه عاش عدة مرات. وفي النصّ الأوَّل من كتاب “المجنون” وعنوانه: “كيف أصبحت مجنوناً؟” يخبر جبران أنَّه أفاق من نوم طويل فوجد أنَّ أقنعته السبعة التي تقنَّع بها في حيواته السابقة قد سُرقت، فأخذ يركض في الشوارع ويصيح: اللصوص الملاعين سرقوا أقنعتي، فأخذ الناس يهربون منه. وكان هناك شابٌّ واقفاً على سطح منزله فأصبح يقول: أنظروا أيّها الناس، إنَّ هذا الرجل (جبران) مجنون، فنظر جبران إلى الشابّ فرأى الشمس، ولم يعد في حاجة إلى أقنعته
إنَّ شرح هذا النصّ الرمزيّ القصير يؤكِّد رؤية جبران للحياة سبع مرَّات وصولاً إلى الشمس أي الله. وقد أخبر جبران ماري هاسكل عام 1911 أنَّه وُلد عدّة مرّات في سورية، وفي إيطاليا، واليونان، ومصر، والعراق والهند وإيران. كما أخبرها أنَّه أنجز واحدة من لوحاته وكتب قصيدة مشهورة وهو طفل صغير، بمعنى أنَّه كان يتقن الرسم والشعر من حيوات سابقة
وكان جبران يصوّر نفسه في بعض نصوصه مصلوباً كالمسيح. وفي “حديقة النبي” يقول عدة مرات : “الحق أقول لكم”، وهي العبارة التي عُرفت على لسان السيد المسيح
وكان بدر شاكر السياب، يتشبه بالمسيح، ففي “مرثية الإلهة” يقول
دمي هذه الخمر
التي تشربونها
ولحمي هو الخبز الذي نال جائع
وفي قصيدة جيكور والمدينة
وفي كلّ مقهى وسجن ومبغى ودار
دمي ذلك الماء، هل تشربونه؟
ولحمي هو الخبز، لو تأكلونه
وكتبت الباحثة علياء سعدي عبد الرسول مقالة بعنوان “نرجسيّة السيّاب” في مجلّة كلية التربية بجامعة المستنصرية (2020)
ولقد أخذ الشعراء التموزيون: أدونيس، يوسف الخال، بدر شاكر السيّاب، خليل حاوي وجبرا ابراهيم جبرا، صفة تموز، أي أدونيس، وهو إله عند الفينيقيين. وكان فؤاد سليمان يوقع مقالاته في جريدة النهار، باسم مستعار “تموز”، كما أن جميع الناس يعرفون الشاعر أدونيس، واسمه الحقيقي أحمد علي سعيد. ويتَّهم الدكتور أحمد محمد كنعان أدونيس بأنه “اتخذ لنفسه اسماً رمزياً هو “أدونيس” وهو اسم أحد الآلهة عند الإغريق الوثنيين، وكأنه باتخاذ هذا الاسم يعتقد في نفسه الوصول إلى مصاف الآلهة! وفي هذا ما فيه من نرجسية فاقعة لا أعتقد أن أحداً قد سبقه إليها في القديم ولا في الحديث
وعندما ظهرت المدرسة الرومنطيقية في لبنان ومصر والعراق وتونس… في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اتخذ الرومنطيقيون العرب “الأنا” أساساً مهمّاً من أسس القصيدة، فقد شكلت النفس البشرية وما يضج فيها من عواطف ومشاعر محوراً مهماً للأدب الرومنطقي. ولا يمكن فصل الرومنطيقية عن النرجسية بأي حال من الأحوال
ونصل إلى نزار قباني، شيخ النرجسيين الذي كان يجاهر بأنه نرجسي. فلنزار قصيدة” اعترافات رجل نرجسي”، وقصيدة أخرى بعنوان “نرجسية” يقول فيها
هل ممكنٌ
أيتها الساذجة، السطحية، الحمقاءْ
هل ممكنٌ أن تجهلي
أنّي الذي أسس جمهورية النساء؟
ووضع الدكتور خريستو نجم كتاباً بعنوان “نرجسية نزار قباني” (1983)، صدر عن دار الرائد
أما سعيد عقل، فقد بلغ في نرجسيته حداً قد يفوق ما بلغه نزار. تقول أستاذتنا الدكتورة هند أديب: سعيد عقل على غرار معظم الشعراء كان شديد النرجسية، أعطى لحضوره الذاتي موقعًا مركزيًا في مجمل أعماله. تساميًا، نقطة التقاء أطراف الكون، نقطة انطلاق الأشياء وولادتها
نلاحظ أن الدكتورة أديب سحبت صفة النرجسية على “أغلب الشعراء”، وهذا الحكم صحيح، وواقعي، وثوريّ… فكلّما اقترب الأدب من النرجسية أصبح أكثر نبضاً بالعاطفة والذاتيّة، بل أكثر قبولاً من الناس
يقول سعيد عقل : “كتبت أشعاراً، عندما اسمعها أطرب لها ويقف شعر رأسي إعجاباً وفرحاً بها، إلى حدّ أن أتساءل: هل صحيح أنني كتبت شعراً بهذا الجمال؟!” ويضيف أنّ شعره أعمق من شعر المتنبي: “لا تتصور أنّ المتنبي لديه شعر مقدس ومكرّم ومعظّم مثل شعر سعيد عقل”
ويفتخر بأنه كتب شعراً غير مكتوب في ثلاث لغات تمتلك أجمل شعر في العالم وأعظمه (أثينا وروما وفرنسا)، وأنتجتْ شعراً هو الأجمل في العالم. لكنهم لا يعادلون شيئاً قياساً بشعري
إنّها نرجسية المبدع الكبير سعيد عقل. ما أجملها وأجمله قامة
بعد هذه الجردة الموثّقة بالأدلّة والبراهين، يتأكّد لنا أن كبار الشعراء العرب كانوا نرجسيين، وهذه النرجسية هي الخمرة المعتقة التي ارتفعت بشعرهم وأدبهم، فمن التجني والوقاحة أن تكون النرجسية تُهمة، وهي فضيلة واستثناء يسموان بالشاعر إلى فوق. كما من العيب استخدام صفة نرجسيّة كأنّها صفة إهانة. وإذا كان هناك من يريدون من المبدع أن يصمت لكي يخلو الزمان للثرثرة، فنتركهم مع كلام مختصر ومفيد قاله العلاّمة هاني فحص (النرجسية المقلوبة، جريدة الحياة، ٢٥ – ٧ – ٢٠٠٧)
اذا لم يكن الفنان نرجسياً فمن أين يأتي الفن؟ مشكلتنا مع نرجسية الكسالى والأغبياء والفارغين… الذين لا يرون في ماء النهر شيئاً ولا ماء… فينظرون ولا يرون… مشكلتنا مع النرجسيّة، التي ليس فيها رائحة النرجس ولا لونه، لا مع نرجسيّة الفنانين
يميز العلامة فحص هنا بين الفنّان النرجسي المبدع، ومَن ينتقدون العظماء، وليس فيهم ولا في نقدهم رائحة النرجس، ولا رائحة الحقيقة
يرفض هؤلاء فكرة النرجسيّة ويحاولون تهشيم أصحابها، لمنعهم من إظهار تجلّياتهم، لكنّ دراسة حديثة أجرتها الباحثة يي زو في جامعة ولاية فلوريدا أظهرت ان النرجسية فضيلة في الفن، وركزت على الرسّامين بالتحديد من أمثال بيكاسو الذي نُقل عنه قوله في أحد الأيام: “الإله فنان مثلي، وأنا الإله، أنا الإله، أنا الإله” كما نُقل عنه قوله لاحدى حبيباته التي ارادت التخلي عنه: لا أحد يتخلي عن رجل مثلي”
***
(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني 2021
جميل الدويهي عن السرقات في الأدب
اتركوا الأدباء يرتاحون
عندما أخذ المتنبّي من الهيثم بن الأسود النخعي الكوفي المعروف بابن العربان، بيته المغمور
أنا ابن الفلا والطعن والضرب والسَّرى
وجُرْد المذاكي والقَنا والقواضبِ
كان يشفع لأبي الطيّب أنّه شاعر، وأراد أن يحاكي بيتاً لمن سبقه… كذلك عندما أخذ عمر بن أبي ربيعة قول امرئ القيس: وهل يخفى الهلال إذا أطلّْ؟ وجعله “وهل يخفى القمر؟” يشفع له أيضاً أنه شاعر، وكان مُغرماً بطريقة جدّ الشعراء امرئ القيس. فما هي شفاعة من هم غير شعراء وغير أدباء ليصادروا أعمال غيرهم وينسبوها إلى مقاماتهم، أو ينشروها على صفحاتهم؟
وقعتْ تحت يدي أعمال احتيالية قام بها “شعراء”، نسخوا حرفيّاً قصائد من شاعر آخر، وغيّروا فيها كلمة أو كلمتين، ونسبوها لأنفسهم، ونشروها في كتب… وخدعوا وسائل إعلام، وكذبوا عليها… وهي وقاحة ما بعدها وقاحة، ولصوصيّة، وسرقة جرميّة، خصوصاً إذا كان الشاعر الأصيل، صاحب القصيدة، ميتاً
وعلى الرغم من أنّ قوانين الدول سمحت باستخدام التراث، بعد مضي مئة سنة من موت صاحبه، فإن من العيب أن ينسب شاعر قصيدة أبي تمّام “فتح عمورية”، أو قصيدةالبحتري في وصف بركة المتوكّل لنفسه، فيغيّر بعض الكلمات فيها ويتباهى بأنّها له، وينشرها في كتاب أو في صحيفة، أو يتبجح بقراءتها في إذاعة. ووصلت قلة الأمانة إلى حد أن يقوم البعض بشراء نصوص أدبية من أجل الشهرة واللحاق بالركب، في ظاهرة غير مسبوقة، وأقلّ ما يقال فيها إنّها تدلّ على انحطاط
في رسالتي للماجستير (1985-1988)، انتقدتُ الأديب الكبير صلاح لبكي لأنه أخذ من طاغور أقصوصة “طليق وسجين” ونسبها لنفسه في كتابه “من أعماق الجبل”… فهذا أمر لا يستطيع الدارس التغاضي عنه. أمّا اليوم، فقد هيّأت وسائل التواصل لكل من حَبا ودَبا أن يأخذ ما يشاء، فشاعت سرقة النصوص، خصوصاً تلك غير الموقّعة باسم صاحبها، حيث يدخل أي امرئ إلى صفحة، و”يلطش” ما يعجبه، وينشر على صفحته، فيبدو للعيان أنه هو الكاتب الأصلي، و”نضيع بين حانا ومانا. وتضيع لحانا”… ناهيك عن مبتدئين، لم يمض على دخولهم عالم الأدب سوى بضعة أشهر، فإذا بهم يكتبون القصيدة العموديّة أفضل منّي، وقد أمضيت خمسين سنة من عمري ولم أتعلّمها بعد. فمَن يكتب لهم؟ وكيف وصلوا إلى القِمم وهم لم يبدأوا؟
إنّني أثني على السلطات اللبنانية والمصرية، لأنها كانت سباقة في مطاردة مَن ينتحلون صفات أكاديمية، وأطالب بأن تكون هناك هيئة تابعة لوزارة الثقافة، تتلقّى شكاوى الناس الذين سُرقت حقوقهم، وتترصّد من يسطون على النصوص، وتعاقبهم، وتشهّر بهم علناً ليكونوا عبرة لمن يعتبر. فسرقة النص والفكرة أكثر بشاعة من سرقة السيارات وأثاث المنازل، وتزوير العملة… وقد صار عندنا من هؤلاء السارقين مَن يملأون سجن رومية، وتضيق بهم المعسكرات
***
(*) مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني
د. جميل الدويهي
أبو الطيّب المتنبّي وأعداؤه الكثيرون
علامات استفهام على بعض قصائده واحترام لشعريّته ودوره
في كل عصر أدبي شاعر كبير، يطبع الحركة الأدبية بطابعه الخاص، والمتنبي كان في زمنه عموداً من أعمدة الشعر الثلاثة: أبو تمام، المتنبي والبحتري. أبو تمام والمتنبي حكيمان، والشاعر هو البحتري - كما يقول أبو العلاء المعري. وهذا لا يعني أن المعري يقلل من قيمة المتنبي، فقد خصّه بكتاب هو "معجز أحمد" تقديراً له وطاقته الإبداعية وثروته الشعرية الهائلة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، ليس في العصر العباسي فقط إنما في كل العصور.
وللمتنبي منتقدون وأعداء ما زالوا إلى اليوم يكيلون له عبارات الهزء والسخرية والاتهامات القاسية التي تصل إلى حد المطالبة بإعدامه. وعذر هؤلاء أنّهم ركّزوا على حياة المتنبّي الشخصيّة وحبّه للمال والجاه، وبخله الذي قيل عنه الكثير، وتقلّبه النفسي من جهة إلى جهة بسرعة قياسيّة، فقد مدح كافورأً ثمّ هجاه، وكان مدحه وهجاؤه مرتكزين على المال ولا شيء غيره، كما مدح أناساً لا يستحقون المديح، وأقام في بلاطات وغادرها على حين غرة تحت عنوان واحد هو المال، وقد أنصفه محبّوه بأن قالوا إنّ محرِّكه في الهجاء والمديح هو "الطموح".
وارتكب المتنبي كثيراً من الجنايات التي يرى البعض أنه يستحقّ المحاكمة عليها، لو أنه عاش في عصرنا الحاضر، فقد نعت كافوراً بالعبد في قوله:
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد.
وفي هذا الإطار يظهر رأي للشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل الذي يعتقد أن من العيب على العرب اعتبار المتنبي "الذليل والمتملق والمتسلق" شاعر العربية، فإن شاعراً ذليلاً وسعيداً بمذلته لا يمكنه أن ينتج شعرا إنسانياً. فيما ينصف المتنبي شعراء ونقّاد آخرون، ويهرعون إلى الدفاع عنه واستنكار الحكم الصادر عليه بأنه يحقر السود وينعتهم بالعبيد، فيقولون: لا يمكن الحكم على الشاعر من خلال القوانين السائدة في عصرنا. كما لا يجوز بحسب هؤلاء الخلط بين حياة الشاعر الشخصية وشعره. ونحن مع القائلين بأنه لا تجوز محاكمة الشاعر القديم بحسب القوانين العصريّة، فلا ينبغي مثلاً أن يكون الفرزدق اشتراكياً لكي يُسمح بتدريسه في بلد إشتراكي، ولا ينبغي اتهام عنترة بأنه مجرم لأنه كان يقاتل بحسب أعراف القبيلة وتقاليدها. ولكننا لسنا مع القول بأن الحياة الشخصية والأدب ينفصلان، فكم من الشعراء لولا حياتهم الشخصية لما كانوا قالوا شعراً، كامرئ القيس وعلاقاته مع النساء التي انعكست في شعره، بل هي جميل شعره، وأبي نواس وعلاقته الشخصية بالخمرة التي كانت هي شعره، وفي عصرنا الحاضر تميل بعض المدارس النقدية إلى الفصل بين الشعر والحياة، وهذا أمر مستغرب، فكيف يمكن فهم نصوص لجبران إذا لم نعرف تأثّره بالتقمص والحلولية وعدم التفريق بين الخير والشر؟ وكيف يمكن فهم قصيدة "الغراب" لإدغار ألن بو إذا كنا لا نعرف أن الشاعر كان في طفولته يعاقب بأن يؤخذ إلى المقبرة حيث يطلب منه أن ينقل ما هو مكتوب على شواهد القبور، فانطبعت صورة الغراب الجاثم على القبر في عقله الباطن، كما أن عبارة : Never More التي تتكرر باستمرار في القصيدة كإيقاع الجرس ما هي إلا العبارة التي كان يقولها الطفل المعاقب تعبيراً عن توبته وعودته عن الضلال؟
إذن لا مفرّ من التماهي بين حياة المتنبي وشعره، وقد انعكس الارتباط بين الجانبين في قصائده. ولم يكن طه حسين مخطئاً في هذه الناحية عندما وضع كتابه "مع المتنبي"، فقد ربط طه حسين بين سلوك المتنبي الشخصي وإبداعه الشعري، وتضمن الكتاب انتقادات جمة للمتنبّي وشعره عزاها بعض اللاحقين إلى عداوة مستحكمة بين الرجلين، وظهر في العراق كتاب بعنوان "أسرار العداوة بين طه حسين والمتنبي" بقلم الباحث عبد الواحد العطار. وفي اعتقادنا المتواضع أن العطار يأخذ القضية إلى غير محلها، فطه حسين باحث أكاديمي يقول ما يمليه عليه العلم وليس العاطفة، وهو يفضل أبا تمام على المتنبي، وقد يكون أخطأ أو أصاب ككل باحث، لكنه لا يُتّهم بأنه يكن العداوة للمتنبّي.
نعود إلى العصر العباسي، حيث أن المتنبي كانت له عداوات كثيرة، كيف لا وهو الهجّاء المقذع الذي لم يسلم منه إلا القلائل؟ وتعتبر حلب من أهمّ المحطات في سيرة المتنبي، فقد كان ابن عم سيف الدولة، أبو فراس الحمداني، شاعراً مجيداً في بلاط ابن عمه، بيد أن المتنبي الطامح في إمارة، يزاحم الأمير الحلبي على مساحة ضيقة في بلاط سيف الدولة، وقد وجه سهام شعره إلى أبي فراس من غير أن يسميه:
إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألم...
فالمتنبي يعتبر أنّ أبا فراس حاسد، بينما الحقيقة أنّ أبا فراس راعه أن يأتي رجل غريب إلى إمارته وينافسه عليها، وراع المتنبي أن يجد في بلاط سيف الدولة مَن يزعجه ويجاريه في شعريته، ويعطّل عليه مسعاه في الجاه والثروة. فالحسد لم يكن مقتصراً على أبي فراس بل كان يشعر به المتنبي أيضاً. ويروي أبن رشيق أن أبا فراس اعترض المتنبي عدة مرات واستوقفه بينما كان الأخير يلقي قصيدته التي مطلعها: "واحرَّ قلباه ممَّن قلبه شبم ومَن بجسمي وحالي عنده سقمُ"، فأبرز الشاعر الحمداني العالِم كثيراً من مساوئ القصيدة وما أخذه المتنبي عن غيره من الشعراء، فبدا أبو فراس دارساً خطيراً للشعر وعارفاً بما "سرقه المتنبي" وجاء به كإبداع جديد. واختصاراً للوقت والمساحة سنكتفي بإثبات أبيات المتنبي والأبيات التي فاجأه بها أبو فراس ليدلّ على أنَّه ناقل وسارق من شعر السابقين:
المتنبي يقول:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم و الحكم
دعبل الخزاعي قال:
ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت عينِي دموعا و أنت الخصم والحكم
المتنبي يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي و أسمعت كلماتي من به صمم...
عمرو بن عروة بن العبد قال:
حتى فتحت بإعجاز خصصت به للعُمي و الصُّمِّ أبصاراً و أسماعا
المتنبي يقول:
الخيل و الليل و البيداء تعرفني و السيف و الرمح و القرطاس و القلم
ابن العريان قال:
أنا ابن الفلا والطعن و الضرب و السرى وجرْد المذاكي و القَنا و القواضب
المتنبي يقول:
وما انتفاع اخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار و الظلَم؟
معقل العجلي قال:
إذا لم أميِّز بين نور وظلمة عينيَّ فالعينان زور و باطل
وابن مرّة المكّي قال في المعنى ذاته:
إذا المرء لم يدرك بعينيه ما يرى فما الفرق بين العمي و البصراء؟
المتنبي يقول:
إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمُ ألم؟
بشار بن برد قال:
إذا رضيتم بأن نجفى وسرّكم قول الوشاةِ فلا شكوى ولا ضرر...
ومن الغريب والمدهش فعلاً أن يستطيع أبو فراس تفنيد أبيات المتنبي وهو يلقي القصيدة ارتجالاً، ويبيّن "سرقاتها المعنوية واللفظية" ارتجالاً أيضاً، وهذا يدل على سعة علمه واطلاعه وحفظه لقصائد الشعراء السابقين.
ولم تكن تلك المرة الأولى التي يقع فيها المتنبي ضحيّة لمعاصريه من المنتقدين والمجرّحين بشعره، فإنّ ناقداً هو أبو علي الحاتمي لا يقصر في اتّهام المتنبي بالتكبر والعجرفة: "كان أبو الطيب عند وروده مدينة السلام، قد التحف برداء الكبَر والعظمة، يخيَّل له أن العلم مقصور عليه، وأنّ الشعر لا يغترف عذبه غيره، ولا يقطف نواره سواه، ولا يرى أحداً إلا ويرى لنفسه مزية عليه؛ حتى إذا تخيل أنه نسيج وحده، وأنه مالك رقّ العلم دون غيره، وثقلت وطأته على أهل الأدب بمدينة السلام، وطأطأ كثير منهم رأسه، وخفض جناحه". فالمتنبي إذن كثير الكبرياء والتعالي ويعتقد أن الشعر له وحده والشعراء يطأطئون له رؤوسهم ويخفضون أجنحتهم لديه. ويصف الحاتمي كيف أنه دخل على المتنبي ولم يعره الأخير اهتماماً: "فجلس وأعرض عنّي ساعة لا يعيرني طرفاً، ولا يكلّمني حرفاً، فكدت أتميّز غيظاً، وأقبلت أستخفّ رأيي في قصده، وأعاتب نفسي في التوجّه إلى مثله، وهو مقبل على تكبُّره ملتفت إلى الجماعة الذين بين يديه وكلّ واحد منهم يومي إليه، ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني، ويوقظه من سنة جهله ويأبى إلاّ ازوراراً ونفاراً جرياً على شاكلة خلقه."
إنها ساعة مضت والمتنبي يأبى أن يحدّث رجلاً في مجلسه، والناس يغمزونه ويشيرون إليه بأنه موجود في حضرته، وهو لا يلتفت إليه. وبعد ساعة ينتبه المتنبي إلى غلطته ويعتذر عمّا بدر منه فيعاجله الحاتمي بأبيات من شعر المتنبي فيها أخطاء وارتكابات لفظية ومعنوية فاضحة، ومنها مديحه لسيف الدولة:
إذا كان بعضُ الناس سيفاً لدولةٍ ففي الناسِ بُوقاتٌ لها وطُبول
وكذلك كلام المتنبي في رثاء امرأة ذات شأن عظيم:
ولا مَن في جَنازتها تِجارُ يكون وداعُها نفضَ النّعالِ
وفي مطلع قصيدة للمتنبي:
أرَقُ على أرَقٍ ومثليَ يَأرق وجَوىً يزيدُ وعبرةٌ تترقرقُ
ومثله من ألفاظ نافرة للمتنبي:
فقلقلْت بالهمّ الذي قلقل الحشا قلاقلَ عيِسى كلهنَّ قلاقلُ...
وبيّن أبو علي الحاتمي مجموعة من "سرقات" المتنبي وأهمها:
يقول المتنبي:
في فيلق من حديد لو قذفت به صرفَ الزمان لما دارت دوائره
وقال الناجم:
مديحٌ لو مدحتُ به الليالي لما دارتْ عليَّ لها صروفُ
والناجم نقله من قول أرسطو وهو: "قد تكلّمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت عليّ صروفه".
يقول المتنبي:
لو تعْقل الشجر التي قابلتها مدّتْ مُحَيَّيةً إليكَ الأغصُنا
وهذا معنى مبذول قد تجاذبته الشعراء، وأول من نطق به الفرزدق بقوله:
يكاد يُمسكه عِرفانَ راحتهِ ركنُ الحطيم إذا ما جاءَ يَستلمُ
ثم تكرّر هذا المعنى على ألسنة الشعراء، إلى أن قال أبو تمام:
لو سعتْ بقعةُ لإعظام أخرى لَسَعى نحوَها المكانُ الجديبُ
وأخَذ هذا المعنى البحتري، فقال:
ولَوَ أن مشتاقاً تكلّف فوق ما في وُسْعه لَسعى إليك المنبرُ...
يقول المتنبي:
وما شَرَقي بالماء إلا تذكرا لماء به أهل الحبيب نزول
يحرمه لمع الأسنة فوقه فليس لظمآن إليه وصولُ
وقال عبد الله بن دارة:
ألم تعلمي يا أحسنَ الناس أننَّي وإن طال هجري في لقائكِ جاهدُ
فلا تعذُلينا في التنائي فإننا وإيّاكِ كالظمآن والماءُ بارد
يراه قريباً دانياً غير أنه تحول المنايا دونَه والمرَاصِدُ
ويمضي أبو علي الحاتمي في روايته حتى يتّهم المتنبي بالسرقة عن أبي تمام، فيقول المتنبي: "لا قدّس الله روح أبي تمام" فيقول له الحاتمي: "لا قدّس الله روح السارق منه".
وهناك كتب عدة وُضعت عن سرقات المتنبي الشعرية ومنها: "المصنف في الدلالات على سرقات المتنبي" بقلم ابن وقيع التنيسي، وكتاب "الإبانة عن سرقات المتنبي" لأبي سعد العميدي، و"الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره" للحاتمي، كما وضع الصاحب بن عباد رسالة بعنوان "الكشف عن مساوئ شعر المتنبي"...
وعندما مضى المتنبي إلى العراق أشار أناس إليه بأن يمدح وزيراً مفسداً ماجناً هو المهلبي فقال المتنبي: "إذا رأيت الجائزة (المال) مدحته على قدرها". فقام شعراء بغداد، بتحريض من المهلبي، بهجاء الشاعر، فغادر العراق على عجل. ولسنا نعلم لماذا أحجم الشاعر عن الرد على هؤلاء الشعراء. والأرجح أنه استهتر بهم، واعتبرهم أقلّ من أن يجيبهم، بل اكتفى بالتذكير أنَّه قال في مَن يفوقهم أبياتاً مثل:
أفي كِلّ يوم تحت ضبِنْي شويعرُ ضعيفُ يقاويني قصيرُ يُطاولُ؟...
وإذا أتتك مِذَمّتي من ناقص فهي الشهادةُ لي بأنّي كامل.
ومن الشعراء الذين هجوا المتنبي شاعر ضاحك ماجن يدعى ابن لكنَك، فعيّر المتنبي بأصله وبأن والده كان سقّاء ماء في الكوفة. وقال ابن لكنَك ثلاث قطع على الأقلّ في المتنبي منها:
قولا لأهلِ زمانٍ: لا خِلاقَ لكم ضَلّوا عن الرشد من جهل به وعَموا
أعطيتمُ المتنبي فوق مُنْيته فزوِّجوه برغمٍ أمهاتِكُمُ
لكنّ بغدادَ جاد الغيثُ ساكنها نِعالُهم في قَفا السقّاءِ تزدحمُ.
و
ما أوقحَ المتنبّي في ما حكى وادعاهُ
أُبيحَ مالاً عظيماً لمّا أباح قفاهُ
يا سائلي عن غِناه مِن ذاك كان غِناهُ
إنْ كان ذاك نبيّاً فالجاثَليقُ إلهُ...
أما الحسين بن الحجّاج، وهو شاعر فحل، فقد هجا المتنبّي في قوله:
يَا ديمةَ الصَّفع صُبيٍّ علَى قَفا المُتنبُّي
وَيَا قَفاهُ تَقدَّمْ حَتَّى تَصيرَ بْجَنْبِي...
إِنْ كُنت أنتَ نَبيّاً فَالقِرِدُ لا شكَّ رَبيِّ.
وهجا المتنبي شاعرٌ عراقيّ هو أبو حسن بن سكرة المشهور، وكان شاعراً مجيداً ورقيقاً، ومن جميل شعره ما قاله في وصف غلام أعرج:
قالوا بليت بأعرج فأجبتـهـم: ألعيب يحدث في غصون البانِ
إني أحبّ حديثه وأريده للـنـو م لا للجرْي فـي الـمـيدان.
ولم نستطع العثور على القصيدة التي هجا بها ابن سكرة المتنبي ولكنّ ذكْرها ورد في مصادر كثيرة.
ووصلنا من ذلك العصر أيضاً بيتان من الشعر قيلا في هجاء المتنبي:
أيّ فضل لشاعر يطلب الفضـ ل من الناس بكرةً وعشيّا؟
عاش حيناً يبيع في الكوفة الما ء، وحيناً يبيع ماء المحيّا.
وهكذا نرى أن المتنبي قد تعرض للكثير من النقد والتجريح، ويعود هذا إلى أسباب كثيرة، أهمها:
-شخصيّته المتعالية التي دفعت الكثيرين إلى اتخاذ مواقف معادية له فرضتها ردّة فعلهم على تصرفاته وسلوكه.
-هجاؤه المقذع الذي حرّض كثيرين عليه وصولاً إلى مقتله من جرّاء قصيدة هي أسوأ ما قاله على الإطلاق:
ما أنصف القوم ضبّه وأمَّه الطرطبّه...
-تناقض المتنبي وتبنّيه أفكاراً متضاربة في أزمنة قياسية وانقلابه على صداقاته.
-الحسد من قبَل شعراء لم يبلغوا شأوه ولا مستواه.
-المنافسة الحامية بين الشعراء في العصر العباسي.
-ازدهار حركة النقد في العصر، وخضوع الأدب عامّة لمراقبة الدارسين والمتعمّقين.
-وقوع المتنبّي في إشكالات لفظية ومعنويّة ومعان مغلقة، وصور غير متناسقة.
-الشبهة على الشاعر في أنّه أفرط في استخدامات جاء بها شعراء قبله، فأعاد صياغتها في قالبه الخاصّ...
وإنّ كثرة أعداء المتنبي دفعت بالقاضي الجرجاني إلى وضع كتاب بعنوان "الوساطة بين المتنبي وخصومه".
ولا نعتقد أنّ جميع من انتقدوا المتنبي كانوا يغارون منه، كما هو شائع لدى المدافعين عنه. وللأسف فإن كثيراً من المدافعين عن المتنبي أو المنتقدين له لم يقرأوه بل سمعوا عنه من الناس فاتخذوا مواقف بناء على ما سمعوه (القراءة الغائبة). ومهما يكن فإنّ علامات استفهام كثيرة يمكن وضعها على قصائد أو أبيات له. فالمتنبي كما نعرف ليس شاعراً مقدّساً ولا عصيّاً على النقد، على الرغم من احترامنا الفائق لشعريته المرموقة، ودوره الكبير في تاريخ الأدب العربي قاطبة.
عقدة جبران خليل جبران في أدب المهاجر
لم يبلغ أحد في أدب المهاجر ما بلغه المفكّر اللبناني جبران خليل جبران، من المجد والرفعة، حتّى بات أيقونة العصور، وعلامة فارقة في الثقافة العالميّة. وبات التفكير بأيّ أديب آخر قد يشبهه ضرباً من الخيال.
وعندما أسّست مشروع "أفكار اغترابيّة" في أستراليا، كنت أعرف أنّ عقدة جبران ستكون عائقاً أمام مشروعي، فأيّ إنسان سيسأل: أين أفكار اغترابيّة من الرابطة القلميّة، وكيف تجوز المقارنة بينهما؟...
وأسئلة أخرى كثيرة صعبة ومحرجة بالتأكيد. وعلى الرغم من قامتي المتواضعة أمام قامة جبران، فقد استطاع أفكار اغترابيّة أن يوصل صوته إلى العالم خارج أستراليا، لكن بقيت هناك إشكاليّة: كيف يقتنع الناس بأنّ حالة مهمّة قد نشأت فعلاً؟ والبشر بطباعهم يحتاجون إلى وقت طويل للإقتناع بفكرة. وهذا ما شرحته في كتابي الفكريّ الثاني عشر "المتقدّم في النور" عندما قلت:
"الأمم ليست مضطرّة لتبنّي قيَم تتناقض مع المألوف لديها، وإن كان هذا المألوف غير مجدٍ ومميت. والأفكار القديمة التصقت بالعقل كما يلتصق الصدأ بالآنية المتروكة في قبو مظلم، وتحتاج إزالة الصدإ عن النحاس زماناً طويلاً جدّاً، يتجاوز حياة إنسان. فهل نظرتم إلى الفقير الذي أصبح بغتةً ملكاً على مدينة، وصار الملك خادماً عنده؟… فإنّ الفقير سيظلّ أيّاماً يعتقد أنّه فقير وليس ملكاً، والملك سيظلّ أيضاً مدّة يعتقد أنّه ملك وليس فقيراً. فتطوّر الاقتناع بحال من الأحوال يحتاج إلى زمن، ولا يكون في وقت قصير، مثلما تتغيّر تلك الحال في وقت قصير.
والغريب في الكائن البشريّ أنّه يرتاب في أيّ شيء إيجابيّ، إنْ يكن طارئاً عليه... ألم تكن فكرة كرويّة الأرض مدعاة للاحتقار والسخرية لأنّ البشريّة اعتادت على أنّ الأرض مسطّحة... وأيّ اعتقاد ثوريّ، وإن يكن صحيحاً، لا يجد قبولاً على الفور؟ أوليس من قَبيل الجنون أن يقول أحد الآن إنّ سكّان الفضاء قد يهبطون غداً في المدن الكبرى ويحتلّونها؟
الإنسان في حالة عدم التصديق، والاعتقاد أنّ بعض الحقائق جنون، هو كطفل صغير. فالطفل في السنة الأولى من عمره لا يفهم كيف أنّ العصفور يطير، والشمس تشرق، والباب ينفتح… وتلتبس عليه أمور هي عاديّة في نظر الكبار. ولو عرضتَ أمام هذا الطفل عندما يكبر، شريطاً مصوّراً عن ردّة فعله، ودهشته، وتعجّبه من العصفور عندما يطير، والشمس عندما تشرق، والباب عندما ينفتح، لضحك من نفسه، وسخر من سذاجته".
هذا هو الاعتقاد الذي يراودني دائماً، وأنا أنظر إلى واقع أفكار اغترابية، وفترة الانتظار الطويلة، منذ العام 2014، قبل أن يقتنع أساتذة جامعات بأنّ شيئاً ما قد حدث، أهمّ معالمه -تعدّد الأنواع، في ظاهرة غير مسبوقة-.
وللحقيقة، فقد وعَدَنا العديد من أساتذة الجامعات بأنّهم سيطرحون موضوع أفكار اغترابيّة على طلاّبهم، ولكن يبدو أنّ الصدق الذي لا يُصدّق ، هو عقدة أيضاً. فهل يمكن أن يكون هناك أدب مهجريّ رفيع وحقيقيّ نشأ في أستراليا؟ وهل تجوز الموازنة بين هذا الأدب الناشئ حديثاً والأدب الذي أنتجته الرابطة القلميّة؟
وكأنّي بالناس يغمضون عيونهم ويفتحونها، في محاولة لفهم أنّ واقعاً يمكن أن يفرض نفسه.
وما واجهه أفكار اغترابيّة، واجهته شخصيّاً، فالذين يقارنون بيني وبين جبران، ينقسمون إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: مَن يعتبرونني جبران الثاني، أو جبران الجديد. وعلى الرغم من أنّ لي شخصيّتي وطريقتي، واختلافي، وأنواعي، وأفكاري، فإنّني أرى أنّ هذا المديح ناتج عن محبّة وتقدير.
والفئة الثانية تسخر من أنّني "أتوهّم بأنّني مثل جبران"، (وقد أثبتّ هذه الجملة كما وردت في سياق حديث مبالغ فيه)، والحقيقة أنّني جميل الدويهي. ومن الغريب فعلاً أن يقال شيء غير ذلك. ومن أساليب التحقير أن يتّهمني أحد بأنّي أقلّد بودلير مثلاً أو إدغار ألن بو... وقد اضطررت مؤخّراً إلى نشر نصوص على صفحتي وذكرت أنّها "لا تشبه جبران في شيء"... ولا يخفى على أحد من الناس، ماذ يريد المحقّرون، ولماذا يريدون إحباطي، وكيف يشعرون وهم يقارنون بين أعمالي وأعمالهم الزهيدة...
الفئة الثالثة، هي التي تقارن بصدق بين مذهبين ومدرستين. وهذه النظرة التي تقوم على نقد صحيح، هي ما أطلبه. فلا الأنواع السبعة تشبه أحداً، ولا "بلطجي بيروت" تشبه رواية أخرى، ولا "طائر الهامة" تحاكي رواية من طائفتها، ولا "الإبحار إلى حافّة الزمن" التي هي مغامرة في الأدغال الأسترالية، وتنتهي بالعثور على النمر التاسماني المنقرض منذ العام 1932، قد كتب جبران أو نعمية أو الريحاني مثلها.
وإذا كان كتابي "في معبد الروح" مثلاً مستوحى من كتاب أو كتب أخرى، فمن أين استوحيت كتبي الفكريّة الأحد عشر التي لحقت به تباعاً، ونزلت كالصاعقة على محدودي الإنتاج؟
في رأيي أنّ الأساتذة الكبار الذين تناولوا بالنقد "أفكار اغترابيّة": الدكتور جوزاف ياغي الجميّل، الدكتور عماد يونس فغالي، الناقد نبيل عودة، الأديب الراحل سليمان يوسف ابراهيم، الأديبتان مريم رعيدي الدويهي وكلود ناصيف حرب، د. ميرنا ريمون الشويري، والباحثة نداء عثمان... وغيرهم كثيرون شاركوا في جلسات حواريّة، هم الذين غامروا مثلي، في الغابات والقفار الأسترالية، بحثاً عن الحقيقة التي أخفاها بحّارة في صندوق تحت شجرة مجهولة.
وسواء تحقّقت الوعود أم لم تتحقّق، فلا أزال على تصميمي وقراري، بأّن هذا المشروع هو مركبة فضائية انطلقت، ولا يردها إلى الأرض اليابسة أي محاولة للتجهيل والتبسيط والتقزيم. وأعتمد في الحكم فقط على أصحاب الضمائر والقلوب المؤمنة بالحياة وتطوّرها.
الفيلم المرفق يمثّل دخول الجيش الأستراليّ إلى قرية عبيه، في الشوف لبنان، وإهداء عنب لبنان لجنود أستراليا، ورسالة الترحيب باللغة الانكليزيّة من أطفال لبنانييّن
الفيلم من محفوظات الجيش الأستراليّ، نعرضه كتحيّة لأرواح جنود الأنزاك
(مصوّر الفيلم هو فرانك هارلي. والقائد الأستراليّ الظاهر في الفيلم هو الليوتنانت فريد تيري، من فرقة الإنقاذ التابعة للفيلق الأستراليّ الأوّل)
حاربت القوّات الأستراليّة في لبنان في الحربين العالميّتين: الأولى والثانية من ضمن القوّات البريطانيّة، فقد كان الجنود الأستراليّون، والنيوزيلانديّون، والهنود يُعتبرون جنوداً بريطانيّين، لأنّ الدول التي ينتمي إليها هؤلاء الجنود، كانت إمّا محتلّة من قبل بريطانيا، كالهند مثلاً، أو تدور في فلك التاج البريطانيّ، كأستراليا ونيوزيلاندا
وعلى الرغم من استقلال أستراليا، وإعلانها كدولة موحّدة في عام 1901، وبُعدها الجغرافيّ عن بريطانيا، فإنّها ظلّت تعتبر نفسها تابعة للعرش البريطانيّ، وما تزال ملكة بريطانيا، حتّى اليوم، تعيّن الحاكم العامّ في أستراليا
وعند اندلاع الحرب العالميّة الأولى، كانت أستراليا تعتمد بشكل أساسيّ على الاقتصاد البريطانيّ، وكانت المملكة المتّحدة الإنكليزيّة أكبر شريك تجاريّ لأستراليا، وتحظى بريطانيا حتّى اليوم، بعطف كبير في المجتمع الأستراليّ، المتحدّر بأغلبه من أصول إنكليزيّة، فإنكلترا هي البلاد الأمّ التي تحدّر الأستراليّون البيض منها(1)
فليس مستغرباً إذاً أن يتجاهلَ المؤرِّخونَ المعالمَ التفصيليّة لدور أستراليا العسكريّ، في الحربين العالميّتين الأولى والثانية، لاعتقادِهم أنَّ الجنود الأستراليِّين الذين شاركوا في هاتين الحربين كانوا بريطانيِّين. ففي كتابه تاريخ لبنان الحديث يتناول كمال الصليبي معركة تحرير لبنان وسوريا في الحرب العالميّة الأولى، فيذكر أنّ ثورة الشريف حسين نجحت في الحجاز، وكانت قوّاته تحمي ميمنة القوّات البريطانيّة في زحفها البطيء عبر فلسطين، “وسقطت سوريا كلها بنهاية الشهر التالي في قبضة البريطانيّين… وفي اليوم ذاته الذي دخل فيه فيصل دمشق، انهارت السلطة العثمانيّة في بيروت.”(2) ولا يذكر الصليبيّ شيئاً عن دور القوّات الأستراليّة في معارك لبنان وسوريا
ويحذو محمود خليل صعب حذو الصليبيّ في إغفاله ذكر القوَّات الأستراليّة، في سياق تأريخه للحرب العالميّة الأولى، فيذكر أنّه “في أواخر أيلول من سنة 1918، انهارت الجبهة التركيّة- الألمانيّة في سوريا أمام الإنكليز القادمين بطريق فلسطين، بقيادة الجنرال اللنبي، والعرب القادمين بطريق شرقي الأردن بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، فأوقف الأتراك القتال، وأخذوا في الانسحاب شمالاً نحو بلادهم”(3)
وفي كتابه من الاحتلال إلى الجلاء 1918-1946 يقول علي عبد المنعم شعيب، في معرض حديثه عن الهجوم العسكريّ للقوّات الحليفة على سوريا ولبنان، خلال الحرب العالميّة الثانية: “في صباح 8 حزيران، اجتازت الجيوش الفرنسيّة الحرّة، والبريطانيّة الحدود السوريّة اللبنانيّة”.(4). ولا يذكر شعيب أيَّ دور للجنود الأستراليّين، الذين كانوا ينضوون مع زملائهم النيوزيلانديّين في قوّات “الأنزاك” من ضمن القوّات الحليفة
ولسنا في وارد النقد لمثل هذه المعلومات، التي أوردها المؤرّخون تعميماً لا تفصيلاً؛ على أساس أنّ ملامح الدور الأستراليّ ضاعت في خضمّ القوميّات المتعدّدة التي تكوّنت منها إمبراطوريّة بريطانيا العظمى. ولكنّنا سنحاول في بحثنا، إلقاء الضوء على إسهام الجنود الأستراليّين، أو “الحفّارين” ، كما يُطلَق عليهم تحبُّباً في أستراليا، في الحربين العالميّتين: الأولى والثانية، علّنا نوضح التفاصيل الممكنة عن تلك المساهمة، ونفتح الباب لمزيد من الدراسات المعمّقة في هذا الموضوع
القوّات الأستراليّة في الحرب العالميّة الأولى
من بين اللوحات التذكاريّة المحفورة على صخور نهر الكلب، لوحة تؤرّخ لمرحلة الحرب العالميّة الأولى (1914-1918). وذُكرت في اللوحة القوّات الأستراليّة، والنيوزيلانديّة، والهنديّة، والفرنسيّة، والقوّات العربيّة التابعة للشريف حسين. وهذه القوّات مجتمعة شاركت في معركة تحرير لبنان من القوّات العثمانيّة، والقوّات الألمانيّة
والجدير بالذكر أنّ الجنود الأستراليّين والجنود النيوزيلانديّين، حاربوا معاً تحت اسم الأنزاك. وتحتفل الدولتان المتجاورتان بيوم الأنزاك، في الخامس والعشرين من نيسان كلّ عام، كأهمّ مناسبة وطنيّة
ومن الواضح تماماً أنّ قوّات “الأنزاك” كان لها دور كبير في محاربة العثمانيّين، وإجلاء قوّاتهم عن لبنان وسوريا، من ضمن خطّة شاملة، وضعها الجنرال البريطانيّ الفذّ إدموند اللنبي للسيطرة على مصر، فلسطين، الأردنّ، لبنان وسوريا. وكان المجاهدون العرب، التابعون للشريف حسين، يتقدّمون القوّات المُهاجمة، وهي في طريقها إلى دمشق. فبعد تحرير مصر، وفلسطين، والأردنّ، وصلت قوّات التاج البريطانيّ إلى العاصمة السوريّة، في مطلع تشرين الأول من عام 1918. ووصلت قوّات أخرى عن طريق الساحل الشرقيّ للبحر المتوسّط، إلى بيروت(5)
ولم تكن معركة لبنان وسوريا سهلة، بالنسبة للقوّات المُهاجِمة، بسبب وعورة المسالك، خصوصاً في المناطق الجبليّة، واتّساع رُقعة القتال، في منطقة جغرافيّة حارّة المناخ، تمتدّ من فلسطين إلى الحدود التركيّة في الشمال، ومن ساحل البحر الأبيض المتوسّط إلى العراق. وقد أخذ الجنرال اللنبيّ ظروف المعركة، وطبيعة الأرض في حساباته، معتمداً على شخصيّته العسكريّة القويّة، وفكره الخلاّق، فحشد 12000 عنصر من الخيّالة، و57000 عنصر من المشاة، و500 مدفع، وسبع وحدات من الطيران
وكانت الخطّة تعتمد على النوعيّة العالية للأستراليّين والنيوزيلانديّين(6)؛ وهؤلاء كانوا يندفعون بجرأة إلى الخطوط الأماميّة، ويقيمون المتاريس، ويتقنون ركوب الخيل والمناورة. وقد رأى الجنرال اللنبي، بعد هزيمة الجيش العثمانيّ في فلسطين، في أواخر أيلول عام 1918، أنَّ من المفيد له الاعتماد على مجموعة قتالية أستراليّة، هي فرقة الخيّالة الأستراليّة. وكانت هذه المجموعة تستخدم في أصعب المهامّ العسكريّة، فرجالها من سكّان البراري الأستراليّة، وقد حاربوا فيما بعد في معركة غاليبولي الشهيرة ضدّ العثمانيّين(7). وكان يقود هذه المجموعة الليوتنانت جنرال هاري شوفيل
وخاض الجنود الأستراليّون معارك صعبة في مرجعيون، جزّين، والدامور. وصولاً إلى بيروت، لكنّ الحملة الأساسيّة كانت تتركّز على دمشق. وقد عبرت القوّات الحليفة الحدود الفلسطينيّة- السوريّة بعد تحرير مصر، وفلسطين والأردن، وضيّقت الخناق على مدينة دمشق، حيث كان يتمركز حوالي عشرة آلاف من الجنود العثمانيّين، بإشراف مستشارين ألمان. وقد ساعد المقاتلون العرب القوّات الحليفة، ومهّدوا لهم السبيل لمحاصرة المدينة، وكان السكّان في سوريا ولبنان، يأملون في أن ينتهي الحكم العثمانيّ في أقرب وقت، وتنتهي معه حقبة مريرة من التعسّف، والمجاعة، والفقر المدقع. ويصف الجنديّ الأستراليّ غرانفيل رايري حالة الناس في عام 1918، فيقول: “إنّ الشعب السوريّ هنا يعاني من المجاعة الفادحة. الناس يتضوّرون جوعاً، ويقولون إنّ حوالى 250000 نسمة قد ماتوا بسبب قلّة الطعام. وفي الوقت نفسه، فإنّ الطقس بارد، والشتاء قد بدأ، ويمكن رؤية الكثيرين من الأطفال الصغار في الخارج، وعلى ظهورهم بُسُط ممزّقة… والعثمانيّون لم يُظهروا لهم الرحمة، فقد صادروا كلّ شيء من البلاد(8)
وفي اليوم الأوّل من تشرين الأوّل، سقطت دمشق، وكان أمام الجنود العثمانيّين طريقان للهرب: الأولى باتّجاه رياق في البقاع، حيث كانت للألمان قاعدة جوّيّة مهمّة، والثانية باتّجاه حمص. وكان عدد الجنود العثمانيّين قد بلغ حوالي سبعة آلاف، بعد مقتل وجرح الكثيرين، ووقوع آخرين في الأسر. وقد ارتأى الجنرال اللنبي إقفال طريق حمص، فتوجّهت مجموعة من لواء الخيّالة الأستراليّ الثالث للقيام بالمهمّة على أكمل وجه
وكان المستشار العسكريّ الألمانيّ ليمان فون ساندرز موجوداً في لبنان، حيث اتّخذ مقرّاً له في بلدة رياق البقاعيّة، منذ التاسع والعشرين من أيلول عام 1918، ومن هناك أدرك أنّه ليس في موقع جيّد للدفاع عن دمشق، فقرّر إخراج القوّات العثمانيّة من العاصمة السوريّة، قبل أن تطوّقها قوّات اللنبي، وتقضي عليها نهائيّاً، على أن يعيد تجميع صفوف قوّاته في رياق (9). وبالفعل، تقهقر الجنود العثمانيّون على طريق وادي بردى- رياق، غير أنّهم وجدوا أمامهم القوّات الأستراليّة والفرنسيّة، فعادوا باتّجاه دمشق، ليواجهوا مصير القتل أو الاستسلام
ويذكر المؤرّخ تشارلز بِين تفاصيل تلك المرحلة من الحرب، فيقول: إنّ الأعداء (ويقصد العثمانيّين) كانوا قد فقدوا معنويّاتهم العسكريّة بشكل كبير، بينما كانت القوّات الأستراليّة تطلق النار عليهم من الخلف. وتحوّل الجنود الأتراك إلى وادي نهر بردى، ليسلكوا طريق بيروت. وكان الجنود الفرنسيون متمركزين على التلال المجاورة، فراحوا يطلقون النار على رؤوس الجنود المنسحبين. بينما كان عدد من الخيّالة الأستراليّين، بقيادة الميجر جنرال أوليفر هوغ ، قد تحصّنوا في منزل صغير داخل الوادي، فأخذوا يطلقون النار من مسافة قريبة على الجنود العثمانيّين المتضعضعين(10)
وبعد دمشق، سقطت حمص وحلب، وحُسمت معركة سوريا في خلال 12 يوماً فقط، تقدّمت فيها القوّات الحليفة أكثر من 400 ميل، واعتقلت أكثر من 47000 جنديّ من الأتراك، والألمان، والنمساويّينن والهنغاريّين. وأسرت فرقة الخيّالة الأستراليّة وحدها أكثر من 31000 جنديّ
ومن الواضح تماماً أنّ معركة دمشق، فتحت الباب أمام هزيمة الجيش العثمانيّ في لبنان، فقد وصلت القوّات الحليفة في السادس من تشرين الأوّل إلى صور، ثمَّ “رست أمام مرفأ بيروت المدرّعات والبواخر، فخرجت منها إلى البرّ الجيوش الفرنسيّة بوافر عتادها، بينما كانت القوّات البريطانيّة تواصل سيرها ببطء، وفي فترات متقطّعة على الساحل اللبنانيّ إلى طرابلس”(11)، واحتلّت القوّات الحليفة صيدا في اليوم التالي(12)
ويصف المؤرّخ بِين عمليّة تحرير لبنان من الأتراك، فيقول إنّ اللنبي وشوفيل اتّفقا على السير نحو سهل البقاع من جهة الشرق، لمهاجمة رياق، وكانت تلك البلدة البقاعيّة نقطة التقاء الخطّ الحديديّ الذي يربط بين البوسفور ودمشق وبيروت. وكان عدّة آلاف من الجنود العثمانيّين والألمان متمركزين في رياق. وشارك في الهجوم الجنود الأستراليّون بمدرّعاتهم وآليّاتهم. وانسحب الأعداء من رياق باتّجاه الشمال، بعد أن أحرقوا 30 طائرة، وكمّيّات كبيرة من المعدّات، لكنّهم خلّفوا وراءهم كثيراً من المعدّات والذخائر بحالة جيّدة(13). وفي 7 تشرين الأوّل، أبلغ المُخبرون القيادة البريطانيّة أنّ الأعداء انسحبوا من بيروت، ودخلت على الفور سفن حربيّة فرنسيّة إلى ميناء بيروت. وفي التاسع من تشرين الأوّل دخلت القوّات المدرّعة إلى بعلبكّ، فسلّمها المواطنون 500 أسير تركيّ كانوا يحتجزونهم، كما سقطت زحله بدون مقاومة. أمّا على الساحل، فقد دخلت القوّات الحليفة صور وصيدا، ثمّ بيروت حيث سلّمها السكّان 600 أسير عثمانيّ، وتابع الحلفاء سيرهم على الساحل شمالاً، فوصلوا إلى طرابلس(14)
كما يصف المؤرّخ محمّد كامل بابا تلك الحقبة، فيقول: “أمطرت الطائرات البريطانيّة يوم 29 أيلول 1918 قنابلها على مستودعات محطّة رياق، نقطة اتّصال الجنوب بالشمال، ونهب ملحم قاسم من أهالي بعلبك أنابير رياق وحوش تعلا، في جماعة من رجاله، فنسف الألمان ما بقي من المؤن والعتاد في المستودعات والأنابير، وانهزموا في السكّة الحديديّة إلى الشمال، ولم يمكِّنوا أحداً من الترك الركوب معهم، فنجوا بأنفسهم باستعمال الشدّة. وفي ذلك الحين، قذف الألمان في بيروت المؤن والموادّ الحربيّة في البحر، وأصلاهم الحلفاء ناراً حامية خلال هزيمتهم. ولم تنفعهم وتنفع الأتراك خطوط الدفاع التي كانوا جعلوها في الجبال المطلّة على بيروت… ولم يجرِ استيلاء الحلفاء على بيروت إلا يوم 7 تشرين الأول، أي بعد سقوط دمشق بثمانية أيّام… وفي يوم 8 تشرين الأول 1918، دخلت الجيوش البريطانيّة طرابلس، وهي مؤلفة من الأستراليّين والهنود والمصريّين، ومعهم فرقة إفرنسيّة، فاستقبلتهم الأهالي ولا سيّما الطوائف المسيحيّة بالتصفيق. وكنت واقفاً أشهد دخولهم بنفسي”(15)
وشارك الطيران الأستراليّ، إنطلاقاً من مصر، في معارك سوريا ولبنان، سواء في عمليّات المراقبة أو القصف الجوّيّ. ولم تكن الطلعات الجوّيّة للطيّارين الأستراليّين سهلة، فقد كانت الطائرات الألمانيّة نشطة في المنطقة، وكان تقدّم القوّات الحليفة في لبنان وسوريا يتعرّض للإعاقة، بسبب عمليّات القصف المستمرّة التي كان يقوم بها الطيّارون الألمان(16)
وكان على المقاتلات الأستراليّة، وهي من طرازات "بي إي 2"، "مارتينسايد"، و"بريستول إف 2" أن تحلّق فوق منطقة واسعة جدّاً تمتدّ على مسافة تفوق 600 ميل في بعض الأحيان. وقام الطيّارون الأستراليّون بعمليّات استطلاع واسعة فوق رياق، حمص، بيروت، طرابلس، حماة وحلب. وقصفوا قاعدة رياق، التي كانت مركزاً دفاعيّاً قويّاً للألمان، فدمّروا العديد من الآليّات الحديثة، وترك الألمان الآليات الأخرى مهجورة في ساحة القتال(17)
ومن المفيد الإشارة إلى أنَّ اللبنانيّين، ساعدوا القوّات المتقدِّمة على الجبهات، وإن بصورة عفويّة. وقد ذكرنا سابقاً أنّ السكّان سلّموا في بعلبك القوّات الحليفة 500 أسير كانوا القوا القبض عليهم، كما سلّموها في بيروت 600 أسير. ويذكر العقيد الركن جورج فغالي أنّ عدد الأسرى العثمانيّين الذين سلّمهم الأهالي في بيرت بلغ 660 أسيراً، من بينهم 60 ضابطاً(18). وكان الأهالي يطلقون على الجنود العثمانيّين الهاربين اسم “عسكر الفرار”. وفي بعقلين كان المواطنون يترصّدون لهؤلاء الجنود، ويتصدّون لهم، ويتعقّبونهم، وينتزعون منهم ما يحملونه من السلاح والذخيرة(19)
وفي الشويفات، اجتمع الناس في ساحة السرايا، وأضيئت الفوانيس والمشاعل، ووقف الأمير أمين مصطفى أرسلان يحضّ المواطنين على قطع الطرق على العثمانيّين الفارّين، وسار أمام الجمهور إلى أعالي كروم الشويفات، حيث كان العثمانيّون قد حفروا خنادق. وعند وصول الناس إلى هناك أخبرهم بعض المارّة بأنّ شرذمة من الجنود الأتراك يسيرون على طريق بيروت – صيدا، ومعهم جِمال وبغال وذخائر، فهجم أهالي الشويفات على الطريق، وأطبقوا على الجنود الأتراك من كلّ الجهات، ولم يكن عدد الجنود يزيد على الثلاثين، فاستسلموا دون أيّة مقاومة(20)
وقد وقعت مصادمات بين السكّان والجنود الفارّين، فوقع قتلى وجرحى من الطرفين. “وفي عاليه وصوفر ورياق لم يتصدّ أحد لمواجهة الجند كما فعل أهالي الشويفات… لكنّ مستودعات الأسلحة كانت في صوفر، فما إن عبر الأتراك المنطقة، حتّى وفد أهالي الجرد وقبيع، ودهموا المستودع، وكان على بابه حارس تركيّ يدعى محمّد أمين. ولا ندري كيف بقي هذا الجنديّ قائماً على الحراسة بعد انسحاب الجيش، وقد أصرّ هذا الرجل الشجاع على القيام بواجبه، فقتله الأهلون”(21)
وتتحدّث المصادر المتفرّقة أيضاً عن دور محدود لفرقة الشرق، التي تأسّست في عام 1916 من لبنانيّين وسوريّين وأرمن، في مساعدة القوّات الحليفة، وقد خاض عناصر هذه الفرقة، وأغلبهم من المغتربين، معركة نابلس في فلسطين، في 19 أيلول 1918. واضطلع الجنود اللبنانيّون بدورهم في عمليّات الإنزال الحليف على السواحل اللبنانيّة، وشاركوا في احتلال مرفأ بيروت(22)
ويذكر يوسف الحكيم أنّ القوّات الأستراليّة بقيت في لبنان حتّى أوّل تشرين الثاني من عام 1919. فقد اتّفقت الحكومتان الفرنسيّة والبريطانيّة على سحب القوّات البريطانيّة لتحلّ محلّها قوّات فرنسيّة، على أن يبقى الجيش البريطانيّ في فلسطين والعراق(23)، لكنّ الجنديّ الأستراليّ غرانفيل رايري ذكر في رسالة بعث بها إلى أستراليا، في 12 كانون الثاني 1919، أنّه كان في طرابلس، وقام برحلة إلى بعلبك، حيث التقط أربع صور للآثار الموجودة هناك، ومن بعدها زار دمشق، ولم يكن يحمل مسدّساً في رحلته(24)، وهذا يدلُّ بوضوح على فترة من الاستقرار السياسيّ والأمنيّ التي عاشها لبنان في تلك الحقبة من التاريخ
والواقع أنّ الجنود الأستراليّين أنشأوا معسكرات في العديد من المناطق اللبنانيّة، ومنها طرابلس، ورياق، وبعلبكّ، والصرفند. فقد أقام الجنود الأستراليّون من فرقة الخيّالة الأستراليّة في طرابلس معسكراً مريحاً، ومجهّزاً بعناية، وأعدَّت لهم وسائل ترتيبات العودة إلى أستراليا(25)
ولم تخلُ فترة وجود الجيش الأستراليّ في لبنان من اضطرابات ومواجهات مع بعض السكّان، خصوصاً في بلدة الصرفند الجنوبيّة، حيث كان يوجد ثلاثة مخيّمات للجنود الأستراليّين. وكانت تقع خلافات بين هؤلاء الجنود والمواطنين المحلّيّين، بسبب قسوة المعاملة التي كانت تبديها القيادة البريطانيّة تجاه السكّان، وكان أهل البلدة لا يميّزون بين جنديّ أستراليّ أو نيوزيلانديّ، وآخر بريطانيّ. وقد قُتل بضعة رجال من فرقة خيّالة الأنزاك على أيدي السكّان بإطلاق النار عليهم، كما أنّ الجنود الأستراليّين كانوا يفقدون بعض الأغراض من خيامهم، فيعتقدون أنّهم تعرّضوا للسرقة من قبل السكّان. وفي إحدى المرّات، استيقظ واحد من الجنود النيوزيلانديّين، فوجد رجلاً يحمل كيساً في خيمته، فراح يطارده، حتّى وصلا إلى التلال الرمليّة خارج المخيّم، فأطلق الرجل الهارب النار، وقتل الجنديَّ النيوزيلانديّ. وقام الجنود النيوزيلانديّون، ومعهم نفر من زملائهم الأستراليّين، بمحاصرة الصرفند، وطلبوا من المشايخ تسليمهم القاتل، فلم يلقوا آذاناً صاغية، فاقتحم الجنود البلدة، وأخرجوا النساء والأطفال، ثمّ انهالوا بالضرب على الرجال، وأحرقوا البيوت، فقُتل العديد من العرب، وفرّ الباقون. ثمّ أحرق الجنود مخيّماً للعرب الرُّحَّل خارج الصرفند، قبل أن يعودوا إلى معسكرهم. وأثار ذلك السلوك حفيظة القيادة الحليفة، لكنَّ الجنود الأستراليّين والنيوزيلانديّين رفضوا تسليم أيّ زميل لهم للمحاكمة. وعلى الرغم من غضب اللنبي، فإنّ أيّ إجراء عقابيّ لم يُتخذ بحقّ أولئك الجنود(26)
ولسنا نعرف بالضبط عدد الجنود الأستراليّين الذين قُتلوا أو جُرحوا في لبنان، لكنّ الأرجح أنّ هذا العدد قليل جدّاً، فقد قُتل من الجنود الأستراليّين، في الحرب العالميّة الأولى، في الشرق الأوسط 1394 جنديّاً، من أصل حوالي 60000 جندي خسرتهم أستراليا على جبهات القتال، وفي معركة احتلال دمشق قتل 21 جنديّاً، وجُرح 17 فقط، علماً أن عشرة آلاف جندي أسترالي قتلوا في معركة غاليبولي وحدها في الحرب العالمية الأولى
القوّات الأستراليّة في الحرب العالميّة الثانية
كان لمشاركة أستراليّا في الحرب العالميّة الثانية، ضدّ قوّات فيشي والقوّات الألمانيّة في الشرق الأوسط، دور حاسم. وقد كتب رئيس الوزراء الأستراليّ روبرت منزيز إلى رئيس وزراء بريطانيا تشرشل يقول: “أليس من الممكن القيام بمحاولة لاحتلال سوريا ولبنان من قبل القوّات البريطانيّة؟ ما من شكّ في أنّ لديكم تردّداً في هذا الموضوع، بسبب التداعيات المحتملة لموقف الاميركيّين، غير أنّني متأكّد، ومن مصادر جيّدة في واشنطن أنّ الأميركيّين سيكونون سعداء من ردّ بريطانيّ قويّ”(27)
وأعرب منزيز عن استعداد بلاده للمشاركة في القتال إلى جانب النيوزيلانديّين. وأرسلت أستراليا على الفور أربع فرق إلى الشرق الأوسط. وقدّمت أستراليا أيضاً سفناً، ومجموعة من الطائرات الحربيّة لصالح القوّات الحليفة. وفي الحملة على لبنان وسوريا، كان عدد الجنود الأستراليّين 18000 جندي، إلى جانب 9000 جنديّ فقط من الجيش البريطانيّ، و 5000 جنديّ من قوّات فرنسا الحرّة التابعة للجنرال شارل ديغول، و 2000 جنديّ من الهنود. ويبدو من هذه الأرقام أنّ عدد الجنود الأستراليّين الذين شاركوا في تحرير لبنان وسوريا في الحرب العالميّة الثانية، يبلغ ضعفي عدد الجنود البريطانيّين، كما يفوق عدد الجنود البريطانيّين والفرنسيّين والهنود مجتمعين
وفي المقابل، كانت قوّات فيشي، بقيادة هنري دانتز ، تتألّف من 28000 جندي فرنسي وجزائري ومغربيّ، و 10000 مقاتل لبنانيّ وسوري، وعشرات الجراكسة والروس البيض
بدأ الهجوم على لبنان من جهة الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، وكان مطلوباً من الجنود الأستراليّين، الذين يتمتّعون بالحركة والمرونة، أن يبقوا على مرمى من الأعداء، ويعطوهم الانطباع بأنّهم يتحرّكون للهجوم. وهذا سيجعل قوّات فيشي في وضع نفسيّ متوتّر. وكان دور الخيّالة الأستراليين دوراً فائق الأهمّيّة، خصوصاً في المناطق الوعِرة
نُفِّذ الهجوم في 8 حزيران عام 1941، بناء على خطّة وضعها الجنرال البريطاني هنري ويلسون . وتقضي هذه الخطّة بمهاجمة لبنان من ثلاثة محاور المحور الساحليّ: انطلاقاً من الحدود اللبنانيّة وصعوداً على طول الطريق الساحليّ اللبنانيّ باتّجاه الشمال، مدعوماً بأسطول بريطانيّ كبير، مؤلّف من طرّادين وعشر مدمّرات. وقد قادت الهجوم في هذا القطاع الفرقة الأستراليّة التاسعة بقيادة الجنرال جون لافاراك ، وهدفها بيروت
محور مرجعيون- رياق – بعلبكّ: قاد الهجوم على هذا المحور لواء أستراليّ من الفرقة التاسعة، وكردوس مدرّعات بريطانيّ، بهدف احتلال رياق ثمّ بعلبكّ
محور ثانويّ على تفرّع مرجعيون- جزّين(28)
ودُعيت الحملة باسم “المُصدِّر” . وقد كُلّف اللواء الأستراليّ الحادي والعشرون بالقتال على الخطّ الساحليّ، وأوكِل إلى اللواء الأستراليّ الخامس والعشرون مهمّة التوجّه إلى رياق، للسيطرة على المطار والطريق الدوليّة، وأوكلت إلى القوّات الهنديّة والأستراليّة، وقوّات فرنسا الحرّة مهمّة احتلال دمشق
كان الصيف على الأبواب، والطقس حارّاً. وكانت المعركة الأولى في بلدة الناقورة، حيث عبر الجنود الأستراليّون الحدود في مجموعات صغيرة، وتسلّلت إحدى المجموعات إلى الطريق شمال رأس الناقورة. وتسلّلت مجموعة أخرى من 18 رجلاً وأربعة أدلاّء، إلى شمال رأس البيّاضة. وتصدّى الفيشيّون للجنود المتسلّلين، لكنّ الأستراليّين أسكتوا المدافع، واستولوا على بعضها، كما استولوا على عدّة شاحنات كانت تسير على الطريق الساحليّ، وأخذوا من فيها أسرى، كما أسروا في بلدة الناقورة نفسها 65 جنديّاً فرنسيّاً
ودارت معارك في داخل الجنوب، بين التلال الوعرة والصخريّة، التي يسهل الدفاع عنها، ولكنّ هذه الصخور لم تقف عائقاً أمام الجنود الأستراليّين القادمين بأغلبهم من البراري الأستراليّة. وأبدى الجنود الأستراليّون بسالة نادرة في معارك اللبونة، علما الشعب، الخيام، عيترون، يارون، بنت جبيل، عين إبل، وتبنين، فيما كانت السفن البريطانيّة، والطائرات الفرنسيّة والأستراليّة تقصف المواقع الفيشيّة حول مدينة صور، وقرب نهر الليطاني
كما خاض الأستراليّون معارك حاسمة في مرجعيون وجزّين، بدءاً من اليوم العاشر من حزيران، وأسر الأستراليّون في موقع الخربة قرب مرجعيون 56 جنديّاً فيشياً، غير أنّ المواجهات في مرجعيون وجزّين لم تكن سهلة، فقد قام الفيشيون بهجوم مضاد، استعادوا فيه البلدتين، وسقط عدد كبير من الجنود الأستراليّين بين قتيل وجريح، إلاّ أنَّ القوّات الأستراليّة شنّت هجوماً آخر، فسيطرت على البلدتين من جديد. ثمّ سقطت حاصبيّا وراشيّا الفخّار، والهباريّة
ويروي المواطن اللبناني عازار زغيب، من راشيّا الفخّار، تفاصيل مهمّة عن دخول الجنود الأستراليّين إلى البلدة، فيقول: “إشتعلت المعركة عندما هاجمت القوّات الأستراليّة البلدة من ناحية الخندق (الجنوب الغربي)، وصعدت آلياتهم عبر طريق الخلّة- كروم العين، حيث دارت معركة كبيرة عند بيت فارس علوي، أوّل البلدة، انهزم على أثرها الفرنسيّون (الفيشيّون) وهربوا مع حلفائهم… وتعرّضوا أثناء انسحابهم لنيران القوّات الأستراليّة، فقتل ثمانية من الشركس، عند محافر بيت صليبا، فيما وقع عدد لا بأس به من الفرنسيّين أسرى وقتلى، في كمين نصبه الأستراليّون للقوّات المنسحبة، عند صنوبر راشيّا الفخّار، وكان يرافق القوات الفرنسيّة المنسحبة أحد أبناء بلدة الخريبة، نمر دخل الله… أمضى الأستراليّون والإنكليز يومهم في البلدة ورحّب بهم الأهالي، أملاً بأن الحرب قد انتهت، وخصوصاً أنّهم لم يكونوا قد اعتادوا معارك الكرّ والفرّ تجري بين البيوت والمنازل، ولكن ما كادت الشمس تغرب، حتّى انسحب الحلفاء جنوباً في اتجاه بلدة الماري، وتقدّمت القوّات الفرنسيّة (الفيشيّة) لتحتل البلدة، انطلاقاً من مواقعها في بياضة حاصبيا. وبدأت القوات الفرنسيّة (الفيشيّة) فور عودتها باضطهاد الأهالي، وإهانتهم بتهمة أنّهم تعاونوا مع قوّات الحلفاء والإنكليز وساعدوهم، وكانوا السبب في هزيمة القوّات الفرنسيّة”(29)
ويبدو من كلام عازار زغيب أنّ المواطنين اللبنانيّين تعاونوا بشكل وثيق مع الأستراليّين، أثناء دخولهم إلى راشيّا الفخّار، أو انسحابهم منها بعد ذلك. وقد نكّل الفيشيّون بالأهالي، وقتلوا عدداً منهم بتهم ملفّقة، انتقاماً منهم، وأخذوا بعضهم للعمل في نبش القبور ودفن القتلى. وهرب بعض الأهالي إلى مواقع القوّات الأستراليّة في الماري والمجيديّة، ليختبئوا من أعين الفيشيّين. لكنّ التنكيل لم يدم طويلاً، فقد سيطر الحلفاء على برج الملوك، والقليعة، ومرجعيون، وأخذوا يقصفون المواقع الفيشيّة في راشيّا وحاصبيا
وصادفت القوّات الزاحفة صعوبة في بعض الأمكنة، حيث لا يمكن للآليّات أن تتحرّك بسهولة، فظهرت على الفور مجموعة من الجنود باسم “عصابة كيلّي”، تيمّناً بالسارق الأستراليّ الشهير نيد كيلي، وكانت تتكوّن من 40 خيّالاً، وقام عناصرها بعمليّات الدوريّة والمراقبة على التلال، لتسهيل حركة الآليّات(30)
وللدلالة على صعوبة المعركة في مرجعيون وجزّين، تذكر المصادر الاستراليّة أنّ ستّة جنود أستراليّين قاموا بعمليّة تسلّل، في الرابع والعشرين من حزيران 1941، قرب الموقع 1322، عند مرتفعات جزين، وقد عاد واحد منهم حيّاً، هو فيك هولدكروفت. وقرّر الناجي الوحيد في اليوم التالي العودة إلى موقع المعركة، للعثور على رفاقه، فرفض القائد الميدانيّ إعطاءه الإذن بالتسلّل إلى وراء خطوط العدوّ، بسبب كثافة النيران الفيشيّة، لكنّه فيما بعد، انضمّ إلى فريق للبحث، وعاين الفريق التلال المحيطة بالموقع 1322، فوجدوا عدّة جثث، لكنّ أيّاً من الأستراليّين الخمسة لم يتم العثور عليه. وتضاربت الأخبار بشأن المقفودين، فاعتبروا أولاً جرحى، ثمّ مفقودين، ثمّ قتلى(31)
وفي أواسط حزيران، أخذ الجنرال الأستراليّ جون لافاراك القيادة من الجنرال هنري ويلسون، فقرّر أن يُركِّز هجوم القوّات الحليفة على الشريط الساحليّ، واجتياز نهر الدامور(32)
وجرت أوّل مواجهة برّيّة على الساحل قرب رأس الناقورة، حيث أُطلقت النار على الجنود الأستراليّين من أحد المباني، فسارع الأستراليّون واحتلّوه، وسمعت قوّات فيشي صوت إطلاق
الرصاص، فانطلقت إلى الموقع، وراحت تستهدف الأستراليّين بمدفع رشّاش، لكنّ جنديّاً أستراليّاً تمكّن من تدمير المدفع بقنبلة يدويّة، وفي ساعات قليلة، أسرَ الأستراليّون مئة جنديّ، واحتجزوا ستّ آليّات وأكثر من ثلاثين حصاناً(33)
وعمد الفيشيّون إلى تدمير جسر الليطانيّ، في محاولة يائسة لوقف تقدّم القوّات الزاحفة. واعتمدت القوّات الحليفة على عمليّة إنزال من البحر لتطويق الفيشيّين، لكنّ السفينة الحربيّة البريطانيّة كارلايل لم تتمكّن من إنزال الجنود، بسبب الرياح العاتية. وفي الليلة التالية تمَّ إنزال المغاوير، عن طريق الخطأ، قرب أحد المواقع الدفاعيّة الفيشيّة، فتضعضعت عمليّة الإنزال
وبدا أنّ اجتياز الليطاني هو المفصل الأساسيّ للانتصار في حرب لبنان، فقرّر الجنود الأستراليّون العبور بقوارب من المطّاط إلى الضفّة الشماليّة للنهر. وقطع الأستراليّون أسلاك الهاتف عن الأعمدة، لمدّ شريط من الضفّة الجنوبيّة لليطاني إلى الضفّة الشماليّة، فيتمسّك به الجنود أثناء تجذيفهم في النهر، لئلا تجرفهم المياه
وكانت هناك حاجة إلى متطوّع من الجنود، ليسبح إلى الضفّة الشماليّة، ويربط الشريط بجذع شجرة، فتطوّع الجنديّ الأستراليّ أي. سي. هادّي لهذه المهمّة، وقال إنّه الأكثر مهارة في السباحة، وما كاد يسبح أمتاراً قليلة، وهو ممسك بالشريط، حتّى سقطت بقربه قذيفة معادية، لكنّه تابع مهمّته بنجاح وهو ينزف(34)
وتبعت مجموعة من الجنود رفيقهم، وبدأ آخرون عمليّة تغطية ناريّة لزملائهم. وبعد مواجهات عنيفة، تمكّن الأستراليّون من نقل قواتهم إلى الضفّة الشماليّة للنهر، لكنّهم خسروا العديد من الجنود. وكلّفت تلك المعركة الحلفاء 400 قتيل، وسقط عدد أكبر من قوات فيشي، وأسر الاستراليّون أكثر من 100 جندي وخمسة ضبّاط فرنسيين(35)
وساعد في احتلال جسر الليطانيّ نزول قوّة أستراليّة قادمة من قبرص على الساحل اللبنانيّ، وكان عدد أفرادها 800 عنصر، احتلّوا من الخلف نقطة مساندة فرنسيّة مهمّة في القاسميّة… وتقدّم الأستراليّون شمال الليطاني بكلّ سهولة من قمّة إلى قمّة(36)
وبعد اجتياز نهر الليطاني، تداعت خطوط الدفاع الفيشيّة في الجنوب، فسقطت عدلون، أنصاريّه، الصرفند، خان سعدى، ووادي الزاهراني، بعد مناوشات متفرّقة. كما فتحت معركة الليطاني الطريق أمام القوات الحليفة، لتحاصر الدامور، ووقعت مواجهات عنيفة في ضاحيتيْ البوم، والعتيقة، القريبتين من الدامور، وسقط في تلك المواجهات 27 جنديّاً أستراليّاً، وجُرح 47 منهم
وبقيت صيدا بعيدة عن مسرح المعارك من التاسع من حزيران حتّى الثالث عشر منه، حين تقدّمت قوّات أستراليّة لتستولي على وادي أبو زهر، على بعد ميلين إلى الشمال من صيدا، ثمّ سقطت درب السيم، والميّة وميّة، وانفتحت الطريق إلى الصالحيّة، فسبلين. وفي اليوم الرابع عشر من المعرك سقطت كفرحونة، فوقفت النساء في الشوارع يرحّبن بالجنود ويزغردن(37)
ويذكر الباحث ستيفن لونغريغ أنّ القوّات الأستراليّة، المشاركة في الجيش البريطانيّ، كانت تحتلّ الموقع تلو الآخر، حتّى هدّدت الدامور على بعد عشرة كيلومترات إلى الغرب من بيروت(38)
والواقع أنّ نهر الدامور كان عائقاً آخر، أمام تقدّم القوّات، فقرّر لافاراك الالتفاف من جهتي الشرق والشمال على الجسر، فانقضّ الجنود الأستراليّون على برجا، والسعديّات، وكان الجنود الفيشيّون على تلّة 394، فوق الدامور، فتسلّلت إليهم مجموعة من الجنود الأستراليّين، وأسرت خمسة منهم، واحتلّت التلّة، ثمّ التفّت على الدامور من جهة الشمال، وهذا الالتفاف عجّل في سقوط الدامور، ودير الناعمة، في التاسع من تموز، بعد قتال استمرّ 36 ساعة، كان الأعنف خلال الحملة على لبنان… ثمّ تبع الجنود الأستراليّون القوّات المنسحبة إلى خلده، تحت غطاء من القصف المدفعيّ الحليف
وقام الجنود الأستراليّون بنحت لوحة تذكاريّة، في تموز 1941، قرب الخطّ الحديديّ في الدامور، لتمجيد مشاركتهم في معركة تحرير لبنان وسوريا
وبعد سقوط الدامور وخلده، أصبحت بيروت على مرمى حجر من القوّات الحليفة. وقد قصفت الطائرات الحليفة منطقة المرفأ، فطلب الرئيس اللبنانيّ ألفرد نقّاش إعلان بيروت مدينة مفتوحة، لكنّ دانتز أصرّ على مواصلة الحرب. وبعد وقت قصير اكتشف أنّ ميزان القوى لم يعد لصالحه، فطلب الفيشيّون توقيع اتفاقيّة لوقف إطلاق النار في ليل 12 تموز. ودخل الجنود الحلفاء مدينة بيروت في 15 تمّوز، وأقاموا عرضاً عسكريّاً في ساحة الشهداء، احتفاء بالانتصار.
واستغرقت معركة تحرير لبنان من القوّات الفيشيّة 34 يوماً، وكلّفت الجيش الأستراليّ 416 قتيلاً، و1136 جريحاً. وكان أول ضحيّة أستراليّ في هذه الحملة الجندي نيقولاس كوري، وقد قتل في 20 حزيران(39)
وأقام الأستراليّون عدّة معسكرات في لبنان، منها واحد في عين الرمّانة، وكان مقرّاً لقيادة القوّات الأستراليّة، وآخر في طرابلس، وثالث في دير مار انطونيوس – الجديدة – على الطريق بين زغرتا وإهدن. ويخبر العجائز ممّن يتذكّرون تلك الحقبة أنّ الجنود الأستراليّين كانوا ودودين، ويقدّمون الأطعمة إلى السكّان الفقراء، وقد اعتاد بعض أهل الشمال، من قرى بان، وكفرصغاب، وكفرياشيت، وبشرّي وزغرتا على العمل في المعسكرات الأستراليّة، في صناعة الخيَم، وحفر المتاريس للدبّابات، وغسيل الثياب مقابل النقود والطعام
ويذكر جورج خليل، من قرية كفرحلدا، في قضاء البترون أنّه عمل مع الجيش الأستراليّ في طرابلس، وكان يمارس الرياضة مع الجنود، وأقنعه أحدهم بالهجرة مع أسرته إلى أستراليا(40)
وكان الجنود الأستراليّون يزورون البيوت، حاملين علب اللحم والمشروبات، ويتناولون الطعام مع السكّان. كما أنّ بعضهم كانوا من أصول لبنانيّة، وكان لديهم أقارب في القرى
وافتتح الجيش الأستراليّ مدرسة للتزلّج في منطقة الأرز بشمال لبنان، في 15-12-1941
، وكان الغرض من إنشاء تلك المدرسة تدريب 160 جنديّاً أستراليّاً من كلّ فرقة في الشرق الأوسط على التزلج والقتال وسط الثلوج. وتحتفظ وزارة الدفاع الأستراليّة بصورة تذكاريّة لستّة جنود أستراليّين، وهم يستعدّون للتزلّج أمام تلك المدرسة. وتحوّلت هذه المدرسة فيما بعد إلى مركز جبليّ للجيش اللبنانيّ خاتمة
هكذا يتبدّى لنا بوضوح أنّ أستراليا قد لعبت دوراً أساسيّاً، وبالأخصّ على المستوى العسكريّ، في تحرير لبنان خلال الحربين العالميّتين: الأولى والثانية. وقد ضاعت معالم هذا الدور، وراء غشاوة من التحالف العرقيّ، والسياسيّ، والاستراتيجيّ بين أستراليا وبريطانيا
ولم يلاحظ الكثير من المؤرّخين أنّ القوّات الاستراليّة كانت تشكّل العمود الفقريّ للجيش البريطانيّ، ولعلّها قامت بأكثر العمليّات الحربيّة خطورة في لبنان، وتكبّدت خسائر فادحة في الأرواح؛ ففي بيروت مثلاً، توجد مقبرة خاصّة بشهداء الحرب، وفيها قسم خاصّ بالجنود البريطانيّين الذين قتلوا في الحرب العالميّة الأولى، إلى جانب رفاقهم الأستراليّين. ويبلغ عدد الشهداء الأستراليّين المدفونين في مقبرة بيروت 373 شهيداً. وفي مدينة صيدا توجد مقبرة أخرى، دفن فيها 34 جنديّاً استراليّاً. أمّا في مقبرة شهداء الحرب بمدينة طرابلس (الميناء)، فقد دفن 20 جنديّاً أستراليّاً(41)
ويعود تاريخ مقبرة طرابلس إلى عام 1895، عندما اصطدمت السفينة الحربيّة كامبردون بالسفينة فيكتوريا في البحر المتوسّط، فنقل ستّة من البحّارة القتلى، ودفنوا في المقبرة. وفي الحرب العالميّة الأولى، لم يدفن أيّ أستراليّ هناك. أمّا في الحرب العالميّة الثانية، فقد ضمّت المقبرة رفات 100 جنديّ حليف من المشاة والطيّارين
وعلى أيّة حال، فإنَّ من الواجب الاعتراف بتضحيات “الحفّارين” الأستراليّين، في عمليّات الحرب والسلام، فإلى هؤلاء كانت توكل مهمّات عسكريّة صعبة، ولا يزال الشعب اللبنانيّ يقدِّرُ بسالتهم في القتال، وتصميمهم على الانتصار في المعركة، ولا تزال ذكرياتهم تنعش خواطر اللبنانيّين، وتقوّي أواصر العلاقة الروحيّة القائمة بين وطن الأرز: لبنان، ووطن المحبّة والأبواب المفتوحة: أستراليا
المصادر والمراجع- أثبتت حسب ورودها في المتن
(1)Joan Beaumont, Australia’s War 1939-1945, Allen & Unwin, Sydney, 1996, P. 3
(2) كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، بيروت، 1991، ص204
محمود خليل صعب، قصص ومشاهد من جبل لبنان، 1999، ص82(3)
علي عبد المنعم شعيب، تاريخ لبنان من الاحتلال إلى الجلاء 1918- 1946، دار الفارابي، بيروت، 1994، ص 162-163(4)
يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصليّ، دار النهار للنشر، 1986، ص47(5)
(6)Alan Palmer, Victory 1918, Weidenfeld & Nicholson, London, 1998, P. 232.
(7)Marjorie Barnard, A History of Australia, Angus and Robertson, Sydney, 1967, P. 489.
(8)Phoebe Vincent, My Darling Mick: The life of Granville Ryrie, 1865-1937, National Library of Australia, Canberra, 1997, P.188.
(9)Alan Palmer, Victory 1918, Weidenfeld & Nicholson, London, 1998, P. 244.
(10)Charles Bean, Official History of Australia in the War of 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P. 749.
(11) يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصليّ، ص47(11)
(12)Meir Zamir, Faisal and Lebanon Question 1918- 1920, in: Middle Eastern Studies. Vol. 27, N.3, July 1991, P. 405.
(13)Charles Bean, Official History of Australia in the War of 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P.776
(14)Ibid, P.776-777.
محمد كامل بابا، طرابلس في التاريخ، جروس برس، طرابلس، 1995، ص298(15)
(16)Charles Bean, Official History of Australia in the War 0f 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P. 738.
(17)Frederick Morley Cutlack, The Australian Flying Corps in the Western and Eastern Theatres of War 1914-1918, Angus and Robertson, Sydney, 1923, P. 169.
جورج فغالي، تاريخ جيش المشرق في لبنان، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت، 1997، ص 82(18)
سليمان تقيّ الدين، غسّان الغصيني وآخرون، بعقلين في التاريخ، دار النهار، بيروت، 2008، ص 96(19)
محمود خليل صعب، قصص ومشاهد من جبل لبنان، 1999، ص84(20)
م.ن، ص 86-87(21)
ينظر سامي ريحانا، تاريخ الجيش اللبنانيّ المعاصر، ج1، دار نوبليس، بيروت، 1996(22)
ص 92
يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصلي، ص114(23)
(24)Phoebe Vincent, My Darling Mick: The life of Granville Ryrie, 1865-1937, National Library of Australia, Canberra, 1997, P.190
(25)Charles Bean, Official History of Australia in the War 0f 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P.780.
(26)Ibid, PP.788-789-790.
جميل الدويهي، من ذكريات مشاركة القوّات الأستراليّة في حرب لبنان وسوريا أثناء الحرب العالميّة الأولى، التلغراف الأستراليّة، العدد السنويّ، 2000، ص46(27)
سامي ريحانا، تاريخ الجيش اللبناني المعاصر 1916-1946، ج4، نوبليس، بيروت، ص670(28)
(29)Rachaya Al Foukhar-History and Tales http: //www.rashaya-al-foukhar.com
(30)John Laffin & Mike Chappel, The Australians at War 1899-1975,Osprey Publishing, Oxford, 2002, P 19.
(31)Gavin Long, Ed., Australia’s War 1939-1945: Syria and Lebanon, June 1941, P.1
(32)Mark Johnston, The Australian Army in world War 2, Osprey Publishing, Westminster, 2007, P19.
التلغراف العدد السنويّ، ص 46(33)
م. ن(34)
م. ن(35)
سامي ريحانا، تاريخ الجيش اللبناني المعاصر 1916-1946، الجزء 4، ص 675-676(36)
(37)Gaving Long, Australia in the War 1939-1945, Vol.2, Australian War Memorial Publishing, 1952, P.389
(38)Stephen Hemsley Longrigg, Syria and Lebanon under French Mandate, Octagon Books, New York, 1972, P.313-314.
(39)Australian Lebanese Historical Society, Newsletter: The Australian Campaign in Lebanon of World War 2, Winter 2005, P.1 www.alhs.org.au.
(40)Ibid.
(41)www.australianwargraves.org/countries/Lebanese.php